العلم والأدب

العلم والأدب

علم الشريعة هو العلم الوحيد الذي لا ينفصل فيه العلم عن الأدب، ولا تتناقض فيه الحقوق مع العدل والفضيلة، وعلماء الشريعة هم رموز للاستقامة والنزاهة، يتميزون عن غيرهم بنقاء الباطن وصفائه، يعملون لله ويخلصون في أداء رسالتهم، إذا ضل المجتمع طريقه كانوا الأمل في هدايته، وإذا فسدت النفوس كانوا رموز الصلاح والإصلاح.

وفوجئت وأنا أتابع دراساتي الجامعية أن دراسة الفقه لا تختلف عن دراسة القانون من حيث الموضوع، وأن الأحكام متقاربة ومتشابهة، والفقيه وهو يعرض مادته العلمية لا تجد فيها روحية الأحكام وتميزها عن غيرها، وهي علم ولا علاقة لها بالعمل، ويدرس الدارس ظاهرها بما تدل عليه الأدلة والبراهين العقلية وينسى ما تتضمنه من آداب وما تريد تحقيقه من غايات، وهذه المنهجية تزود الباحث بالعلم ولا تعلمه أخلاقيات العلم، فالعمل ليس ثمرة للعلم وحده، وإنما هو ثمرة للتربية والتكوين السليم، وهذا هو الخلاف الجوهري بين منهجية السابقين من علماء السلف ومنهجية اللاحقين، منهجية السابقين كانت تثمر العمل الصالح ولذلك ارتبط العلم بالعمل، وكان العالم رمزاً للوطنية والاستقامة والنزاهة، وإذا تحرك تحركت الأمة بحركته، وإذا غضب دفاعاً عن الحق والفضيلة اهتزت الأرض وجلاً من غضبه.

لم يعد الأمر كذلك في مؤسساتنا الدينية، ضعفت رموزها واهتزت مكانتها، وفقدت رصيدها في المجتمع، وأصبح العلماء يبحثون عن دنياهم كما يفعل غيرهم ، ويفرحون فيما ائتمنوا عليه من مساندة المستضعفين والدفاع عن الحقوق.

ما تعلمته من الشيخ كان شيئاً مختلفاً، كان يريد تكوين العالم العامل بعلمه، الذي يدافع عن الحق، ذلك هو العالم الذي يستحق لقب العالم، تلك هي الحوارات الداخلية التي كنت أخاطب فيها ذاتي، مجرد حوار، كان هاماً وهادئاً، وسرعان ما هدأت العاصفة في كياني، وصمت ذلك الصوت الداخلي، وتوقف الحوار.

ما زالت تلك البذرة في كياني، لم تمت، ولا يمكن أن تموت، فبذرة الخير إذا زرعت في الأرض الخصبة لا تموت أبداً، أصبحت هذه البذرة هي الآخر بالنسبة لي، الذي يحدثني وينتقدني ويحاسبني فيما بعد، سرت فيما سار فيه غيري ممن كنت أنتقده، لم أتميز عن أسلافي بشيء، اخترت الطريق الذي اختاروه، شغلت نفسي بالعلم وكتبت مؤلفات عدة في الفكر الإسلامي.

كان الآخر يقول لي فيما بعد، ليس هذا هو الطريق، وعندما كنت أقلب صفحات كتبي الأولى أجد ما كتبته لا يختلف عما كتبه غيري، العلم ولا شيء آخر مما لم أجد فيها روحية العلم، بل أجد فيما كتبته تكريساً لواقع قديم وليس تصحيحاً له، فنحن نكتب عن فكر العلماء المسلمين كما صوروه وسجلوه ولا نكتب عن فكر الإسلام كما يجب أن يكون، فكر المسلمين هو مرآة لواقعهم وقد سجلوه كما هو، وفكر الإسلام لم يسجل في حقيقته، وإنما سجلت الأجيال ما أخذته من الإسلام بعد أن صاغوه بلغة حاجاتهم ومتطلباتهم، فكر الإسلام متجدد في كل عصر، كشجرة تعطي ثمرتها في كل عام، والثمرة الجديدة ليست هي الثمرة القديمة، هي شيء جديد في طعمه ومذاقه وشكله.

( الزيارات : 2٬797 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *