الدرس الحسنى السابع

الدرس الحـني الـابع

جاء شهر رمضان عام/1995/وبدأت الدروس الحسنية ، وكنت اعكف في تلك الفترة على قراءة بعض كتب أمهات التصوف ، وشعرت بشوق إلى قراءة بعض ما كتبه السابقون الأولون من أعلام التصوف، ولم أجد فيما كتبه اللاحقون ما يثير اهتمامي ، وكنت ارفض الكثير مما كنت أقرأه أو أسمعه من أفكار وحكايات لابستقيم معظمها مع منهج السلف واصول العقيدة ، وكنت أقرأ بإعجاب سيرة البناة الأوائل من أعلام التصوف ومن رموزه الصادقة الذين كانت لهم مواقف صدق واستقامة ومعرفة بالله صادقة وفهم عميق للاسلام  ، وأضافوا الكثير إلى الفكر الصوفي، وأكرمهم الله بالمنازل الرفيعة، إلا أن الفكر الصوفي فيما بعد تخلله الكثير من الشوائب وسيطرت عليه الطقوس، وخاض أتباعه في بحار الرموز والأوهام ، واختلط أهل الصدق بأهل الادعاء , وابتعد بعض هؤلاء عن الشريعة، وكان لا بد من وضع ضوابط لمنع الانزلاق، وكنت أومن بأثر التربية الصوفية في ترسيخ المعاني الروحية و تعميق المشاعر الإيمانية، وكنت آخذ على الصوفية تغييبها للعقل أولاً وتقليلها من أهمية العلم ثانياً والتركيز على الطقوس والشكليات ثالثاً، وكنت أكثر غيرة على التصوف من دعاة التصوف ورموزه وأدعيائه ، ولكن كنت أريد التصوف الحق الذي ينهض بالهمم ويحض على الفضائل ويرسخ القيم الروحية ويرتقي بمستوى السلوك ويحرص على تذكية النفوس,   وهذا التصوف كنت أحبه والتزم به, وقد تربيت منذ طفولتى الاولى  فى ظل قيم التصوف ونشأت في بيت صوفي أصيل , وقد تعلمت منذ طفولتي أن تكون صوفيتي محمدية وليست طرقية وتستمد مصادرها من منهج النبي صلى الله عليه وسلم وتعتمد على إتباعه والاقتداء به , ومن اختار هذا المنهج فلا يمكنه أن يختار غيره من الطرق ذات الطقوس الصوفية ,  وعندما دعيت إلى إلقاء درس أمام الملك في الدروس الحسنية اخترت موضوعاً بعنوان أثر التربية النفسية في السيطرة على الغرائز الفطرية وحرصت على أن يكون الدرس متضمناً لبعض المفاهيم الصوفية وركزت على أهمية المجاهدات النفسية ولم أتحدث عن الأذواق والأحوال والمقامات ,ولم أخض في حقائق التصوف كما يراها أعلام التصوف ,وكان هذا الدرس هو البداية لإعداد كتاب عن التصوف الإسلامي كما أراه ,وكما يجب أن يكون , وقد جردت كتابي من كل ما يمكن أن يؤخذ على التصوف من شطحات  عير مبررة فى الاقوال والافعال , ولست مع الشطحات ولا أرى أيّ مبرر لها , او فائدة ترجى منها , وما يخالف الشريعة منها فيحب ألا يسمح به , ولو سمحنا بقبول هذه الشطحات لوجدنا أنفسنا أمام مزالق خطيرة , ولأصبحت الشطحات مطية للجهلة لافساد العامة بما يخالف اصول العقيدة . ولا تصدر الشطحات عن عالم  بالشريعة قط , والغوص في المفاهيم الغيبية من علامات الجهل بالدين,  وركزت درسى على أهمية التربية النفسية والتفريق بين الأجسام والنفوس فالنفوس تقبل التربية وقبول الجديد , اما الأجسام فلا تقبل التربية والتغيير ثم تكلمت عن الخلق – بفتح الخاء- وهو صورة الطاهر والخلق – بضم الخاء -وهو صفة الباطن وتتركز التربية على الخلق للسيطرة على القوى الثلاث التي يملكها الإنسان وهي القوة العقلية والقوة الشهوانية والقوة الغضبية , والنفوس تبحث عن كمالها في حركتها الخارجية ,ولكل كائن كماله الخاص به ,ثم خضت في بعض الأمور الصوفية وأوضحت بعض المعاني الدقيقة المرتبطة بهذه التربية واهمها المجاهدات والرياضات الروحية التى تهدف الى طهارة القلوب , واستشهدت ببعض الحكم العطائية المرتبطة بهذا الموضوع , وقد أسعدني هذا الدرس وأتاح لي فرصة التأمل في كثير من المعاني الروحية الرفيعة ,  وكنت خلال الدروس الحسنية السبعة التي ألقيتها أمام الملك اشعر بمتعة كبيرة وكأنني أؤدي رسالة علمية ,وكنت أهتم باختيار الموضوع بما بلائم المجلس , ولم أشعر بأي قيد يقيدني فيما أقول , وكنت أختار الموضوع كما أشاء وأتكلم عن أي فكرة أريدها وأتناول كل ما أراه مناسبا للموضوع ,وكانت الثقة كبيرة فى جدية هذه المجالس , وكنت أكبر هذه الثقة الملكية , وأكبر هذه الحرية المتاحة لي ولكل المتحدثين في هذه الدروس سواء كانوا مغاربة أو غير مغاربة , ومن الطبيعي أن الإنسان هو الذي يقيد نفسه ويلتزم بما يجب الالتزام به من أدب الدروس والمجالس ..

وكان الملك بالرغم من كثرة مسؤولياته يعطي لهذه الدروس كل ما تستحقه من العناية و الاهتمام , ولا شيء كان يشغله عن هذه الدروس , وهذا يدل على مكانة هذه الدروس  فى المغرب وتمسك الملك  بها فى معظم امسيات شهر رمضان حتى أصبحت هذه الدروس من معالم المغرب في هذا الشهر ومن الطبيعي أن أشعر بعاطفة خاصة تجاه هذه الدروس وبشعور متميز، وخلال ثلاثين عاماً لم أتغيب قط عن حضور هذه الدروس إلا بعذر ، وعندما كنت أتغيب لعذر كنت أشعر بالحزن لذلك، وعندما عدت إلى حلب اضطررت للانقطاع عن هذه الدروس..

الدروس الحسنية في الذاكرة

ارتبطت الدروس الحسنية في ذهني بذكريات جميلة ، وستبقى هذه الذكريات حية في نفسي، وهي مصدر سعادة لي ، وكل حدث من أحداثها كان يشعرني بشيء ما في نفسي لااعرف تفسيره…..

وكان الملك يحب هذه الدروس ويحرص على حضورها يومياً قبل المغرب ويعطيها حقها من اهتمامه ,ويكرم المشاركين فيها من العلماء المغاربة وغير المغاربة ، وكان يفرح بدروسها ويعتبرها أمراً خاصاً به، ويأبى إلا أن يكون ضيوف الدروس الحسينية هم ضيوفه ويحرص على إكرامهم ، ويأمر رجال حاشيته المقربين أن بقبموا موائد الإفطار في بيوتهم  تكريما لهم وتعبيراً عن الرعاية ، ولا يرضى أن يتناولوا طعام الإفطار في الفنادق، وهذا يدل على احترام العلم والعلماء..

وفي إحدى السنوات أعطى الملك أوامره أن يكون المتكلمون في هذه الدروس في ذلك العام من علماء دار الحديث الحسنية، وقد شعرنا بالفرحة والرهبة وكان يريد أن يرى ثمرة هذه الدار في مجلسه، وتم اختيار جماعة من الحريجين ، وكانوا يشعرون  أنهم أمام اختيار صعب ، وأدى علماء الدار تلك الدروس وفق المنهج التقليدي المألوف لدى علماء المغرب والذي يركز على أهمية العناية بالأسانيد ودراسة أحوال الرجال، ولم يكن ما قدّم في ذلك العام في المستوى الذي كنت أطمح إليه، وفي اليوم الأخير من أيام الدروس ناداني جلالة الملك، وقال لي: لقد أسعدني ما سمعته من علماء الدار، وأنا فخور بهم ، وأشكرك لجهدك وعملك ، وقد أسعدني هذا الكلام وأشعرني بالمسؤولية، وكانت الدروس الحسنية ظاهرة ثقافية مغربية ذات جذور اصيلة ، واشتهرالمغرب بهذه الدروس الرمضانية، وكانت تعبر عن مدى ِاعتزاز المغرب بالثقافة الإسلامية واهتمام ملوك المغرب بالمجالس العلمية ، وعرفت باسم المجالس العلمية السلطانية ، وكانت قاصرة على علماء المغرب الذين كانوا يحضرون هذه المجالس ويناقشون في مجلس السلطان المسائل التي كانت تعرض أثناء الدرس، وأحيانا ًكانوا يختلفون وترتفع أصواتهم، وقد أشار الملك إلى ذلك في إحدى كلماته….

وكانت بعض الدروس هامة وعميقة ومفيدة، وبخاصة إذا تضمنت رأياً جديداً أو اجتهاداً أو اقتراحاً، وكنت أفضل أن تحافظ على شكلها التقليدي كدروس عفوية  وليس كمحاضرات تقرأ من الأوراق ,,وهذا يفقدها أهميتها ويجعلها مملة بالرغم من أن القراءة قد تكون مركزة وملمة بالموضوع إلا أن الدروس قد تكون مبسطة ومفهومة لدى عوام الناس الذين كانوا يتابعون هذا الدروس باهتمام كبير وملوك المغرب  مؤتمنون على هذه الظاهرة الرمضانية الفريدة التى لا يمكن أن تنجح في أي بلد آخر غير المغرب ولا أن تحظى بالاهتمام التي تحظى به فى المغرب , وحضرت هذه الدروس لمدة ثلاثين عاماً وقلما كنت أسافر في رمضان حرصاًمني على حضورهذه الدروس… وأعترف أن تلك الدروس هي التي شدتني فى البداية إلى المغرب ، وجعلتني أقرب إليه , وكنت أجد فيها صورة الماضي كما كانت في الذاكرة وهو أمر غير معتاد في عصرنا , وقد أحسن الملك الحسن الثاني في إحياء هذه الدروس وفي تطويرها وفي حضوره لمجالسها ، ولا تعقد هذه الدروس في غياب الملك ولاقيود على حرية المتحدث، وكنت ألاحظ أن الملك كان يضيق بالمبالغات في المديح ,  ولما بالغ احد المتحدثين بالدعاء لاسرة الملك غضب الملك وأمر ان يلتزم المتكلم بالدعاء المتعارف عليه, والملوك  يحبون المدح العاقل والصادق والمقنع , والمبالغة في المديح تسيء لصورة الملوك في نظر شعوبهم , ولم يعلق الملك على أي درس من الدروس سوى مرة واحدة عندما ألقى كلمة مطولة في التعليق على الدرس الذي ألقيته أمامه عام 1978 ,…..

وكانت بعض الأفكار التي تلقى في الدروس لا تعجب الملك وأحياناً قد تغضبه  بعض الافكار , ولكن لا أحد كان يشعر بذلك , وكنا نسمع ذلك من خلال ما يتردد من أصداء كل درس , وكان من عادة الملك إنه يجتمع مع بعض رجال حاشيته المقربين في ليالي رمضان وتجري في هذه المجالس الخاصة حوارات حول هذه الدروس وغيرها من الموضوعات العامة , اوأحياناً كان يحضر هذه الدروس  بعض الشخصيات التي كانت تزور المغرب وكان الملك يرحب بهم وينزلهم المنزلة اللائقة بهم,  وأذكر أن رئيس جمهورية دولة أسيوية صغيرة هي جزيرة مالديف طلب أن يلقى درساً في إطار الدروس الحسنية وقد استقبله الملك استقبال رئيس دولة وأنصت إلى درسه ..

 

 

مجلة دار الحديث الحسنية

منذ السنة الأولى لعملي في الدار بدأت في إصدار مجلة علمية تهتم بالبحوث والدراسات الإسلامية وكنت اشعر بصعوبة ذلك وكانت المجلة تحتاج لجهدٍ كبيرٍ ولم نكن نملك الإمكانات الضرورية لتنفيذ هذه الرغبة , وبدأت الفكرة تلح علي وتتردد في ذهني وأخيراً شرعت في تنفيذ الفكرة وأعددت المادة العلمية لذلك وكتبت مقدمة العدد الأول وكنت سعيداً بذلك وجاءت المقدمة معبرة عن الآمال التي كنا نشعر بها , وذكرت مواكب الخريجين وهم يؤدون دورهم في خدمة الثقافة الإسلامية

كان بعض من حولي لا يشجعني على إصدار هذه المجلة ويعتقد أننا لن نتمكن من الاستمرار فيها ,وكنت اعتمد على نفسي وبعض الزملاء , وأذهب إلى المطبعة لكي أتابع كل شيء في تصميم الغلاف الخارجي والتوزيع الداخلي ومراقبة البحوث ومراجعة بعضها وأدرك مسؤولية ذلك ولما رأيت المجلة في صورتها النهائية كانت فرحتي كبيرة , وقدمت أول نسخة من المجلة إلى الملك وتلقيت من السيد أحمد بنسودة مدير الديوان الملكي رسالة شكر وتقدير , واستمرت أعداد المجلة في الصدور وصدر ستة عشر عدداً , ولما توفي الملك الحسن رحمه الله كنت أعد العدد السادس عشر ولما كتبت مقدمة هذا العدد وجهت كلمة اخيرة  إلى الخريجين من أبناء هذه الدار أن يحافظوا على رسالة هذه الدار وأن يتابعوا طريقهم في خدمة الثقافة الإسلامية وأن يكونوا القدوة الصالحة والفئة المؤتمنة على استمرار أداء هذه الدار لرسالتها الثقافية لتكون الشخصية الإسلامية بكل مقوماتها وخصائصها  وكنت أدرك أن هذه المؤسسة قد أدت مهمتها في تكوين نخبة من العلماء متميزة ، وهم سيتابعون الطريق ، وسوف يحافظون على هذه الدار ، كي تظل شعلتها مضيئة، ولكي تكون ثقة المجتمع بها كبيرة، وكان هذا العدد هو العدد الأخير، وغادرت الدار قبل صدور هذا العدد ..

وتضمنت الأعداد الأخيرة بيانات توثيقية لكل ما يتعلق بنشاط هذه المؤسسة، وكنت أحرص على هذه البيانات لتوثيق النشاط المتعلق بالبحوث والأطروحات والمحاضرات والندوات وأسماء الخريجين وعناوين البحوث والحلقات الدراسية والنشاط الاجتماعي للدار ..

وتضم أعداد المجلة بحوثا هامة وبخاصة فيما يتعلق بالغرب الإسلامي، وإسهامه في خدمة الثقافة الإسلامية، ويمكن أن تعتبر هذه المجلة إحدى الموسوعات العلمية التي تضم بحوثاً قيمة عن التراث الإسلامي في المغرب والأندلس، سواء دراسة شخصيات أو موضوعات أو التعريف بالكتب القيمة

 وتضم هذه المجلة إلى مجموعة الكتب والأطروحات التي نشرت باسم هذه الدار، وهي مجموعة علمية سوف تغني المكتبة المغربية بصورة خاصة بما كتبه الباحثون من أبناء هذه المؤسسة .

 

 

مؤتمرات الخريجين

أسس الخريجون من دار الحديث الحسنية جمعية بعنوان جمعية العلماء خريجي دار الحديث الحسنية، وكان لها مجلس تنفيذي يشرف على نشاطات هذه الجمعية، وكانت تضم كل الخريجين ممن درسوا السنة والسنة الثانية وانتقلوا إلى قسم الدبلوم وأصبحوا مؤهلين  لتسجيل رسالة الدبلوم والدكتوراه ، ويجتمع الخريجون  تحت رعاية الملك  كل بضع سنوات ، وعندما تقرر الجمعية عقد مؤتمرها ترفع رسالة إلى الملك تستأذنه في ذلك ، ولا يمكن عقد المؤتمر إلا بعد أن يصل إذن الملك، وهو الذي يحدد المدينة التي يعقد فيها المؤتمر، ويكون المؤتمر في ضيافة الملك المادية وتحت رعايته، وكان المؤتمر يحظى باهتمام رسمي وشعبي كبير، وتشارك فيه السلطة الإقليمية كلها، وتقام حفلات التكريم باسم الوزير الاول ووزير الداخلية  ووزير التعليم العالي وعامل الإقليم والمجلس الإقليمي، ولا يمكن أن يتم هذا إلا بتعليمات من الملك ، وكان المؤتمر يضم قرابة أربعمائة خريج من مختلف المدن المغربية، وكانوا يكرّمون كل التكريم…

وكنت أحضر هذه المؤتمرات، وكان يحضرها الأستاذ أحمد بنسودة مدير الديوان الملكي، وكنت ألقي كلمة في الجلسة الافتتاحية أتكلم فيها عن الدار وعن رسالة الخريجين، وكنت أفتخر بهذا الجيل الشاب المؤتمن على رسالة الدار الثقافية والإسلامية , وينتخب  المؤتمر كاتب عام للجمعية وقد تناوب على هذا المركز كل  من الدكتور محمد يسف والدكتور السعيد بوركية ، وقد كانت الجمعية تقوم بنشاطات ثقافية هامة ، وتنظم ندوات ثقافية، وتكرم بعض أعلام المغرب من أمثال الأستاذ محمد مكي الناصري والشيخ الفاروقي الرحالى عميد كلية اللغة العربية بمراكش، وندوات علمية أخرى ومحاضرات , وكانت هذه المناسبات  تعقد بدار الحديث الحسنية، وكنت أشجع الجمعية وأقف معها في كل مطالبها في الدفاع عن حقوق الخريجين، وكانت الثقة كبيرة بين الدار والجمعية، وكان كل من الأستاذين محمد يسف والسعيد بو ركبه من أساتذة دار الحديث ، ولم نختلف على أي أمر، وكنت مع الخريجين في كل المواقف، وأدافع عنهم ولا أسمح أن يمس أحدهم بسوء ، وكانت الدار ترحب بكل أبنائها إذا فصل من عمله لأسباب غير مبررة وتجد له مكاناً في رحابها، وقد رشح عدد من أبنائها لتولي مناصب علمية،  فقد انتدب الدكتور محمد يسف لكي يكون عميدا ًلكلية الشريعة بفاس وقد كان ناجحا فى مهمته ، ولما انتهت مهمته عاد إلى الدار , وانتدب  الأستاذ حسين وجاج لكي يكون عميداً لكلية الشريعة بأغادير، وكنت أفرح بذلك , وأشجعهم على قبول هذه المناصب ، واوصيهم أن يكونوا رموزاً علمية راقية المستوى في سلوكها وأن يحافظوا على كرامة العلم والعلماء بمواقفهم الشجاعة والنزيهة، وإلا يتنازلوا عن كرامتهم أبداً، وألا يسترضوا أي مسؤول مهما كانت درجته بتنازل عن الكرامة وألا يقفوا بباب أحد من رموز السلطة , وأن يزهدوا في المنصب إذا كان ثمنه الانتقاص من كرامة العالم ، فلا كرامة لمن يقبل التنازل عنها، ولا تكبر المناصب إلا بالكبار ، وما اضاع كرامة العلم إلا صغار النفوس ممن فرطوا بكرامتهم..

وكانت تربطنى صلة مودة ومحبة مع جميع الخريحين وكنت اعتبر الدار فى خدمة ابنائها , ولايحوز لها أن تخطئ مع احد منهم ولو أخطؤوا معها , فما قيمة الدار بغير ابنائها, وقد كانوا أوفياء محبين معتزين بانتمائهم اليها ,وكنت على تواصل دائم معهم فى المناسبات , وكانوا فى غاية النبل والادب والوفاء وهذا مما كان يسعدنى ..                                                       

أهم أصدقائي من خريجي الدار

كان جميع الخريجين من أصدقائي، ولم أميز في عاطفتي بين شخص وآخر، ولم أقرّب أحداً وابعد آخر، وكان الجميع سواء ، وكلهم يلقى نفس المعاملة …  إلا أن البعض كان على صلة بي بسبب وجوده في الرباط أو لأنه كان يتردد أكثر من الآخرين على الدار ، أو يعمل كأستاذ فيها، أو أشرفت على رسالته،..

 ومن أبرز هؤلاء الذين مازلت أذكرهم بسرور وأعتز بهم وهم مفخرة لهذه الدار وأد عو الله تعالى ان يرعاهم ويوفقهم:

ـ الدكتور محمد يسف، وكان مديراً للشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف، ثم أصبح أستاذاً بالدار ثم عميداً لكلية الشريعة يقاس، ثم أميناً عاما للمجلس الأعلى  للمجالس العلمية، وهو أخ وصديق وشاركت في مناقشة أطروحته عن ” المصنفات المغربية في السيرة النبوية ” وطبعت الدار هذه الأطروحة، ويتمتع بشخصية متميزة وخلق رفيع، وكنت أحبه وأقدره، وكنت أثق بحسن فهمه وسعة أفقه , وكان يتميز بالخلق والادب والحكمة  ويعتز بكرامته ..

ـ الدكتور يوسف الكتاني بن مولاي إبراهيم شيخ الطريقة الكتانية، وكان الدكتور يوسف من أعز أصدقائي وأقربهم إليّ،وكنا نلتقي باستمرار ونحضر بعض المؤتمرات معاً، وكان محباً لي من البداية إلى النهاية ، وكانت تربطنى صلة مودة بالاسرة الكتانية ، وكان والده مولاي إبراهيم من الأولياء الصالحين وكنت اتيرك به واستأنس بحديثه ، وكان يحبني وأحبه ، وقد أعد الدكتور يوسف أطروحة بعنوان ” مدرسة  الامام البخاري في المغرب ”  ورباعيات البخاري , وأسس جمعية الإمام البخاري وأصدر مجلة بعنوان  السنة النبوية ,  كما أصدر كتبا أخرى, وكان يملك فصاحة وشجاعة وسعة أفق ويحسن العلاقات الاجتماعية  , وكان صريحا في مواقفه ونقده لكل ما يراه سيئا  وهو يمثل الشخصية المغربية الأصيلة المعتزة ببالحصوصيات المغربية..

الدكتور عمر الحيدى وهو من أبناء الريف  في الشمال , وكان طالبا جادا وأعجبت بذكائه ونشاطه العلمي وحسن فهمه وتعلقه بالفقه المالكي , وطلبت منه أن يعد أطروحته عن العمل في المذهب المالكي وأشرفت على هذه الأطروحة , ثم اخترته لكي يكون أستاذا بالدار وكان من أنشط الباحثين وأكثرهم  انتاجا , وكنت أعتمد عليه في الأعمال العلمية وأثق به  ولم يخب ظني فيه , وزادت مكانته في نفسي  وأعجبت بما ألفه من كتب عن تاريخ المذهب المالكي  وكان يشارك في المناقشات العلمية والندوات ببحوث قبمة وكفاءة عالية , وكان يساعدني في الإشراف على المجلة , وكان ذكيا وأديبا وعالما وصاحب خلق ووفاء ,ويعتز بكرامته  ولا يحسن المجاملة و النفاق وبضيق بذلك , وهو نموذج جيد للعلماء المغاربة ,  وانتقل إلى رحاب الله  في سن الخمسين  وترك أطفالا صغارا والتمست من الملك أن يكرم أسرته بمعاش استثنائي  فاستجاب الملك لذلك , وهذه من خصال الحسن الثاني الرفيعة, وكان يسجل باستمرار كل الوقائع  والأحداث المرتبطة  بدار الحديث وقد عاشها بنفسه,  وأكد لي أنه سيكتب كتابا يسجل فيه كل الأحداث كما رآها و الدور العلمي و الثقافي فهذه  المؤسسة خلال هذه الفترة …

الدكتور السعيد بوركيه من مراكش، وهو أستاذ بدار الحديث وانتخب كاتباً عاماً لجمعية الخريجين، وأعد أطروحته بإشرافي عن الآثار الاجتماعية والثقافية  للاوقاف في المغرب، وطبع هذا البحث، وكان من أصدقائي المقربين ، ويتمتع بأخلاق عالية، وطيبة نفس  ومحبة للخير  وهو نبيل الخلق,  ويحظى بمحبة إخوانه ويحب خدمتهم والوقوف إلى جانبهم , وله مواقف جيدة وشجاعة في خدمة الدار والدفاع عنها , ولازمني من بداية عملي إلى نهايته، وكنت أثق به وأقدره..

الدكتور نوري معمر من تطوان، وهو الذي ناقش أول أطروحة دكتوراه بدار الحديث عام 1978، وهي الأطروحة التي أثارت أزمة كبيرة، وكادت أن تذهب بالدار كلها، وكان عنوان الأطروحة (بقي بن مخلد) مؤسس مدرسة الحديث في الأندلس, وأعد رسالة الدبلوم عن ابن وضاح القرطبي وكنت رئيس اللجنة التي ناقشت أطروحة الدكتوراه , وكان يدرس علم رواة الحديث بالدار ، وهو شخصية علمية وباحث صبور على البحث، وكنت اقدره لخصاله الأخلاقية، وشجعته على طبع كتبه وكتبت له المقدمة التى تعرف به، وكان متعاوناً معي في البحث العلمي، والمشاركة في المناقشات، وكان قليل التواصل مع الناس , ويعكف على قراءة الكتب والمراجع، وهو حجة في معرفة علماء الأندلس الأوائل في عهد مؤسسى مدرسة الحديث في الأندلس..

الدكتور عبد السلام الادغيري من منطقة الريف في شمال المغرب، وهو أستاذ بدار الحديث، وأعد أطروحته عن حكم الأسرى في الإسلام، وكان يدرس قانون الأسرة، وهو باحث جيد ويتمتع بشخصية نشيطة ، وكان له دور ايجابي في الأزمات  ، وهو نشيط في حركته الاجتماعية، وكان صديقاً لي ورافقنى منذ البداية إلى النهاية..

الدكتور علال الخيارى الهاشمي وهو فاس، وكان أستاذاً بكلية الشريعة ثم انتقل إلى الدار، وأعدّ أطروحته بإشرافي عن منهج الاستثمار المشروع في الفقه الإسلامي، وطبع هذا البحث، وكان يشرف على الموسم الثقافي في الدار، وهو نشيط في العمل الثقافي، وله مشاركات ثقافية في الأدب والشعر, وهو خلوق ومهذب ولطيف المعشر، وكنت أقدره لخصاله ولنشاطه ولأخلاقه..وله نشاط ثقافي وأدبي في الحياة الثقافية المغربية..

الدكتور حسين التأويل، أستاذ بدار الحديث، وأعد أطروحته عن (فقه الصحابة السبعة ) وكان يدرّس مادة أصول الفقه، وهو عالم ومن أسرة علمية، ويتمتع بشخصية حادة وجيدة، وكان متعاوناً معي بشكل جيد، إلا أنَّه كان حاد الطباع مع زملائه وطلابه وكثير الانفعال فى المناقشات ..

الأستاذ حسين وجاج  :كان أستاذاً بالدار، وهو من علماء منطقة سوس في جنوب المغرب، وهو من العلماء الذين يحظون بمكانة شعبية كبيرة في منطقة سوس  وهو فاضل وطيب النغس وفى غاية التهذيب ويحسن فهم العلاقات الانسانية، وشارك في العمل السياسي، وهو عالم جيد في الفقه المالكي ، ويغلب عليه المنهج التقليدي فى فكره واسلوبه ، وأعد بحثاً عن تاريخ دور الحديث في الإسلام، وعين عميداً لكلية الشريعة باغادير، ثم عينه الملك الحسن الثاني عضواًفي الأكاديمية المغربية، وكلفتني الأكاديمية أن ألقي خطاب الترحيب به في الأكاديمية, وتربطنى صلة جيدة به منذ البداية , وزرت اغادير والمدارس العتيقة بصحبته ..  

الأستاذ عبدالله الكرسيفي، من علماء منطقة سوس ، وهو عالم الجنوب والموثوق به لدى مجتمعه لسوسي، ويحترمه كل أهل سوس من البربر الشلوح الذين اشتهروا بالتجارة وهو شيخهم الروحي وعالمهم الموثوق بعلمه, وعين أول عميد لكلية الشريعة باغادير ، ثم عين عضواً في الأكاديمية المغربية، وكان صديقاً لى, وكنت أحبه وأقدره, وكان طيب النفس متسامحا خلوقا صوفي المشرب والتربية، وكانت بيننا مودة خاصة , وله أوراد على الطريقة التيجانية ، وكان تقياً صالحاً، ولا يخلع ملابسه المغربية أبداً ويعتز بملابسه هذه فى كل المناسبات …

الدكتور إبراهيم بن الصديق الغماري من طنجة، وهو ابن الأسرة العلمية الغمارية المعروفة بشمال المغرب، وهي أسرة اشتهرت بالحديث، وقد أشرفت على أطروحته في علم العلل، وكان عالماً في الحديث وتقياً وصالحا وكنت أحبه وأقدره وهو من العلماء الذين يفخر المغرب بهم , وتحظى اسرته باحترام كبير ,وكان فى غاية الادب والخلق والاستقامة  وكنت استشيره فى مسائل علم الحديث, وتولى منصب رئيس المجلس العلمي في طنجة وعرضت عليه ان ينتقل للتدريس فى دار الحديث واعتذر بسبب السفر ..

الدكتور أحمد أكيزيري  أستاذ بدار الحديث، وأشرفت على رسالته في موضوع: منهج الجعبري في كتابه كنز المعاني في شرح حرز الأماني، وهو مختص بعلم القراءات، وكان شخصية جادة ويعمل في مجال البحث العلمي، وكان صديقاً وأخاً , وكنت أقدره واثق بعمله العلمي فى التدريس والاشراف..

الدكتور شبيهنا جمداني ماء العينين، ابن أسرة ماء العينين العلمية في الصحراء المغربية، وقد أشرفت على أطروحته في موضوع ” مدى تأثر مصادر الالتزام في القانون بالشريعة الإسلامية ” وكان صديقاً مخلصاً ومستقيماً،وكنت أقدره وهو سيد فى اسرته  وعرفت الكثير من ابتاء هذه الاسرة العريقة فى الجنوب,  وهو عضو في الديوان الملكي، وعضو في المجلس الدستوري ..

الدكتور عبدالكبير العلوي المدغري، وزير الأوقاف لمدة طويلة ومن ابناء الدار وهو عالم ومفكر وصاحب رؤية اصلاحية وملتزم بالثوابت الاسلامية وله مواقف فكرية وسياسية شجاعة  ,وكانت اطروحته دراسة وتحقيق كتاب الناسخ والمنسوخ لابن العربي، وكان محباً للدار، وناجحاً في عمله الوزاري ، ومشاركاً في النشاط الثقافي العام , ويملك شخصية جيدة وقوية ومقدامة ومتحدية, وقدرات متميزة فى العمل السياسى ..

الدكتور إدريس خليفة، من تطوان ..تولى عمادة كلية أصول الدين بتطوان ورئاسة المجلس العلمي فيها ، وكان يتمتع بشخصية جيدة وهادئة وحكيمة , وكنت أقدره وأشجعه،, وكنت مشرفاً على أطروحته في موضوع الحركة الثقافية والعلمية بتطوان في عهد الحماية..وهو مؤهل للمسؤلية ويملك الحكمة التى تمكنه من النجاح…

الدكتور الحسن العبادي، من علماء سوس وتولى منصب مساعد  عميد كلية الشريعة بأغادير، وقد أشرفت على أطروحته في موضوع ” فقه النوازل في سوس ” وكنت أقدره لنشاطه العلمي , واطروحته قيمة  وقد طبعت , ويتميز اهل سوس بالجدية والاستقامة والدين ومحبة العلم والعلماء ..

الدكتور محمد الحبيب التيجكاني من تطوان، وهو أستاذ بكلية أصول الدين بتطوان، وأشرفت على رسالته بعنوان ” الإحسان الإلزامي في الفقه الإسلامي ” وهو مسلم ملتزم و صاحب فكر متميز وله مواقف شجاعة ، وهو من  الدعاة  المخلصين الصادقين الذين يحظون باحترام طلابهم ومجتمعهم.  

الدكتور محمد بنيعيش  من تطوان وهو أستاذ بكلية أصول الدين وأشرفت على أطروحته بعنوان مدرسة الحافظ ابن عبد البر في الحديث والفقه , وهو باحث جيد وأعد اطروحة قيمة وكنت مسرورا باشرافى على بحثه..

الدكتور أحمد العمراني،استاذ بدار الحديث  وهو من خيرة الخزيجين علماً وثقافةً واستقامة، وادبا  وكان مساعداً لى  في كثير من الأعمال العلمية والادارية، وكنت أثق به , وكان يقوم بكل المهمات باخلاص وأماتة واتقان ، وأشرفت على اطروحته بعنوان : اختيارات ابن رشد الفقهية في كتابه بداية المجتهد,  وكانت جيدة ومتفتة وجديدة , ويملك فدرات على البحث والتأصيل ..وهو من اعمدة الدار العلمية المؤتمنة على رسالة هذه المؤسسة..

الدكتور عبد الحميد عشاق، أستاذ بدار الحديث وأشرفت على أطروحته بعنوان :النقد الفقهي عند الإمام المازري، والبحث قيم جدا وجديد ومفيد , وقد اخترته لبكون استاذا بالدار نظرا لما لمسته فيه من قدرات فكرية و واستقامة شخصبة ونزاهة واخلاق, و كلفته بالاشراف على الحلقات العلمية والنشاطات الثقافية، ويتمتع بنشاط متميز فى العلاقات العامة والصلات العلمية , وكنت أشجعه وأقدرجهده وهو من الجيل الشاب  الذي يمكن أن يخدم بلده ويكون رمزاً جيداً لأبناء هذه الدار , وهذه النخبة من الشخصبات العلمية الشابة والطموحة  مؤتمنة على هذه المؤسسة العلمية..

الدكتور محمد بن عزوز :وهو من العلماء الشباب الذين تفخر بهم الدار , وأعد أطروحة مهمة باشرافى بعنوان :مدرسة الحديث في بلاد الشام خلال القرن الثامن، وهو عالم فى الحديث  ومتمكن من المادة العلمية وباحث جيد ومنتج , وأتوقع له موقعا متميزا بين الباحثين الاوائل ..

وهناك عشرات من أبناء الدار، بعضهم أشرفت على أطروحته والبعض وقفت معه في إعداد بحثه، وكلهم يمثلون جيل العلماء الشباب الذين سيخدمون ثقافة الإسلام في المغرب، وهم مؤهلون من الناحية العلمية والتربوية والأخلاقية للقيام بخدمة الإسلام وإبراز الهوية المغربية الأصيلة، وتجب الثقة بهذا الجيل، فهؤلاء هم جيل الأمل، وهذا هو المغرب المسلم، الذي عرفناه على امتداد تاريخه الإسلامى حصناً للإسلام وعاصمة للثقافة الإسلامية، ولا خوف على المغرب من أي ثقافة غازية مادام أبناء المغرب يدافعون عن هوية المغرب الإسلامية، وكنت عندما أرى هذا الجيل أفرح به، وأشجعه وأرى مستقبل المغرب مشرقاً ومبشراً، وهذا الجيل اليوم يؤدي دوره في خدمة ثقافة الإسلام.. ..

وكنت أريد أن يرى الملك الحسن الثاني رحمه الله هذا الجيل، وكان سيفرح به، وسوف يشعر أن الدار التي أنشأها وأحبها ورعاها قد أثمرت هذا الجيل ، ولا خوف على النظام من هذا الجيل من العلماء، فهم مؤتمنون على بلدهم، ومن أحب بلده فهو يسعى في خيرها ويحرص على مصالحها ..

ويسهم في الإصلاح من خلال الحوار البناء الذى يقود المجتمع الى الافضل..

وأوصي هذا الجيل والجيل الذي سيأتي من بعد أن يحافظوا على هذه المؤسسة العلمية، وأن يقرؤوا تاريخها بعناية , وأن يستخلصوا العبرة من هذه التجربة، وقد سجلت تاريخ هذه الدار لكي يعلم أبناء هذه المؤسسة وأحفادها الأهداف المرجوة من إنشائها, وهي أهداف تربوية وعلمية، لتكوين الشخصية الإسلامية وحماية الهوية المغربية الأصيلة، لكي يكون مغرب الغد هو مغرب الأمس في مواقفه وجهاده ومكوناته , ولن يكون هناك مغرب إلا بثقافة الإسلام الأصيلة التي يعتز بها كل المغاربة ..

وأشيد بوفاء علماء دار الحديث الحسنية لهذه الدار، وأنا أعتز بمحبتهم لي وبالثقة المتبادلة بيني وبين هذه النخبة من علماء هذه المؤسسة، وكنت أجد فيهم ملامح الشخصية المغربية الأصيلة في اعتزازها بالإسلام وفي محبتها للعلم وفي ثوابتها الأخلاقية، وأنا واثق أن هذا الجيل والجيل الذي يليه يتطلع الى معرفة الكثير عن هذه الدار العلمية وعن هذه الحقبة التي ترسخت فيها دعائم هذه المؤسسة، وبدأت تعطي ثمراتها المرجوة في المجتمع المغربي كمؤسسة إسلامية رائدة في فكرها وفي ثوابتها وفي أخلاقياتها وفي مواقفها، وكنت أحرص على تزويد طلابها بشيءٍ متميز عن غيرهم، من خلال الأفكار التي كنت أغذيهم بها، وأهمها ما يتعلق بمكانة العلم والعلماء ودورهم المؤثر في مجتمعهم كرموز موثوقة ومشاعل مضيئة، وأن يدافعوا عن الحق والفضيلة والعدالة والحرية والكرامة الإنسانية، وأن يعتزوا بعلمهم، وأن يكونوا ناصحين صادقين، لكي تحترم كلمتهم، وأن يكونوا عوناً للمستضعفين للدفاع عن حقوقهم المشروعة في الحياة والكرامة، ولقد كنت ألاحظ عند عدد كبير من علماء دارالحديث الحسنية وعياً متميزاً وفهماً ناضجاً ويقظة عاقلة، وكنت أقول في نفسي :المغرب بخير وسوف يحافظ على وحدته واستقراره مادام أبناؤه قادرين على حل مشاكلهم بالحوار البناء والتطور العاقل الى الافضل ..

 

 

مرحلة التكوين العلمي

مضت الأيام سريعة، واستقرت أوضاع دار الحديث وحققت ما كنا نطمح فيه، فلقد أصبحت الدار في حماية القانون بعد صدور المرسوم المنظم لشؤونها، ولم يعد هناك أي خطر يهدد وجودها واستمرارها، واستقرت المسيرة العلمية في الدار، وأصبح الطريق معبداً وميسراً، واستطاع كل باحث أن يعرف طريقه، وأصبح أبناء الدار المتخرجون منها يدرسون  في معظم المؤسسات العلمية والكليات والشعب الإسلامية، وهم يعبّدون الطريق العلمي للتعريف بالثقافة الإسلامية، وكنت أشجع كل باحث على الالتحاق بالمؤسسة التي يختارها لأداء رسالته  ، لقد أسعدني ماكنت ألمسه من أبناء الدار من اعتزاز بهذه المؤسسة التي كانت تشجع كل خريج منها على أن يأخذ موقعه العلمي، ولم تعد هناك عقبات، وأصبح الجميع يعترف بأثر هذه الدار في تكوين كفاءات علمية متميزة بفكرها، وكانت البلاد المجاورة للمغرب تعيش في ظل صراعات ثقافية , وانتشرت فيها أفكار التطرف والعنف، وكان المغرب بعيدا عن هذه الأفكار والسلوكيات، فقد كان الخطاب الديني في المغرب أكثر توازناً وأعمق فكراً، ولم أشعر بأي ظاهرة للتطرف لدى أبناء الدار,  وقد أثارت هذه الظاهرة فضول بعض الصحفيين الأجانب الذين كانوا يزورون الدار ويتساءلون عن أسباب الاستقرار في الساحة الإسلامية، وكنا نهتم بالتكوين العلمي والأخلاقي وتكوين الشخصية الإسلامية ….

وأهم ما كان يسعدني هو ثقة الشعب المغربي بهذه المؤسسة الإسلامية، والثقة بأبنائها ودعم مسيرتها، وهذه الظاهرة أكسبت الدار ثقة كل الأطباف الاجتماعية والأحزاب السياسية، فقد كانت دار الحديث مؤسسة إسلامية وتحمل شعار الإسلام كما يجب أن يكون , وكما هو في ثوابته وقواعده وأسسه، وكان الصراع قوياً بين الأحزاب السياسية، وظلت هذه المؤسسة محتفظة باستقلاليتها وبعيدة عن ذلك الصراع السياسى..

وما زلت أذكر زيارة الزعيم الإسرائيلي بيريز إلى المغرب واستقباله من الملك الحسن الثاني في مدينة أفران عام 1986، وقد أثارت هذه الزيارة المفاجئة في تلك الفترة ردود فعل غاضبة في العالم العربي والإسلامي، وارتفعت أصوات الغضب في كل مكان، وخزنت خزناً شديداً وأنا أسمع من خلال الإذاعات والصحافة المقروءة أصوات الاستنكار والإدانة , لقد صدمت عندما سمعت النبأ، وكنت أحب المغرب ولا أحب أن أسمع أي كلمة تسيء إلى مكانته ، ولما طلب مني أن أرسل برقية تأييد لهذه الزيارة لدعم موقف الملك على الساحة الداخلية اعتذرت عن ذلك، ولم يكن بإمكاني أن أؤيد هذه الخطوة، وقلت لمن كلمني في المغرب أن الملك من حقه أن يفعل ما يشاء، وهو صاحب القرار في بلاده، ولن يصدر عني أي موقف يسيء إلى الملك أو يحرجه، ولكن لا يمكنني تأييد خطوة مثل هذه، لأنها ضد ثوابتي الوطنية والإسلامية، وأكبرت أن الملك قد التمس العذر لي في ذلك، وطلب عدم إحراجي في هذا الموضوع ، وهذه من فضائل الحسن الثاني رحمه الله، فقد كان واسع الأفق في مثل هذه المواقف ، وكنت أريد أن تحتفظ دار الحديث بخصوصياتها في نظر المجتمع المغربي، وهذا الموقف يدعم مركزها الاجتماعي كمؤسسة إسلامية مؤتمنة على الثوابت الإسلامية ..

وهناك مواقف أخرى قريبة من هذا الموقف، ولم أتعرض قط لأي إحراج أو ضغط من أي مسؤول قي أي موقف، وفي الوقت نفسه كنت أحرص على عدم إحراج المغرب في أي موقف، وعندما كانت العلاقة بين المغرب وسوريا تتعرض لأزمة كنت أشعر بالحرج، وأحرص على تجاهل ذلك والابتعاد عن أي موقف يسيء لأي من البلدين، وكان يفرحني أن تكون العلاقات حسنة والتواصل قائماً، وكان المغرب يتفهم موقفي هذا ويلتمس العذر لي فيه ..

ذكريات دافئة

في السنوات الأخيرة بدأ شوقى بزداد إلى مرابع الطفولة الأولى في مدينة حلب، وكنت عندما أزور حلب أشعر بالحنين إلى ذكرياتي القديمة، وكنت أمشي في الدروب العتيقة التي كنت أمشي فيها من  قبل ويستيقظ الماضي في كياني وينتابني شعور دافئ وكأن الماضي يناديني ويوقظ أيامي الماضية، ولكن المغرب كان في حياتي، ولم يكن بإمكاني أن أغادره و ولا يمكن لذاكرتي أن تنسى ذكريات المغرب ..

وبدأ التدافع الداخلي يثقل كاهلي، وأخذ الحوار يتصاعد في ذهني، وأسمع في داخلي صوتاً هامساً يناديني بإلحاح،

وماذا بعد ..

لقد أكملت مهمتي العلمية فى المغرب، وكنت أتوقع ألا تزيد إقامتي في المغرب عن ثلاث سنوات واستمرت قرابة ربع قرن ، فما ضقت بالمغرب ولا ضاق المغرب بي .. لقد أحببت المغرب من كل قلبي، ورأيت من اصدقائى المغاربة كل محبة وتقدير ..

وكنت أشعر بدفء عاطفي واستقرار نفسي، وأخذت الأيام تتعاقب بسرعة، والنفس حائرة مترددة، وكان هناك صوت خفي يناديني في لحظات التأمل ، وشوق يزداد في كل يوم ، وكانت حلب بالنسبة لي هي ذكريات دافئة وانتماء روحي، وشوقي إليها هو شوق لذلك الشعور الدافئ بالطمأنينة الروحية، لقد تعبت مما كتبت في النظم والأحكام والأفكار ، وبدأت أشتاق لراحة نفسي في فضاء الأرواح، تلك كانت طفولتي  الاولى وقد شغلت بالعلم بعد ذلك ..

ثلاث وعشرون سنة مضت سريعة، كنت خلالها أؤدي رسالتي العلمية في هذه المؤسسة العلمية وفي بلد إسلامي عريق، وسوف تظل هذه الفترة مشرقة في حياتي .

( الزيارات : 2٬065 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *