أخلاقية العلم

أخلاقية العلم

في خريف العمر رأيت ذلك الآخر في كياني يصحو بنشاط ويسيطر على تفكيري ويزاحمني، ويقتحم معاقلي العلمية، ويكاد أن يقتلع حصوني التي بنيتها على امتداد سنوات طويلة، أصبحت أنا الهدف من حركته، أخذ يحاسبني عما قدمت من أعمالي العلمية، ويسألني بإلحاح عما إذا التزمت بما كنت أطالب به غيري.

قلت مرة أمام طلابي في الدراسات العليا في المغرب: «لقد فشلنا في مهمتنا، لقد أعطيناكم العلم ولكننا لم نعطكم أخلاقية العلم». كنت صادقاً في كلمتي، وشعرت أن من واجبنا أن نعيد النظر في مناهجنا العلمية وأساليبنا التربوية، لكي نسهم في تكوين شخصية العالم قبل أن نزوده بسلاح العلم، فالجندي قبل أن ـمل السلاح لابد من استكشاف قوة عضلاته وصلابة أعصابه.

فالعالم الذي يحمل العلم وليس مؤهلاً له يسيء للعلم، لأنه ينحدر بمستواه لكي يكون وسيلة للمعاش، وليس العلم هو الغاية.

وتذكرت كلمة الشيخ وهو يتحدث عن اليقين ويتساءل: كيف يصنع أصحاب العقول إذا اكتشفوا في خريف عمرهم أنهم كانوا على خطأ فيما اختاروه، ولابد من اليقين لكي لا يضيع العمر في البحث عن الحقيقة التي تتوهمها العقول.

ولابد من ذلك الآخر في كياننا، لأنه يوقظنا من الغفلة والنوم العميق، ذلك الآخر قد يقلقنا بإلحاحه ومراقبته إلا أنه المنقذ الذي يمسك بيدنا عندما نخوض الأنهار العميقة ونشعل ضوءه في دروبنا الضيقة والمظلمة.

ليس المهم من يكون ذلك الآخر، قد يكون الضمير الحي الذي أودع في كياننا في أيام الطفولة، ووجد الرحم الدافىء الذي احتضنه ووفر له شروط الحياة والنماء، وقد نطلق عليه اسم الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهي كامنة وفي أعماق ذاتنا لا تموت أبداً، ولكن يمكن أن تكون شاحبة عليلة بتأثير البيئة الفاسدة والتربية السيئة، ويمكن لهذه الفطرة أن تستقيظ فجأة في لحظة ما في حياة الإنسان.

في لحظة صفاء روحي، تسمع كلمة ناصحة صادقة مخلصة فسرعان ما تدخل إلى الأعماق، فتحرك ما هو كامن من إرادة الخير.

في الطفولة الأولى تكون الفطرة نقية طاهرة نظيفة، ثم تتلون باللون الذي يحيط بها، فقد تصبح قاتمة وكئيبة بتأثير الذنوب التي تألفها، وقد تظل كما هي في لونها الأبيض الصافي، فإذا لم يلامس التشويه جوهرها فسرعان ما تعود إلى صفائها الأول، عندما تسمع صوت المنادي يذكرها بما جبلت عليه من حب الخير.

ويصبح التصحيح هدفاً مرجواً، وتكون النفس مستعدة له مهيأة لرحلة العودة إلى ربها، كما هو الشأن في كل المخلوقات، تنجذب إلى الأصل، كما تنجذب الكواكب إلى الشمس، والتوبة هي الخطوة الأولى في التصحيح، والمراد بها الرجوع إلى الطريق الذي أراده الله، بعد الضلال عنه بتأثير الغرائز والميول الشيطانية، ولا يتحقق هذا الرجوع إلا عندما ينير الله البصيرة فيدرك بها الغافل مواطن الطريق، فيشرح الله صدره لهذا الطريق، فيلتزم به، ويجد لذته فيه، والتوبة ليست كلمة تقال وإنما هي شعور وجداني داخلي يحرك القلب ويدفع الجوارح ويوجد الاستعدادات لما يريده الله من عباده من الأعمال الصالحة..

قبل أن نعلم الآخرين الإسلام علينا أن نتمثله في حياتنا كفكر وسلوك، وقبل أن نلقنه لأطفالنا علينا أن نشعرهم بأنه في قلوبنا وقبل أن نكتب عنه في الكتب والمجلات علينا أن نتخلق به في سلوكنا، ذلك هو طريق البداية، وليس هناك أحد خارج نطاق المسؤولية عما يفعل، فالكل محاسب، وعليه أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الآخرون.

هذا ما كان الشيخ يردده في كل مجالسه، وهذا ما أودعه في قلوبنا، ليس المهم أن نتجمل في ظاهرنا، وإنما المهم أن يكون الباطن نظيفاً، والذين يعملون لأجل الخلق طلباً في جاه ومنزلة في قلوب الناس سرعان ما تمحى كلماتهم من القلوب، فلا تنشرح لها وقد تضيق بها.

في كل موقف كنت أقارن بين ما تربيت عليه وما لُقّنتْه في الطفولة وما أواجهه في كل يوم من وقائع وأحداث، وما أتعلمه في الحياة من دروس، ولاحظت أن الواقع شيء آخر يختلف كلياً عن المثالية المطلقة، ليس فيما هو جديد، وإنما فيما هو قديم، فما نقرأه في كتب التاريخ يؤكد لنا أن الإسلام في حقيقته ليس هو الإسلام في واقعه، فالواقع يخضع لطبائع البشر وسنن الكون وقوانين الحياة، والحياة الإنسانية ليست خارجة عن سلوكيات البشر المعتادة في المعاملات والحروب والتدافع بين الشعوب والتغالب بين الأقوياء والضعفاء.

وعندما كنت أقرأ الفكر الإسلامي كنت أجد أثر الإنسان في توجيه هذا الفكر والتحكم في مساره، لكي يكون واقعياً وممكناً، إلا أن سلطة الإنسان في التوجيه قد تشوه صفاء هذا الفكر، وهي لا تريد التشويه وإنما تريد أن تقربه من الواقع، وأن تقنع المجتمع بواقعيته من خلال التحكم في مساره، وهذا منهج قد يفيد على المدى القصير ويغنيه بالأسرار والاجتهادات، إلا أن ذلك قد يبعده عن ينابيعه الأصلية وقد يجعل ملامحه مختلفة عن ملامحه الإنسانية المتميزة، ولابد من العقل البشري لإغناء الفكر وتفسير نصوصه، إلا أن ذلك يجعل المقود بيد العقل، وتخضع النصوص لما يريده الإنسان مما يلبي له حاجاته التي يراها ضرورية لواقعه.

والتساؤل الذي يطرح نفسه باستمرار، ماذا يريد الإسلام أن يحققه في المجتمع، وكيف يمكن معرفة ذلك المراد..

ومن اليسير أن نقول ما يريده الإسلام هو ما يريده الله، ومراد الله هو ما يجب أن يتجه إليه الإنسان وأن يحب ذلك المراد، فمن أحب الله أحب كل ما يريده الله.

ولكن كيف يمكن للإنسان أن يعرف مراد الله ؟ وإرادة هذه المعرفة هي الإنسان نفسه بقدراته العقلية، وهل يعرف ذلك المراد بعقله أم بقلبه ؟ ولا يمكن للعقل البشري أن يتحرر من طبيعته الغريزية التي تزيّن له الأشياء التي يميل إليها الطبع، والعقول تختلف بحسب مكوناتها الغريزية.

ومراد الله هو ما تطمئن إليه القلوب الصافية الطاهرة التي تتعلق بحب الله، وتؤثر الله على كل شيء، فلا تتعلق بأي شيء يشغلها عن الله، تقبل على الله وتعرض عن كل شيء آخر، ويتمثل مراد الله في تصحيح العقيدة بالإيمان بالله وعدم الشرك به وعدم اتخاذ أرباب من دون الله، وهذا هو معنى التوحيد واستشعار معنى الربوبية في القلب، لكي يتحرر من الخوف والعبودية لغير الله، ثم يكون الركن الثاني، وهو عمل الصالحات التي تنفع الآخرين من خلق الله، فلا يكون في ذلك ظلم ولا تجاوز وهذا يحتاج إلى إصلاح الباطن الذي يهيئ الإنسان لعمل الخير أو الشر.

ومهمة العالم أن يعلم الإنسان معايير الخير والشر وضوابط الحق والباطل، لكي يتمكن الإنسان من معرفة ما يجب عليه سلوكه لكي يفعل ما يريده الله…

هذا هو العلم النافع والمفيد، وما عداه لا يفيد الإنسان ويمكن الاستغناء عنه.

( الزيارات : 1٬421 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *