اصدقاء السيد النبهان

وفاء الشيخ لأصدقائه:

اشتهر الشيخ رحمه الله بالوفاء لأساتذته والمحبة لأصدقائه وأصحابه والرعاية لإخوانه ومريديه، وكان هذا من خلقه وسجاياه الراسخة، وهذا يرتبط بتكوين شخصيته، والوفاء خلق راسخ لا يأتي عن تكلف، وإنما يصدر من صاحبه عفواً وبغير تفكير ولا إعداد.

كانت مجالسه اليومية خاصة بأساتذته وأصدقائه ومريديه، وكان أساتذته يحظون بمكانة الاحترام في نفسه وفي نفس إخوانه، فلم يصدر عنه قط ما يشعرهم بعدم الأهمية ، كان يخاطب تلامذته بالكلمة الطيبة المأثورة «أنزلوا الناس منازلهم» وكان يشرح معنى هذه الكلمة بما يعطيها بعدها الاجتماعي والأخلاقي ويضيف إليها ما يضفي عليها ملامح من أسلوبه في التربية فيقول: «أنزلوا الناس منازلهم التي يرونها في أنفسهم لا كما ترونها أنتم، فهم في قلوبهم يرون أنفسهم بمكانة عالية، فأعطوهم هذا الشعور، وأنزلوهم هذه المنزلة ولو كنتم ترونهم في منزلة دون ذلك، فإذا فعلتم ذلك أشعرتموهم بالكرامة وأسعدتموهم وملكتم قلوبهم بهذا التكريم».

وهذا معنى دقيق ومعبر عن أسلوب الشيخ ومنهجه التربوي، فكل إنسان يرى نفسه في مرآة نفسه في مكانة عالية ولا يرضى أن يكون في منزلة أقل، وأنتم ترونه في منزله أقل من ذلك، فلا تشعروه بما ترونه فيه من عيوب، وأنزلوه المنزلة التي يرى نفسه فيها في موطن التكريم، فقد يكون في مجتمعه سيداً، فأشعروه بالسيادة وقد يكون في أهله وعشيرته مكرماً فأشعروه بهذا التكريم تملكوا قلبه، فيرتاح إليكم ويجد نفسه معكم.

ويكرر في هذا المعنى الكلمة المأثورة: «إن لَنَبُشُّ في وجوه قوم وقلوبنا تلعنهم» لأنّ العبد لا يملك أن يحاسب الناس على أفعالهم، فقد يكون هذا الإنسان عند الله مقبولاً ومحبوباً فلا تحكموا على الظاهر، فالباطن هو المعتبر، والإنسان يجهل أمر الباطن، وعليه أن تكون علائقه بالخلق قائمة على الاحترام والتماس العذر للناس فيما هم فيه.

ولم يشعر يوماً أحداً ممن يحضرون مجلسه من أصدقائه بما يسوؤهم ولو كان يعلم يقيناً أنهم يسيئون له أو يحملون عليه في قلوبهم أو ينكرون عليه منهجه، فكان يتلقى هؤلاء بكل الترحيب والتكريم، وقد يصبحون في يوم من الأيام من أقرب الناس إليه بسبب تكريمه لهم وإشعارهم بالمنزلة في مجلسه.

وكان يقول في ذلك: اقتلوا حسد الحاسد وبغض المبغض بإحسانكم إليه والوقوف إلى جانبه في المكاره، لكي تعلموه الخلق وتزيلوا من نفسه ما علق فيها من كدورات ومشاعر مظلمة.

ويقول بأنه تعلم هذا المنهج من السيرة النبوية فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يحرص على قتل الكافر، وإنما يحرص على قتل كفر الكافر وحقد الحاقد بالإحسان إليه وإشعاره بالكرامة الإنسانية وتنزيله المنزلة التي يرى فيها نفسه، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عندما دخل مكه، وأنزل زعيمها أبا سفيان منزلته اللائقة وقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وهذا المنهج التربوي هو الذي جعل أبا سفيان يكتشف شخصيّة الرسول الكريمة ويعرف ما يشتمل عليه خلقه من سمو في المفاهيم ورفعة في الرؤية، فالانتقام صفة مستقبحة وهي تدل على الضعف وليس على القوة، والعافون عن الناس هم الأقوياء الذين تزكت نفوسهم، وهؤلاء يكسبون ولا يخسرون، ويرتقون ولا ينزلون.

ويستدل لهذا المنهج التربوي الراقي بوقائع تاريخية من السيرة النبوية التي تعتبر المرجع السلوكي الذي ترقى به المفاهيم وتسمو به بفضله سلوكيات المسلم، ويرتفع عن الأحقاد والأنانية الضيقة.

كانت مجالس أصدقاء الشيخ تختلف عن مجالس إخوانه ذات الطابع التربوي، ففي مجالس إخوانه وأصدقائه يغلب عليها الجمال، فيسألهم عن أحوالهم ويشركهم في الحوار، وقد يناقش معهم قضية علمية في التفسير والحديث والفقه، ويلاطفهم بكل كلمات المودة، ويسمع منهم كل ما يريدون قوله، ويدعو إخوانه لتكريمهم وبخاصة إذا كانوا من العلماء زملاء الدراسة، وقد يخصهم بجلسات خاصة يتناول معهم الحديث.

والعلماء مكرمون في مجلسه، يجلسهم إلى جانبه ويشعرهم بوجودهم، وقد يطلب من إخوانه الخروج من المجلس لكي يتمكن ضيوفه من التحرر من التكلف، والحديث بحرية وطلاقة، ولو بالمباسطات اللطيفة المعبرة عن طبيعته السمحة، ولم يكن من عادته الانفعال أو الاكتئاب، أو الشعور بالقلق، فكان دائم الابتسام.

وكان أصدقائه يزورونه من غير ميعاد وفي المواعيد التي اعتاد الجلوس فيها، وغالباً بعد العصر وبعد المغرب، وبعضهم كان يأتي بميعاد سابق، وغالباً ما يكون هذا لبحث أمر خاص.

أهم الأصدقاء بحلب:

ومن أبرز أصدقائه من العلماء كل من:

ـ الشيخ أسعد العبجي مفتي الشافعية والعالم الأصولي الكبير، وأظنه كان أحد أساتذته، وكان الشيخ يحبه ويحترمه وينزله في مجلسه المكان الأرفع، ويخصه بالحديث ويحاوره في القضايا العلمية.

ـ الشيخ ناجي أبو صالح، وهو من العلماء الذين يحظون بمكانة رفيعة، وكان محباً للشيخ، والشيخ يحبه وينزله المنزلة التي تليق بالعلماء.

ـ الشيخ حسن الحاضري، وهو من أصدقاء الشيخ، وكان يحب الزراعة ويشتغل بها، وكان الشيخ يكرمه في مجالسه ويداعبه في الحديث.

ـ الشيخ محمد الغشيم، وهو من أصدقاء الشيخ ومن العلماء الذين كانوا يدرسون في المدارس الشرعية.

ـ الشيخ عبد الباسط أبو النصر، وكان يحظى بمكانة كبيرة في مجلس الشيخ، نظراً لأنه ابن شيخه أبو النصر، وكان الشيخ يحبه ويذكره بأيام الشباب وذكريات السلوك، ويناديه بأحب الأسماء إليه وهو ابن شيخي، وكان الشيخ عبد الباسط يحب الشيخ ويقدره ويعرف فضله.

ـ الشيخ محمد بلنكو مفتي حلب، وكان الشيخ يحبه ويثني على شخصيته ونشاطه وذكائه، ويشيد بخصال الرجولة والسخاء فيه.

ـ الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، وهو من العلماء العاملين المشهود لهم بالإخلاص والصدق والعلم وبخاصة في علم الحديث والتحقيق في كتب التراث الحديثي، وكان صاحب ورع وفضل، ويحظى بالاحترام، وكان الشيخ يحبه ويقدره ويجد فيه الإخلاص والصدق والعلم.

ـ الشيخ أحمد البيانوني وهو من أسرة علمية كبيرة واشتهر والده الشيخ عيسى بعلاقته بشيخه أبو النصر، وكانت لقاءاته بالشيخ أقل من الآخرين، واشتهر بالتقوى والدين والورع.

ـ الشيخ أبو الخير زين العابدين، وكان من أبرز أصدقاء الشيخ ومحبيه، وينتمي إلى أسرة علمية عريقة في إنطاكية، وهاجرت أسرته إلى حلب، وكان أبو الخير عالماً متمكناً وخطيباً مفوها وصاحب مواقف مشهودة، وكان يحظى بمكانة في مدينة حلب، نظراً لعلمه وورعه وصلاته في مواقف الدفاع عن الإسلام.

ـ الشيخ عمر الريحاوي، وهو من جلساء الشيخ ومن المحبين له، وكان عالماً فاضلاً وشيخاً ورعاً.

ـ الشيخ عبد الوهاب سكر من مدينة الباب، وكان من أقرب أصدقاء الشيخ إليه وأكثرهم حضوراً في مجالسه، وكان الشيخ يحبه ويقدره ويحترمه، نظراً لاستقامته وعلمه وورعه وتولى إدارة معهد العلوم الشرعية بحلب وهو المعهد المعروف بالشعبانية بحي الفرافرة.

ـ الشيخ عبد الله سلطان، وهو من أصدقاء الشيخ والمحببين له، ويسكن في جامع الإسماعيلية، وهو قوي الصلة بالشيخ والشيخ يحبه ويقدره، وكانت له مزرعة خارج المدينة، وكان الشيخ يزوره فيها، ويجتمعان غالباً في مجالس خاصة.

ـ الشيخ أحمد المصري، وهو من علماء حلب الذين اشتهروا بالورع والدين والصلاح والعلم وقراءة القرآن وتلاوة الأذكار، وكان مديراً لمدرسة حفظ القرآن، وكانت للشيخ معه جلسات علمية بقرآن فيها كتاب إحياء علوم الدين وكتب أخرى في التصوف مثل الرسالة القشيرية.

ـ الشيخ عبد الله سراج، وهو من علماء حلب الكبار وهو ابن الشيخ الكبير نجيب سراج، وكان الشيخ يحبه ويقدره، فقد كان ورعاً وتقياً وعالماً في الحديث، وله إخوان وتلامذة، ويحظى بمكانة رفيعة، وله دروس في المساجد الكبرى ويحضرها جمهور كبير.

ـ الشيخ محمد السلقيني وهو من كباء العلماء المشهود لهم بالعلم والصلاح والتقوى والورع، وكان الشيخ يحبه ويثني عليه، وكان يحظى بسمعة طيبة وطهارة قلبية وإخلاص متميز.

ـ الشيخ عبد الله حماد وهو من العلماء الذين اشتهروا بالعلم والخلق والتواضع والصلاح والورع، وكان الشيخ يحبه ويحترمه.

وكان هناك علماء آخرون يزورون الشيخ للتشاور معه في قضية خاصة أو لأمر يهم المسلمين، وكانت هناك اجتماعات لعلماء حلب تعقد في دار الشيخ ثم توقفت فيما بعد، من أمثال الشيخ طاهر خير الله والشيخ عبد الله علوان والشيخ محمد علي الصابوني، وعشرات غيرهم، ممن كان الشيخ يرى فيهم صفة الإخلاص والصدق والنشاط والغيرة على الإسلام، وكان هؤلاء أقرب من الآخرين لمنهجية الشيخ الروحية وكان الشيخ يسمع كلامهم ويتعاطف معهم ويثني عليهم.

ومما كان يزعج الشيخ أؤلئك العلماء الذي يثيرون القضايا الخلافية وينشرون الفتنة في المساجد بسبب مواقفهم الحادة والمتشنجة التي يتهجمون فيها على علماء السلف أو يسيئون فيها لأئمة المذاهب الفقهية أو يشككون المجتمع في عقائده وثوابته تارة باسم البدعة وتارة باسم محاربة الصوفية وتارة باسم إحياء السلفية، وكان يمكن لهم أن يحققوا أهدافهم بالتزامهم الموضوعية والنصح الصادق من غير أسلوب الجدال العقيم الذي يسيء إلى المشاعر الدينية.

وكان الشيخ أكثر منهم حرصاً على مقاومة البدع المنحرفة والالتزام بالمنهج الإسلامي الصحيح، وما ينكرونه على الطرق الصوفية من تقديس للأضرحة وإيمان بالطقوس والتقاليد الخاطئة كان الشيخ ينكره ويدعو إلى تصحيح العوائد المنحرفة بالكلمة الطيبة التي لا تثير الشكوك في نفوس العامة ولا تزعزع إيمانهم الديني.

أهم الأصدقاء خارج حلب:

وهنالك فريق آخر من أصدقاء الشيخ، كان يلقاهم في المناسبات يزورهم أو يزورونه، يحترمهم ويحترمونه، وكلهم أصحاب فضل وخلق، ومن أشهرهم.

ـ الدكتور معروف الدواليبي وكان من أبرز أصدقاء الشيخ وأحبهم إليه، وكان صديقاً في المدرسة الخسروية ثم رفيقاً في المجاهدات والرياضات النفسية، ولم تتوقف الصداقة بتأثير اختلاف الطريق، سار الشيخ في طريق التربية واختار الدكتور معروف طريق العلم وسافر إلى فرنسا للحصول على الدكتوراه في القانون الروماني، ثم اشتغل في السياسة، وكان من أعمدة حزب الشعب وتولى وزارة الدفاع والخارجية ثم تولى بعد الانفصال رئاسة الوزارة، وادخل السجن في أيام الانقلابات العسكرية، وعاش بعد ذلك في السعودية مستشاراً للملك، ولم تنقطع صلة الشيخ به، ولم تضعف، كانت الثقة قائمة ومتبادلة، وكان الشيخ يثق به ويدافع عن مواقفه ويشيد بنزاهته وشخصيته ووطنيته، وتزوج شقيقه الأصغر علاء الدين من ابنه الشيخ الصغرى.

ـ الأستاذ مصطفى الزرقا، وكان من أعلام العلم وأقطاب الفقه في العالم الإسلامي، ومؤلفاته حظيت باهتمام كل الأوساط الأكاديمية، وكان الشيخ يحبه ويثني عليه ويثق باجتهاداته ويشيد بها، ويصفه بأنه الفقيه ابن الفقيه، فقد كان والده حجة في الفقه وجده كذلك، وأسرة الزرقا أسرة علم وذكاء ومعرفة، وبالإضافة إلى علمه فكان الشيخ يصفه بالنزاهة والورع والتقوى، وتولى وزارة العدل في سوريا، ويحظى بمكانة رفيعة في حلب، وعندما كان يزور حلب كان يزور الشيخ ويحظى بكل الاحترام من إخوانه، وكان شقيقه الحاج محمود من إخوان الشيخ ومن المحبين له والملازمين لمجالسه.

وكان للشيخ أصدقاء في معظم المدن السورية من العلماء المشهود لهم بالعلم والفضل والتميز والمكانة الاجتماعية، كانوا يزورونه في حلب ويزورهم في أماكن إقامتهم، ومن أبز هؤلاء ما يلي:

ـ السيد محمد المكي الكتاني، الشريف الحسني المغربي الأصل ومن الأسرة الكتانية في المغرب العريقة بدورها العلمي والثقافي والديني والوطني، وهاجر فرع من فروعها من أبناء سيدي محمد بن جعفر إلى بلاد الشام، واشتهر السيد المكي بدوره الوطني والديني في مدينة دمشق، وكان سيداً مرموق المكانة، وشهدت داره اجتماعات هامة للعلماء وللسياسيين، وكان كريماً مهيباً محترماً، وكان الشيخ يحبه ويثني عليه، ويشهد له بمعالم الشرف في سلوكه، وكان التواصل بينهما قائماً والتشاور مستمراً في القضايا الإسلامية، وأحياناً كان السيد المكي يزور الشيخ في حلب على رأس وفد من علماء الشام للتشاور وتوحيد الكلمة بين علماء دمشق وعلماء حلب، وشهد مقر الشيخ في الكلتاوية لقاءات هامة بين علماء دمشق وحلب، وكان علماء دمشق يعتبرون الشيخ هو صاحب الكلمة المسموعة في حلب، ولا تتحرك المدينة إلا بحركته ولا تطيع أحداً إلا بأمره.

ـ السيد محمد المنتصر الكتاني وهو ابن شقيق الشيخ المكي، وكان قد ترك المغرب وأقام بدمشق وعين أستاذاً للتفسير والحديث في كلية الشريعة بجامعة دمشق، وحظي بمكانة علمية واجتماعية واسعة وشارك في النشاط الثقافي والسياسي في فترة الخمسينيات إلى أيام الوحدة ثم الانفصال، وكان نشيطاً متحمساً كثير الحركة طموحاً وله علاقات اجتماعية واسعة على المستوى الجامعي والاجتماعي، داخل سوريا وخارجها وكان الشيخ يحبه ويقدره، وكثيراً ما كان يزور مدينة حلب ويحل ضيفاً على الشيخ ويلقي كلمات طيبة في اللقاءات العامة وبخاصة بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف الذي ينظمه الشيخ في جامع الكلتاوية ويحضره كل رجالات حلب وزعمائها وعلمائها وتجارها، وكان الشيخ يحب الأسرة الكتانية ويشيد بنسبها الشريف، ونشأ إخوانه على حب هذه الأسرة واحترامها، وما تزال صلة المودة قائمة بين الأسرة النبهانية والأسرة الكتانية على مستوى الأبناء والأحفاد.

ـ الشيخ إبراهيم الغلاييني، وكان من أعلام دمشق وعلمائها المشهود لهم بالعلم والتقى والصلاح والفضل، وكان الشيخ يحبه ويقدره ويدعو إخوانه للتبرك به، فقد كان تقياً صالحاً، وكان من العلماء الذين تشعر بتقواهم وصلاحهم في أقوالهم وأفعالهم، وقد استضافه الشيخ في قرية الجابرية القريبة من حلب التي كان يملكها الشيخ في بداية الخمسينيات، وما زلت أذكر ذلك اللقاء الذي كلفني فيه الشيخ أن أقوم بخدمة العالم الصالح.

ـ الشيخ أبو الخير الميداني، وكان رئيساً لجمعية العلماء بدمشق، وكان واضح الصلاح والورع والتقى واشتهر بالعلم والفتوى، وكان أهل الشام يحبونه ويحترمونه ويتبركون به، وكانت تربطه صلة وثيقة بالسيد المكي الكتاني والشيخ إبراهيم الغلاييني وكان الشيخ يذكره في مجالسه ويشيد بصلاحه وتقواه وورعه.

ـ الشيخ حسن حبنكه، وكان من أشهر علماء دمشق وأكثرهم جرأة وشجاعة وكان عالماً متمكناً وخطيباً مفوهاً اشتهر بالشجاعة في مواقفه والجرأة في دفاعه عن الإسلام، وبالإضافة إلى هذا فلقد كان صاحب مدرسة علمية، وله إخوان من علماء الشام المشهود لهم بالعلم والصلاح، ويغلب على ظني أنه حضر في يوم وفاة الشيخ للمشاركة في تشييعه، وألقى تلميذه الشيخ حسين خطاب كلمة التأبين باسم علماء الشام.

ـ الشيخ أحمد كفتارو، وكانت تربطه علاقة مودة بالشيخ، وهو من المربين الناجحين الذين تركوا أثراً واضحاً في المجتمع الدمشقي، ثم تولى منصب المفتي العام للجمهورية، وهو صاحب طريقة صوفية، وله اتباع وإخوان.

ـ الشيخ محمد الهاشمي التلمساني، وكان من كبار علماء دمشق المربين الذين اشتهروا بفكرهم الصوفي وبتربيتهم للمربين، وكان صاحب طريقة ومن أصحاب القلوب، وكان تربطه بالشيخ صلة روحية قوية لا أعلم بدايتها وكيفيتها، ولكن شعرت بأثرها، وكان الشيخ يذكر لقاءاته بالشيخ الهاشمي ويشيد به في كل مناسبة، كما كان الشيخ الهاشمي يذكر الشيخ في مجالسه ويعجب بمجاهداته وبما لمسه من الشيخ من صفاء روحي، كان الشيخ الهاشمي مربياً صادقاً ويعرف جيداً مسالك الطريق، ولابد أن لقاءهما الذي لم أشهده كان لقاء قمتين شامختين جمعت بينهما وحدة المنهج والطريق.

ـ الشيخ أحمد الحارون، وكان من أعمدة الرموز الصوفية في دمشق التي اشتهرت بكراماتها وفتوحاتها، وكان أقرب إلى الجذب، ولم يشتهر بعلم ظاهر، وإنما اشتهر بكراماته التي كانت تروى عنه، وحضرت أحد هذه اللقاءات في منزله بدمشق، وكان الدكتور أمين المصري المفكر الإسلامي المتخرج من الجامعات البريطانية والذي أصبح فيما بعد أستاذاً بكلية الشريعة حاضراً هذا اللقاء على مائدة إفطار في دار الشيخ الحارون بحي المهاجرين بدمشق.

استقبال الشيخ للشخصيات الزائرة:

كانت معظم الشخصيات العلمية التي تزور مدينة حلب تزور الشيخ في داره أو في مقره فيما بعد بمكتبه بجامع الكلتاوية، وكنت في الفترة من العاشرة إلى التاسعة عشرة من عمري أرافق الشيخ في كل مجالسه وزياراته واستقبل ضيوفه وأقدم لهم الشاي الأحمر بكاساته المتميزة، وأستطيع أن أتذكر كل الجزئيات في هذه الفترة من عام 1950 إلى عام 1959، وأعرف على وجه الإجمال حياة الشيخ كلها بعد هذه الفترة، أما الفترة السابقة عن ذلك فلا أعرف عنها إلا القليل مما سمعته على وجه الإجمال من الشيخ نفسه، ولذلك فقد يفوتني الكثير من المعلومات والأسماء والأخبار قبل هذه الفترة.

ومعظم استقبالات الشيخ كانت تتم من عام 1946 إلى عام 1956 في داره التي تغيرت أربع مرات خلال هذه الفترة، ثم بعد بناء الجامع انتقل مكتبه إليه، وأصبح يستقبل أصدقاءه وزواره فيه، ويلتقي فيه بإخوانه ويقضي معظم وقته في غرفته التي دفن فيها فيما بعد في جامع الكلتاوية الذي يعرف بمدينة حلب بجامع النبهاني.

انتقال الشيخ من دار الأسرة إلى دار مستقلة:

قبل عام 1946 كان الشيخ يسكن في دار الأسرة بحي باب الأحمر حيث تسكن الأسرة كلها في دار الوالد الحاج أحمد النبهان الذي كان حياً، وكان أولاده الخمسة يسكنون معه في داره الواسعة المطلة على الحي التجاري المعروف ببرية المسلخ حيث توجد أكبر الخانات التي تباع فيها المحاصيل الزراعية، وكانت التقاليد الاجتماعية تقضي أن يسكن الأولاد في دار الأب إشعاراً له بتقديرهم له، وهو يشعر بالقوة والمنعة لوجود أولاده معه.

بعد وفاة الأب انتقل الشيخ بأسرته إلى دار مستقلة لمدة يسيرة في حي خان الحرير، ثم استقر في داره بحي الكلتاوية قرب الجامع الذي أمضى فيه مجاهداته النفسية، وأمضى قرابة خمس سنوات فيه ثم انتقل إلى دار أخرى واسعة قريبة من هذا الحي تعرف بدار الفاني، نسبة إلى مالكها، وكانت تضم داراً عربية واسعة من الداخل، وغرفة مستقلة عند المدخل لاستقبال الضيوف منفصلة كلياً عن الداخل، وأصبح الاستقبال يسيراً عليه، إذ يمكنه أن يستقبل زواره بحرية، دون أن يؤدي ذلك إلى إرباك الأسرة، ثم انتقل مرة أخرى إلى دار حارة الباشا، وهي دار واسعة جيدة، وتضم غرفة خارجية لاستقبال الضيوف ذات باب مستقل يؤدي إلى الخارج.

ولما بدأ الشيخ ببناء الجامع وتشييد مدرسة ملحقة به أصبح يذهب كل صباح إلى الجامع للإشراف على بنائه، وأخذ يمضي معظم نهاره فيه حتى المساء، وعندئذ انتقل إلى دار جديدة مجاورة للمسجد، وبقي كل من ولديه المتزوجين في الدار القديمة، وهكذا أصبح الشيخ يمضي نهاره في غرفته في المسجد، ويعود في المساء إلى داره المجاورة لذلك المسجد، وهكذا أصبح المسجد هو المكان المخصص لاستقبال الزوار من أصدقاء ومريدين.

خلال المرحلة السابقة كنت أقيم مع الشيخ في داره، وارافقه في كل خطوة من خطواته، في ليل ونهار، وأصلي معه كل الصلوات وكنت أقف إلى جانبه في الصلاة وحيداً على يمينه وتقف النساء في الصف الخلفي، واستقبل الضيوف وأقدم لهم الشاي، وأجلس مع الشيخ في كل مجالسه، وأرافقه إلى كل مكان يذهب إليه، لدعوة أو نزهة أو زيارة مريض، كما كنت أقوم بكل مهمة يكلفني بها خارج الدار، وكان يوقظني في كل صباح قبل الفجر، أصلي معه صلاة النافلة إلى أن يؤذن الفجر، فأصلي الفجر معه ثم يقرأ القرآن بصوت عال، وكانت الأسرة كلها تصلي جماعة وتنصت إليه وهو يتلو القرآن ويفسر الآيات، حتى إذا طلعت الشمس عدنا إلى النوم لفترة يسيرة.

كنت أذهب إلى المدرسة عند السابعة صباحاً وأعود عند الظهر، وكنت أرافق الشيخ في كل نشاطه اليومي، وإذا خرج في المساء خرجت معه ولم أكن أفارقه، كان بالنسبة لي هو الصديق والرفيق، ما ضقت يوماً بحياتي هذه، ولا تطلعت لصداقة خارج نطاق هذه الأسرة الكبيرة من الإخوان الذين كانوا في سن الشيخ أو أقل من ذلك، فكانوا هم أصدقائي، وكنت أضيق بمن كانوا في مثل سني، كنت أرى نفسي صديق الكبار وهم يرونني كذلك.

خلال هذه الفترة التي امتدت أكثر من عشر سنوات كنت أتابع كل شيء وأعرف كل شيء، وأسمع كل كلمة وتصلني كل همسة، أعرف الكبار والصغار، الأجداد والأحفاد، واطلع على أسرار كل فرد وكل أسرة، وكنت المقرب في المجالس والمحترم عند الجميع، يسعى الكل لإرضائي، ويحسدني الجميع على ما أنا فيه، أتشفع فيمن أخطأ، وأتوسط لكل صاحب حاجة، فيسمع كلامي، وتقبل شفاعتي.

في عام 1959 غادرت حلب، وتركت كل شيء بحثاً عن العلم، واخترت حياة الغربة والقسوة، وأصبحت بعيداً سعيداً بما اخترته لنفسي، أنهل من معين العلم، يؤنسني الكتاب، وتغذيني كلماته.

وعندما أكتب عن مجالس الشيخ أكتب عن مجالس عشتها ورأيت ملامحها، وبقيت في مخيلتي صور تلك المجالس، كما كانت، برجالها وأشكالها والأحاديث التي تدور فيها، وعندما أتحدث عن أصدقاء الشيخ ومريديه أراهم أمامي بملامحهم، وكيف يجلسون، وعن ماذا يتحدثون وبماذا يهمسون، إنها لوحات زيتية جميلة ما زالت معلقة أمام مخيلتي، لو رسمتها لجاءت صادقة معبرة عن واقع عشته.. بجماله وجلاله.. بصفائه وكدورته.. بجسده وروحه.

ما زالت صور أولئك الرجال أمامي منتصبة، عندما أرى أحدهم وقد خطه الشيب وأخذ يتوكأ على عصاه تعود بي الذاكرة إلى صورة الأمس كما كانت قبل نصف قرن.. الشيوخ ماتوا والشباب ما زال بعضهم يمشي برفق وهوادة، أراهم فأذكرهم ويرونني فيذكرون ملامحي الطفولية، وينادونني باسمي المحبب إليهم في تلك الأيام، وأناديهم كذلك بما اعتادوا أن يسمعوه مني في تلك المجالس.

وأرى دموعهم تنهمر على خدودهم فأحبس أنفاسي وأمسك دموعي، وأعود إلى غربتي القاسية.. إلى الصمت الرهيب، إلى صحراء الطموح حيث تموت المشاعر الدافئة والعواطف الناطقة، ويدفع الإنسان ثمن أخطائه، ولا يدري أن العمر قصير ولا يتحمل المقامرة فيه ولا المغامرة، فما يذهب لا يعود، وما يفوت مندوم عليه.

كانت دار الشيخ مفتوحة على الدوام لاستقبال زواره من ضيوف وأصدقاء وإخوان، يأتون إليه من غير ميعاد، فيستقبلهم ويخصهم بالتكريم ويشعرهم بالحب والرعاية، كانوا يحبون مجلسه ويرغبون في زيارته، وعندما انتقل إلى داره بقرب جامع الكلتاوية أخذ يستقبل في غرفته بالجامع حيث كانت الأمور ميسرة أكثر من الدار.

لم يكن حديثه مع ضيوفه وزواره حديث مجاملة، كان حديثه عن محبة الله والأدب مع الله وآداب العبادة والنفس والقلب والكمال الإنساني والفضائل، وكان هذا هو ما يشغله.

كان يستقبل الشخصيات التي تأتي لزيارته من علماء ومفكرين ومستشرقين، كان بعض المستشرقين يحرصون على لقائه، ويتلمّسون الجديد من اـفاهيم التي كان يشرحها بتفصيل ويؤمن بها إيماناً راسخاً وعميقاً، وبخاصة فيما يتعلق بمفهوم النفس والقلب والعقل ومعاني المعرفة والكمال والتركيز على مكانة الإنسان في الوجود وما خصه الله به من مزايا وخصائص ومعارف.

لم يكن من عادته أن يتحدث مع زواره وضيوفه في قضايا السياسة والحكم أو في قضايا المال والتجارة أو في قضايا الفقه والأصول، قد يأتي الحديث عنها بطريقة تلقائية، كخبر مروي أو واقعة مثيرة، ثم يعود إلى حديثه المعتاد عن محبة الله وما تخلفه هذه المحبة من أنوار في قلوب المحبين وإشراقات وإضاءات تملأ عليهم كيانهم وتشعرهم بالسعادة التي لا حدود لها.

من أحسّ بشيء في قلبه من أثر تلك الأنوار لا يملك عواطفه، يريد أن يحلق في الفضاء الفسيح بغير حدود ولا قيود، كان يحلق ويريد من كل من يراه أن يحس بما كان يحس به، وكأنه يشرب من بئر عميق تدفقت مياهه لتسقي الأرض العطشى، وتروي القلوب بالماء العذب الذي يزيل كدوراتها وما ترسب فيها من غبار الأرض وحصاها الناعمة.

كان الصدق واضحاً في لهجة الشيخ والإخلاص بيناً، كان مؤمناً بما يقول، وكأنه يقرأ صفحة مكتوبة أو ينظر إلى لوحة مرسومة، كان بعضهم يفهمه جيداً ويشاركه في رحلته هذه عبر مجاهل النفوس والقلوب، وأغوار طبائع البشر، لاستكشاف ذلك النور الذي يضيء المسالك ويطارد الظلمات، لكي تظل القلوب في صفائها الفطري، تنقدح فيها المعارف وتحييها الأشواق وتشدها إلى خالق الكون.

التعريف ببعض الزوار:

وما زلت أذكر أسماء الكثير من الشخصيات التي زارت الشيخ وسمعت منه وتحاورت معه وبادلته الصلة الروحية، وعرفته عن قرب، وترك أثراً في ذاكراتها، وهي شخصيات ذات تميز في مجال الفكر، وذات معرفة عميقة في مجال الثقافة الإسلامية.

واذكر من هؤلاء:

ـ الشيخ أبو الحسن الندوي، المفكر الإسلامي المتميز والداعية الصادق، والمعروف في العالم الإسلامي بكتاباته القيمة عن قضايا الإسلام المعاصرة، وكان قد زار الشيخ في عام 1951 في داره وكتب في مذكراته التي نشرها أنه التقى يوم 4/8/1951 بالشيخ في بيته وقال عنه إنه رجل يمتاز بقوة إيمانه وتأمله في القرآن، ويظهر أنه من طراز خاص يفتح عليه في الدين ويتكلم فيه عن يقين، واعتبر هذه الزيارة مما يستحق التسجيل، وكان الشيخ يذكر هذه الزيارة في مجالسه وأحاديثه ويثني على الشيخ أبي الحسن الندوي، ويصفه بالإخلاص والصفاء ومن أصحاب القلوب، واستنارة قلبه تعطي لآرائه العلمية نوراً وقبولاً، وهذا مما يؤكد التواصل الروحي بين القلوب، وهو تواصل لا ينفصم عراه، ويزداد قوة ومتانة مع الأيام، ولو بعدت المسافات، وقلت اللقاءات ولقاء القلوب أصدق لقاء وأروع عناق.

ـ الشيخ أمجد الزهاوي، علامة العراق ورئيس رابطة علمائها، وكان من العلماء الأعلام اـشهود لهم بالعلم والصلاح والورع، ولما عاد إلى العراق أخذ يحدث إخوانه من علماء العراق عن هذا اللقاء ويشيد بما سمعه من الشيخ من كلام، ويروي إخوان الشيخ ـ العراق بعض ما كان يردده عن الشيخ ـ ـالسه.

ـ الشيخ قاسم القيسي: مفتي العراق، وكان من أعلام الفكر في مختلف العلوم الإسلامية، ومن الشخصيات التي يفخر بها علماء العراق، وقد اشتهر في مختلف العلوم، وهو امتداد لعلماء السلف، وقد اطلعت على رسالة أرسلها إلى الشيخ بعد لقائه به وكان يضمنها حبه للشيخ، وختمها ببيتين من الشعر يبارك للشيخ بالعيد(%1)، ويعتبر لقاءه بالشيخ هو العيد، وكان الشيخ يحبه ويثني عليه ويشيد بصفاء قلبه، ويصفه بأنه من أصحاب القلوب، وتعني هذه الكلمة أنه ممن غلب نور قلبه على ظلمة نفسه، فأورثه الله ثوب التعلق بالله بالمحبة وإيثار الله على غيره.

ـ الشيخ محمد محمود الصواف، وكان من أشهر علماء العراق العاملين المخلصين المجاهدين الذين ينطقون بكلمة الحق ولا يخافون، ويواجهون الباطل ولا يتهيبون من رموزه، كان يحب الشيخ وزاره عدة مرات وكان الشيخ يحبه، وعندما تعرض لبعض المحن في بلده وقف الشيخ يناصره ويحض الشعب الحلبي على مناصرته، وكان الشيخ يصفه بالإخلاص في مجال الدعوة، واستمرت صلتي بالأستاذ الصواف بعد وفاة الشيخ، نلتقي ونتزاور ونتحدث عن الشيخ رحمه الله.

ـ الأستاذ حسن الهضيبي، وهو المرشد العام للإخوان المسلمين وزار مدينة حلب ـ عام 1954، واستقبله سكان حلب بحفاوة كبيرة، وكانت زيارة تارـية، وأرسل الشيخ وفداً يمثله لاستقبال الضيف الكبير خارج أسوار اـدينة، ثم ذهب الشيخ للسلام عليه والترحيب به، وكان يرافق الشيخ جماعة كبيرة من مريديه ثم زار الأستاذ الهضيبي الشيخ في داره بحارة الباشا، وكان يرافقه وفد يضم أكثر من عشرين شخصاً من قيادات الإخوان في مصر وسوريا وقيادة فرع الجماعة بحلب، وكان اليوم يوم ـعة إذ حضروا قبل الصلاة ومن دون موعد، وكان الشيخ وقتها ـ الحمام المعتاد الذي يحرص عليه قبل الصلاة، ومن عادة الشيخ ألا يستقبل أحد ـ هذا الوقت، واضطر الشيخ للخروج من ـامه الأسبوعي اـعتاد لكي يستقبل الوفد الزائر، واعتذروا من الشيخ لحضورهم من غير ميعاد سابق، وكان من ضمن الوفد الدكتور سعيد رمضان أحد قيادات اـماعة في مصر، وكان الشيخ يثني عليه، فقد كان قريباً من فكر الشيخ ومنهجه الروحي.

ـ السيد مالك بن نبي، وهو مفكر إسلامي متميز ومبدع، وهو من الجزائر، وله مؤلفات قيمة عن الظاهرة القرآنية ومباحث في الفكر والحضارة وفي الاقتصاد، واشتهر بأفكاره العميقة في تحليل واقع العالم الإسلامي وشروط النهضة، وزار مدينة حلب والتقى بالشيخ، وسمع منه، واثنى على ما سمع، ولابد أن الشيخ أضاف إليه البعد الروحي في تكوين الشخصية الحضارية، بالإضافة إلى الشروط المادية والعقلية والتقدم العلمي، وهو «الجوانية» التي يدعو إليها الفيلسوف الكبير عثمان أمين، وتشمل الجوانية ذلك البعد الإشراقي الذي يوقظ الشعوب لكي تكون مؤهلة للنهوض الحضاري.

ـ السيد يوسف بن هاشم الرفاعي، وهو شخصية كويتية متميزة بمواقفها الإسلامية وتكوينها الروحي، وكان وزيراً ونائباً عندما زار الشيخ بحلب عام 1968 م، ولما سافر الشيخ إلى الكويت استقبله أحسن استقبال، وكان الشيخ يحبه، ويقدر اهتمامه بالتربية الروحية والتزامه بالمنهج الصوفي، وتنظيم مجالس للذكر والاستغفار، والإشراف على مدرسة لتكوين طلاب العلم الشرعي.

ـ الشيخ عبد الحليم محمود، الإمام الأكبر وشيخ الجامع الأزهر، وهو شخصية علمية رفيعة، وله دراسات وكتب في علم التصوف والسلوك، وهو صاحب مذهب صوفي، وهو حجة فيما يكتب وفيما يدرس، وإخلاقه تعبر عن التزامه السلوكي بالتربية الصوفية، وهو رجل زاهد متعبد وله مواقف شجاعة ويعتز بشخصية العالم وهو مهيب رفيع التهذيب لم يلتق بالشيخ مطلقاً بطريقة مباشرة، وإنما كان يسمع عنه، ويحبه وينقل عنه ويستشهد بأقواله، وفي لقائي به ـ المغرب عام 1973 طلب مني أن أحمل إـ الشيخ تحياته وأنه حريص على لقائه، ولما بلغه نبأ وفاة الشيخ حزن عليه وقال لي بأنه كان يتمنى أن يلتقي به.

ـ الشيخ علوي مالكي، عالم مكة وشيخها الكبير، التقى به الشيخ في مكة أثناء قيامه بأداء مناسك الحج عام 1965 وسمعت الكثير عن هذا اللقاء ولم أحضره، ولابد أن الأرواح قد التقت والقلوب تعانقت، وكان الشيخ يتحدث عن لقاء الأرواح، ولم يكن يهتم بلقاء الأجسام، فالأرواح لا يحجبها المكان والزمان، أما الأجسام بسبب كثافتها فسرعان ما تكون محجوبة.

وهناك لقاءات كثيرة كانت تترك أثراً طيباً في نفس الشيخ، وتقيم جسراً متواصلاً بينه وبين رفاق الطريق حيثما كانوا، وفي أي أرض أقاموا، كان الشيخ يحبهم ويحبونه، وأحياناً يتبادلون التحية وتجمعهم محبة الله وتعشق الكمال، ويعاهدون أنفسهم على أن يلتزموا بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته وحياته، ويحبون ما أحب ويكرهون ما يكره، ويأخذون بسنته ما كان منها في مجال البيان والتشريع أو ما كان مما يدخل ضمن حياته الشخصية، ويرون في ذلك الكمال الإنساني الذي يجسد الفضائل.

كان الشيخ يتحدث في مجالسه عن الأرواح التي تتعارف قبل أن تلتقى أجسادها وتتعانق بالرغم من تنائي الديار وتباعد الأماكن، وهذا هو اللقاء الأبقى والأخلد، لقاء الأحبة في رحاب الله، حيث لا تتنافر النفوس ولا تتزاحم على طلب الدنيا، ولا تحجبها المطامع والأهواء، فالعالم الذي كان يحبه الشيخ ويسعى إليه هو عالم بلا حدود، وأخوة في الله صادقة، وإخلاص النية وسمو إلى الأفضل، والتزام بقيم إنسانية عالية.

وكان يقول لإخوانه: «كونوا معي بأرواحكم لا بأجسادكم، كونوا حيث شئتم في أعمالكم ومنازلكم، ولكن أن تظل قلوبكم معي بصفائها ونقائها، بمحبة بعضكم وخدمة الضعفاء منكم وأن تفعلوا ذلك لا لغرض أو مصلحة، ولكن قياماً بحق الله عليكم نحو الآخرين».

وكان يقول لهم: «ليس المهم كثرة الصلاة والصيام ولكن المهم أن تثمر العبادة في قلوبكم طهارة واستقامة ونزاهة ومعرفة بالله تعالى، ابحثوا عن الثمرة المرجوة من العبادة، ولا تثمر العبادة إلا بالتزام آدابها تواضعاً لله ومحبة له وإيثاراً للآخرة على الدنيا».

كان زواره يخرجون من مجلسه وقد حملوا في قلوبهم أثراً من حديثه الذي يشرق في قلوبهم صفاءاً ونوراً، ويوقظ في أعماقهم صحوة يقاومون بها ضعفهم الإنساني، وتعيدهم إلى دفء المشاعر الفياضة التي تبعثها في النفس ينابيع الفطرة السليمة التي جعلها الله مرآة صادقة للتجليات الإلهية.

وأهم ما كان يدعو إليه في مجالسه تلمس نور اليقين في القلب، ولا يتحقق نور اليقين إلا بالمعرفة، وطريق المعرفة هو حفظ الحواس عن ارتكاب الآثام وحفظ القلب عن كل الخواطر السيئة التي تعكر المزاج وتبعد الإنسان عن القيام بصالح الأعمال.

( الزيارات : 1٬933 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *