عمل السيد النبهان وكسبه

كانت تقاليد العائلات الكبيرة أن تعيش الأسرة كلها في كنف الأب، وألا ينفصل أحد من الأبناء عن الأب لا في داره ولا في عمله، فدار الأب هي دار لجميع أبنائه ولو تزوجوا وأنجبوا، وعمله هو عمل للجميع يساعده أبناؤه فيه، ويبقى مال الأسرة واحداً، لا يوزع ولا يقسم، يأخذ كل ابن ما يحتاجه لحاجاته وحاجات وأسرته.

لم يكن الشيخ ليخرج عن هذه التقاليد وهو البار بوالده، الأولى باحترام ما يريده الأب وما يسعده، كان الأب يعمل في الزراعة والتجارة، وله خان معروف باسمه، وكروم للفستق وأملاك متفرقة.

ربما شعر الشيخ أن حريته في اختيار عمل مستقل له لا يسعد والده، ولم تكن له حريّة مطلقة في الإنفاق من مال أبيه على مساعدة من يحتاجونه، ولم تكن أخلاقياته تسمح له أن يتعامل كالآخرين في مجال العمل، وما يتطلبه ذلك من ومجادلة ومشاحنة.

ولم ينفرد بعمل من أعمال الكسب عن أبيه، وكانت له ديون عند آخرين ربما كان يتعامل معهم أو بسبب قرض لم يطالبهم به، انطلاقاً من خلقه المتميز بالسماحة في حقوقه وهذه صفة استمرت ملازمة له في حياته كلها، فكان يخجل أن يطلب حقاً من حقوقه أو يستعيد ديناً له في ذمة الآخرين، ولم أسمعه يوماً يشكو من أحد بسبب دين له عليه، أو يتحدث عنه بما يكره.

الرزق والعمل:

كانت قضية العمل منفصلة كلياً في ذهنه عن قضية الرزق، ولم يتحدث قط عن الرزق في موطن حديثه عن العمل، فالرزق من أمر الله، الذي يرزق من يشاء بغير حساب، والله هو الرازق لعباده وأن الرزق محسوم أمره ومقدر منذ الأزل، ولا يجدر بالعبد أن يشغل نفسه بأمر الرزق وكان يردد الآيات القرآنية:

{{ع94س56ش2ن52/س56ش3ن55} [الطلاق: 2 ـ 3].

{{ع94س2ش212ن51/س2ش212ن002} [البقرة: 212].

{{ع94س2ش3ن1/س2ش3ن88} [البقرة: 3].

والآيات القرآنية واضحة الدلالة على أنَّ الله تعالى ضمن رزق عباده تطميناً لقلوبهم، وربط الرزق بالأسباب لحثهم على العمل والكسب، والرزق مقسوم منذ الأزل والعمل مطلوب لذاته وهو عبادة، ولا ينبغي للعبد أن يشغل قلبه بأمر الرزق المضمون له والذي تكفل الله به، وهذا لا يمنعه من السعي المحمود في الدنيا، لأنَّ أمر الدنيا لا يستقيم إلا بالعمل والإنتاج والسعي فيها بما يؤدّي إلى عمارتها.

والعبد مطالب بحسن الأدب مع الله في طلب الرزق، تعبيراً عن معنى العبدية لله تعالى، والإلتجاء إليه ومناجاته والإجمال في الطلب بما يستدعيه حسن الأدب، فالله تعالى هو الأعلم بما يحتاج إليه العبد وما يكفيه وما تستدعيه الحكمة من توقيت الإجابة، والله الذي تكفل برزق الطيور ودواب الأرض في الصخور والغابات والصحارى قادر على أن يرزق الإنسان ما يكفيه لاستمرار حياته، وأن يعطيه ما يغنيه بشرط ألا يهتز يقينه بالله وألا يضعف إيمانه برزق الله له وألا يشغل قلبه بهذا الرزق، وألا يشعر بالخوف من انقطاع الزرق، فالتوكل على الله في قضايا الرزق أمر مطلوب وأدب مستحب ومندوب إليه، ومن انصرف إلى ربه وانشغل بما أمره به من الطاعات وخدمة خلق الله فالله يتولى رزقه وكفايته.

ولم يتكلم عن الرزق والكسب بما اعتاد الناس أن يتكلموا بمثله، ولم يشغله هذا الأمر مهما ادلهمت الأحوال وساءت، ولم يتحدث عن غد إطلاقاً، فكلمة المستقبل غير مستحبة في نظره يضيق عند سماعها، ويتبرم من ترديدها، وكأنها تصدم سمعه.

قضية الرزق كانت خارجة عن نطاق اهتمامه وتفكيره، وكان يتحدث عن أغنياء شكوا إليه أمرهم، وانهم يصابون بالذعر والخوف وينتابهم المرض والذهول وتشحب وجوههم لمجرد خاطر يخطر ببالهم أن يذهب مالهم ويصبحوا فقراء، كان يعتبر ذلك من ضعف الإيمان بالله وعدم التوكل عليه، ولو استنارت قلوب هؤلاء لأوكلوا أمرهم إلى خالقهم المتولي لأمرهم، وسوف يتولاهم كما يتولى باقي خلقه، وعاشوا سعداء لا أشقياء، مطمئنين لا خائفين ولا وجلين ولا متهيبين.

كان يندد بأصحاب التدبير الذين يخططون ويدبرون ويرسمون لمستقبلهم ولا يؤمنون بأن المستقبل بيد الله وهو الذي يدبر أمره لخلقه، والتدبير مع الله هو الجهل بعينه، وما لهؤلاء المدبرين مع الله لا يفقهون معنى أن يتولى الله تدبير شؤونهم ثم يسلمون ذلك إلى ربهم.

لم أسمعه قط يتكلم عن مستقبل أسرته وأولاده، لم يفكر قط في شراء دار لاستقراره أو لادخار مال لأجل أولاده، أو لحسابات الربح والخسارة في أعماله… كان كل ذلك خارجاً عن نطاق تفكيره، وكأنه لا شيء يشغله من أمور الدنيا.

رآني يوماً شارداً مهموماً وكنت في السادسة عشرة من عمري، سألني عما أفكر فيه فقلت له:

ـ أفكر في مستقبلي وأخطط له.

أجانبني بأسف وبلهجة حانيّة ودودة:

(لا يا ولدي.. لا تقل هذا ثانية. المستقبل بيد الله، إن كنت صالحاً فسوف يتولى الله أمرك بالرعاية والتوفيق والسداد).

ما زال أثر تلك الكلمات القليلة التي لم أفهمها يومها ولم تصل إلى قلبي يوقظني في كل موقف من حياتي، يعيد إلي الأمل والابتسامة في لحظات الإحباط والقنوط، استعيد بها ثقتي بالله، وأجد فيها البلسم الشافي الذي يمدني بالقوة والنشاط، ما أجمل أن يشعر العبد بأن الله يتولى أمره ويرعى شؤونه، إنه شعور بالقوة الذاتية، إنه سلاح يقاوم به العبد ذلك الشعور العميق من الخوف الدفين في أعماق الذات الإنسانية.

موقف الشيخ من العمل:

العمل عبادة وهو أمر واجب، أمر الله به عباده، ولا مكان للكسل والتواكل والاعتماد على الغير في حياته، كان قمة في النشاط لا يفتر أبداً، ولا يتهيب من العمل أبداً، وكأنه رسالة، لم يكن يحسب الأمور بمعايير الربح والخسارة، وإنما يحسبها بمعايير العمل النافع والضار، فما ينفع الخلق فهو عمل مفيد ويجب عمله، وما يضرهم فيجب الابتعاد عنه.

كان قلبه قوياً في العمل يقتحم كل الصعاب بغير تردد، لا يفكر في حسابات الخسارة، فما يجب من الأعمال يقوم به من غير تردد، يدخل إلى الأرض المقفرة، أرض الموات، الأراضي الجافة التي لا ماء فيها ولا شجر، فيحيلها بعد فترة من الزمن إلى جنات تجري فيها المياه من أقصاها إلى أدناها، وكأنها أنهار، ويزرع الأرض بالأشجار فتصبح بعد فترة بساتين مخضرة مزروعة بأنواع الفواكه والخضار، ويحفر الآبار في أعماق الأرض فتخرج مياهها العذبة التي تجري في مزارعه، فتحيي أرض الموات وتعمرها ويفرح وهو يراها كذلك، ويمشي في حقولها سعيداً بما سعى إليه من عمران هذه الأراضي.

لست مبالغاً فيما أقول، وأعرف أن إخوانه وأصدقاءه سيقرؤون ما اكتب، ويعرفون جيداً أن ما أسجله هو القليل مما كان يفعل، كانت ورشات العمل التي يبنيها كلها بإرادته وتوجيهه تعمل ليل نهار ولا تتوقف، وعندما كانت كوارث الطبيعة كالفيضان تهدم ما بناه في الأرض من مظاهر العمارة، يعيد البناء، وكأنه لا شيء حصل، فالعمل عبادة دائمة ومستمرة.

لم أجده يوماً في حالة يأس وإحباط، وإنما كان في حالة ابتسامة دائمة وأمل بالله كبير، كان القوة التي يشعر الجميع بها، ويستمدون منه الشجاعة والثبات والمثابرة.

ونقطة القوة لديه هو الإيمان بالله والتوكل عليه والله هو الرازق، وأما العمل فهو عبادة دائمة، لا يرتبط بالربح والخسارة، وإنما هو مسيرة مستمرة لا تتوقف، لإحياء الأرض، ولعل هذا هو السبب أنه لم يكن يحب التجارة والصناعة وإنما كان يحب الزراعة لأجل الأرض كي تكون جميلة ومزهرة وخضراء.

في بداية أمره وقبل أن يشتغل بالزراعة، كانت باحة جامع الكلتاوية القديم حديقة رائعة تضم أجمل غرسات الورود والزهور ذات الأشكال والألوان المختلفة، وتتوسطها بركتان واسعتان تخرج الماء منهما في أشكال هندسية رائعة، ويشرف بنفسه على تقليم تلك الأغصان وتشذيبها، ويمسك بمقصه ليقطع اليابس منها ويعيد المتطاول منها إلى فضائه الخاص به، وتعقد جلساته الروحية وسط تلك الحدائق الغناء التي شهدها الجيل الأول من إخوانه، وكنت لم أتجاوز السابعة من عمري، كنت أرى وأشهد مجالسه الأولى بعد صلاة العصر يوم الجمعة حيث تفرش السجاجيد العجمية والفرش الأنيقة، وتدار كؤوس الشاي على الحاضرين الذي يتحلقون حوله في دائرة واسعة، يحضرها العشرات من إخوانه.

قرية الجابرية:

كانت قرية الجابرية هي المشهد الأول الذي ما أزال أذكره، وما قبله لا أذكره، كنت صغيراً، والجابرية هي التي شهدت طفولتي الأولى، واستمرت لمدة خمس سنوات تقريباً.

تقع الجابرية في الجهة الجنوبية من مدينة حلب على مسافة ساعتين مشياً على الأقدام، عشرة كيلو مترات عن المدينة، ويبتدىء الطريق إليها من حي الأصيلة وباب المقام وجامع الصالحين على مشارف المدينة، ثم يبتدىء الطريق الزراعي غير المعبد ماراً بقرية أم سعيد التي تتوسط المسافة، ثم يصل المسافر إلى التل المشرف على عين مبارك، حيث تقع قرية الجابرية الصغيرة قبل قرية الوضيحي.

وتقع القرية في أرض منبسطة واسعة لا أشجار فيها، وهي الأرض البعلية التي تزرع بالقمح والشعير والعدس والجلبان، وإلى الجهة الغربية من القرية تقع بساتين الجابرية، وهي سبع بساتين رائعة الجمال يمر في وسطها نهر صغير هو من بقايا نهر قويق الذي يعبر مدينة حلب، وتغذي هذا النهر الصغير ماء عين مبارك في أسفل تل الجابريّة والبساتين رائعة الجمال غزيرة العطاء، تزرع فيها أشجار الجوز واللوز والفواكه المختلفة، لتجعلها وكأنها غابات خضراء وتحاط بالبساتين كروم العنب وأشجار الزيتون، ويخترق القطار الحديدي المسافر إلى دمشق وبيروت هذه البساتين، ويتوقف في محطته الأولى في قرية الوضيحي.

كانت القرية ملكاً لأسرة الجابري، وهي من أشهر الأسر الثرية المعروفة بمكانتها الاجتماعية وثرائها، ولم يكن صاحبها قادراً على إدارة شؤونها، فاستأجرها الشيخ من مالكها بكل ما فيها، وما زلت أذكر ذلك الثور الكبير العريق الذي كان يحرث الأرض مع البغال، ويأتي المزارعون من المناطق البيعدة بأبقارهم إلى الجابرية لكي يقوم ذلك الثور القوي الضخم بتشبيب الأبقار لكي تنجب منه ما يشبهه في الشكل والقوة والضخامة والأصالة، وكان هناك كلب أسود عظيم الوفاء يقف عند الباب الخارجي يحرسه بأدب، واصبح صديقاً للأسرة يعامل بكل الرعاية، وينادي بأحب أسماء التودد إليه، وتخصه الأسرة بأجود الطعام وأطيبه، رعاية لأمانته ووفائه، ما زلت اذكره وكأنني أراه أمامي واسمع صوته الهادىء وهمسه، وإذا وجد غريباً فسرعان ما ينقلب إلى ثور هائج لا يسكت نباحه إلا بعد أن يأتي إليه أصحاب الدار وكانت هناك فرس أصيل اسمها «الدهمه» كان الشيخ يملكها من قبل، وجاء بها إلى القرية، كانت قد تجاوزت سن التمرد والشباب وأصبحت أكثر حكمة في سيرها وهدوءاً في جريها، لا تخيف من ركبها، ولو كان من غير الفرسان، ولا تغدر به ولو اكتشفت ضعفه أو صغره أو قلة حيلته في عالم الفروسيّة، ولذلك أحببتها وصادقتها ولم تغدر بي أبداً بالرغم من اكتشافها أمري وأنني ما زلت صغيراً على الركوب، ولما استبدلتها يوماً بغيرها رمتني أرضاً وكسرت يدي والزمتني الفراش.

رافقت الشيخ في رحلته الأولى إلى القرية، كانت الأسرة كلها هناك، كنت أسمع في الليل أصوات «الدياب» وهي تقترب من القرية تبحث عن الأغنام الضالة التي خرجت في الليل أو الأبواب التي لم يحكم أهلها إغلاقها، فأخاف وأرتجف، وأسمع في صباح اليوم التالي أخبار تلك الهجمات الإرهابيّة على معاقل الحيوانات البريئة المختبئة داخل أسوار القرية.

ذكريات مضت، أكثر من نصف قرن، وما زلت أذكر دقائقها التي رسمت لي لوحة في خيالي، وهي أول اتصال لي بالعالم الخارجي، وبخاصة في حياة الريف.

كانت القرية داراً واسعة ممتدة محاطة بالأسوار والقباب الطينية، ويتوسطها بئر عميق تسحب المياه من جوفه بواسطة «مضخة حديدية» منصوبة على فمه، وترفع المياه بواسطة مقود يرفع ويخفض فيتدفق الماء إلى الأعلى.

وكان هناك بابان للقرية، الباب الغربي ويؤدّي إلى دار الشيخ المحاطة بسور حجري يحجبها عن الفضاء الشرقي الذي يسكن الفلاحون فيه، ويضم بيوتاً وقباباً متصلة، ويتوسطها إسطبل الدواب الذي يضم الثور الكبير وبغال الحرث والفلاحة، وتمتلىء هذه الساحة الواسعة بالدجاج الذي يسير باستعلاء في هذه الساحة الواسعة باحثاً عن حبات القمح المنثورة في ثنايا التراب.

حياة الشيخ في الجابرية:

كان الشيخ يقضي معظم الصيف في الجابرية، ترافقه أسرته، ويسكن في داره الخاصة المطلة على المنطقة الغربية، التي تتوسطها البساتين التي يمرّ القطار بالقرب منها، في ذهابه وإيابه.

وكان يستقبل إخوانه في هذه القرية في كل يوم، يقضون يوماً أو يومين وهناك فريق يلازمه باستمرار خلال إقامته، ويقضي معظم الفترة الصباحية في غرفته التي كان يستقبل فيها ضيوفه، وتكون مجالس مذاكرة وتوجيه وتربية، وإذا صلى العصر خرج من داره يرافقه إخوانه في طريق يمتد من القرية إلى الجهة الغربية حيث تقع فيها البساتين الخضراء، ويمشي على رجليه غالباً من العصر إلى المغرب، ويعود عند الغروب إلى القرية ليؤدي صلاة المغرب، ويتناول عشاءه، ثم يواصل مجالسه في المساء، وقد تمتد لمنتصف الليل في ضوء القناديل الزيتية، وأحياناً يختار الجلوس في ضوء القمر في ليالي الصيف والتي اشتهرت هذه المنقطة بهوائها الجاف العليل ونسماتها الباردة التي تشبه نسمات البادية.

كان إخوانه يزورونه في كل يوم، حيث تخرج الحافلات القديمة من حلب عند العصر لتعيد أهل الريف إلى قراهم وبيوتهم، بعد أن يقضوا حوائجهم في المدينة، وتعود الحافلات إلى المدينة عند الصباح حاملة معها سكان القرى، عابرة الطريق الترابية التي لم تكن معبدة في تلك الأيام، فيأتي الإخوان في هذه الحافلات عند العصر، ويقضون فترة المساء في القرية مع الشيخ، ويعودون في رحلة الصباح إلى المدينة لمتابعة أعمالهم.

لم يضق هذا الشيخ يوماً بزيارة إخوانه وأحبابه، كان يستقبلهم بحفاوة ويحتفي بهم، وينزلهم على الرحب والسعة من غير تكلف، يأكلون مما يأكل، ويشربون مما يشرب، وينامون في الأماكن المخصصة للضيوف، يرافقونه في رحلة المساء إلى البساتين ويسهرون معه ويحضرون مجالسه في الليل، ويستمتعون بنسمات الصباح الباردة، فإذا عادت الحافلات إلى المدينة في الصباح حملتهم معها.

وفي يوم الجمعة تبتدىء مواكب الزوار من أحبابه الإخوان في القدوم إلى القرية منذ الصباح المبكر في حافلة خاصة كبيرة، يقضون النهار كله في رفقة الشيخ، المهيب الطلعة وهو يعدّ لهم خيمة كبيرة في مكان بجانب النهر تحت أشجار البساتين، ويفرح وهو يشاهدهم ويستمتعون ويمارسون هواياتهم المحببة من التسلق على الأشجار والجري في الممرات الخضراء والسباحة في النهر وركوب الخيل والرماية.

وغالباً ما كان الشيخ يغيب عن المكان ليترك لهم حرية الحركة والمتعة وإعطاء النفس حقها من الاستمتاع بمباهج الحياة مما يؤنس النفوس ويريحها ويخفف عنها من أعباء الهموم اليومية.

ما زلت أذكر مناظر أصحابه كانوا في قمة شبابهم يركضون في الحقول ويتسلقون الأشجار الكبيرة ويرمي بعضهم البعض الآخر في النهر، ويمتطي أحدهم فرساً فتندفع به بقوة فيصرخ خائفاً متوسلاً أن يمسكوا بمقودها، والشيخ ينظر إليهم من بعيد ويفرح بهم ويبتسم لما يراه، ويأتي إليه شاك فيشكو صديقاً له أخافه وأرعبه، فيفرح الشيخ، ويحضهم على المحبة والإيثار وأن تكون قلوبهم صافية نقيّة تحب في الله وتبغض في الله.

ويرتدي الشيخ ملابس الفروسية التي اعتاد أن يلبسها عند ركوب الخيل، ويقفز فوق فرسه وكأنه شاب في مقتبل العمر، ويردفني خلفه، ويوصيني أن أمسك به بقوة، ويعود إلى القرية بعد قضاء يوم جميل بين، وأشعر وأنا خلفه كأنني أمسك بالقمر بين يدي شعوراً بالفرحة وإحساساً بالبهجة.

وفي المساء يبتدىء مجلس الشيخ بالمذاكرة، لا تعارض بين ما وقع في النهار من متعة وأنس وبهجة وبين ما يكون في الليل من تربية وتكوين وإحياء للقلوب وتهذيب للنفوس، فهذان أمران لابدَّ منهما لكمال الحياة وجمالها، فالجلال والجمال كلاهما يمثلان الحقيقة في نظرتها الشمولية النهار والليل يترادفان، كل منهما يكمل الآخر، ولا يستقيم الكون إلا بعناقهما وولوج أحدهما في الآخر.

هذا جزء لابد منه لمعرفة ملامح شخصية الشيخ، فالحقيقة لا تتضح معالمها إلا باستكمال كل جوانب المعرفة بكل ما يحيط بها، ولابد في التربية من معرفة طبائع النفوس وما تنطوي عليه من قابليات.

علاقته بالفلاحين:

كل من كان في القرية كان من إخوان الشيخ، لم يكونوا كذلك من قبل، ولما عرفوه التزموا معه، وساروا على نهجه، ولما رحل عن القرية بعد سنوات لم يرحلوا مع القرية بل رحلوا معه، واستمرت صلتهم به، وكانوا يريدون أن يكونوا معه حيث كان.

لم يشعر يوماً أنه مالك الأرض وسيدها، كما هو الشأن في كل من ملك شيئاً كان شعوره أنه يؤدي أمانة وكل من أؤتمن فعليه أن يؤدي ما أؤتمن عليه، وأمانته أن يعمر هذه القرية بالجهد والعمل، وأن تكون أسرة القرية متحابة متعاونة يسعى الكل لخدمة المجتمع، وكان من حق كل من كان في هذه القرية أن يأكل من خيراتها بالمعروف وبما يضمن له حق الكرامة في العيش والسكن واحترام إنسانيته، كان يريد أن يأكل الجميع فحق الحياة ثابت لكل إنسان.

أهمية العمل الجماعي:

وذات صباح جاءه إخوانه من الفلاحين العاملين في القرية يشكون له ما يعانون من مشقة بسبب ضيق المكان وقلة القباب المعدة للسكن، تألم لحالهم وأدرك أنَّ ما يطلبونه هو حق ولابد إلا أن يكون معهم وفي اليوم التالي جمع كل العاملين في القرية، وأخبرهم أنَّ إخواناً لهم لا يملكون مكاناً لسكناهم، ودعاهم إلى اللحاق به في الربوة المطلة على النهر، وقال لهم: من هذا التراب سنصنع اللبنات الذي تبنى به قباب القرية، وشرع في صنع اللبنات الترابية حتى إذا ما تم صنعها وجف ترابها أمرهم بنقلها إلى القرية، وبنيت بها القباب الجديدة، وكان الكل يعمل بحماس ونشاط، في الليل والنهار، كان معهم في كل خطوة، كان الكل يساعد الكل، والكل يعمل لأجل الكل.

لم يكن من عادته أن يأمر إخوانه بشيء، إذا أراد شيئاً بدأ فيه بنفسه، وأخذ يعمل فيه بيديه، وسرعان ما يسرع الكل إلى العمل بنشاط وحماس لا يتخلف أحد عن عمل عام، لخدمة الآخرين، ولابد من التكافل في الأعمال والتآزر في كل جهد، ليكون العمل لله، ومن كان في عون أخيه كان الله في عونه، والخلق عيال الله وأحبهم إلى الله أكثرهم خدمة لعياله ومن خدم أخاه سخر الله له من يخدمه في الأزمات والصعاب.

ومن العادات المألوفة في العمل الزراعي أن الفلاح يقترض خلال العام كله المال الذي يكفيه لشراء حاجاته الضرورية، فإذا كان آخر العام استرد رب المال من محصول الأرض ما أقرضه للفلاحين، فإذا لم يكف المحصول لسداد ما عليهم أذلهم بسبب ماله في ذمتهم من دين، وارتهن ما عندهم من دواب أو مواشي وقطع عنهم ما يحتاجونه لعامهم الجديد من مؤونة الطعام.

كان الشيخ يندد بهذه المعاملة غير الإنسانية، ويقول لمزارعيه: إذا لم تأتكم مواسم تكفيكم، فما أكلتم وما أنفقتهم هو حق لكم فلا تعيدوه إلي ولا تسددوه، ولا يمكن أن يضيع جهدكم.

وفعلاً لم يطالب أحد مزارعيه بأن يرد ديناً عليه، فإذا احتاج أحدهم لطعام أو كساء أو علاج أعطاه بلا تردد، وإذا أصيب بعجز أو كان عائلاً تولاهم بالرعاية وأعانهم على أمرهم.

كان يربح الكثير، ويعيد ما ربح على من يحتاجه، ولا يأخذ من ربحه إلا ما يكفيه لمصاريفه الضرورية التي لا ترف فيها، ولم يكن يعرف أي نوع من أنواع الادخار، ويضيق بهذه الكلمة، وينظر إلى المال نظرة السيد إلى عبده الذي يخدمه بإخلاص ويلبي حاجاته، ويؤكد على الدور الاجتماعي للمال في التخفيف من مظاهر الجوع في المجتمع، وأن مالك المال له الحق في أن ينفق منه على حاجاته ومطالبه ثم يوجه الباقي إلى المحتاجين الذين لا يجدون الطعام والملبس والسكن.

توجيهاته في العمل:

كان الشيخ يقضي الصيف وبعض أيام الربيع في الجابرية، فالربيع جميل في الريف حيث الخضرة والشمس الدافئة، والنفس تشتاق إلى ربيع الريف، لأنه يمثل الشباب والحيوية والتجديد، ويضيق بالخريف لأنه يمثل الغروب والشيخوخة والحزن، أما الصيف فهو شهر العطاء والثمار، وفيه ينضج كل ما هو عسير يودع الناس أحلامهم الوردية قبل أن يداهمهم الخريف الذي تسقط الأوراق فيه.

وأول ما يلفت النظر في شخصية الشيخ هو حبه للحياة بكل جمالها، وتعشقه للطبيعة الخلابة واستمتاعه غير المحدود بجمال الريف ونسماته العليلة وأزهاره وثماره اليانعة، ولهذا لم يتبرم يوماً بالحياة ومشقاتها، ولم يستسلم يوماً لاحباطاتها وابتلاءاتها.

لم تكن الزراعة بالنسبة له مهنة وإنما كانت متعة يحقق بها ذاته، كان يريد أن يكون كل شيء جميلاً في مظهره نظيفاً في شكله متقناً في أدائه، وكان ينفق بغير حدود لكي يكون العمل متقناً لا نقص فيه ويكره الذين لا يتقنون أعمالهم والذين يهملون في أداء واجباتهم، ويعتبر هذا الوصف مما لا يليق بالإنسان.

ومما كان يعجبه في خلانه ومساعديه أن يكونوا رجالاً في مواقفهم حكماء في آرائهم ومن ذوي المروءة والشجاعة والسخاء، لا يهابون ولا يخافون إذا قالوا فعلوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا.

ولما أراد أن يغادر القرية أخذ يبحث عمن يسند إليه مهمة الإشراف على شؤونها، واختار من أهل القرية شاباً في مقتبل العمر، وربما يكون هو الأصغر سناً، وقد اختاره لما وجده فيه من خلق وشجاعة واستقامة، وأوصاه بأن يكون المسؤول عن شؤون القرية يدير شؤونها ويشرف على العاملين فيها.

وأوصاه عندما كلفه بهذه المهمة بأن يرعى حقوق الله في احترام حقوق الفلاحين، وأن يشعرهم بالكرامة وألا يسيء لأحد منهم، وأن يكون قريباً من قلوبهم وأن يعاملهم بالإحسان، وأن يترفع عما يصدر منهم من هفوات، وألا يظلم أحداً منهم، وأن يحترم كبيرهم ويراعي المستضعف منهم.

وفي أيام الموسم في بداية الصيف كان الشيخ يذهب إلى القرية يشرف على الحصاد والرجاد والدراس والذراية، وهي مصطلحات كنت اسمعها في ذلك الحين، وفي أيام الحصاد كانت القرية تمتلىء بالعشرات من العمال الذين يهجرون قراهم في هذه المناسبة للمشاركة في حصاد المواسم، قبل ظهور ماكينات الحصاد، وكان الشيخ يوصي وكيله بأن يكرم هؤلاء العمال وأن يعتني بطعامهم ومكان إقامتهم، وألا يرهقهم فيما لا يطيقون، وأن يلتمس أعذارهم في حالات المرض والشيخوخة وألا يكلف الأطفال ما لا يطيقون.

ثم ينقل الزرع المحصود إلى مكان يسمى البيدر، الذي تجمع فيه المحاصيل الزراعية بسنابلها، ويتم تجريد الحبوب من سنابلها بواسطة دراسة أسنانها حديدية تمزق السنابل إلى أن تصبح تبناً ناعماً، ثم تفرز الحبوب من التبن بواسطة الهواء الذي يدفع التبن بعيداً وتبقى الحبوب.

كنت أقضى النهار المشمس في البيدر انتقل من دراسة تقودها البغال إلى أخرى، واستمتع بركوب تلك العربة الخشبية المتهالكة، ولما رآني الشيخ وقد أحمرت وجنتاي قال لي:

هل أدلك على أفضل من هذا يمتعك ويبعدك عن حرارة الشمس وأعطاني أربعة أغنام وطلب مني أن أرعاها في البستان على أن أعود قبل الغروب، وقال لي: رعاية الأغنام تشعرك بالإنس معها، وتمتعك بما تشعرك به من الإلفة، وأخذت أصحو مبكراً لكي أرعى أغنامي، ويسألني الشيخ عنها هل أطعمتها واخترت لها الأرض الخصبة ؟.

وذات يوم وبينما كنت أمشي إلى جانب النهر انزلقت إحداها وانغرست أقدامها بالأوحال وعجزت عن الحركة، ووقفت حائراً متردداً أبحث عن منقذ يخرجها من ذلك الوحل، وجاءني البستاني مسرعاً، وأنقذ تلك الشاة المسكينة، ولما جاء الشيخ حدثه البستاني بما وقع لتلك الشاة، ابتسم الشيخ وقال لي بلهجة جادة:

«يا ولدي إذا وليت رعاية فأحسن الرعاية، وكل راع مسؤول عن رعيته، فإذا قصرت في رعايتها غاصت في الأوحال، ولو أبعدتها عن تلك الأوحال لما تعرضت لذلك الخطر».

تلك كلمات كنت أسمعها في طفولتي المبكرة، لم أكن أعيها في ذلك الحين، ولا أدرك معانيها ودلالتها، ولكن لا أدري كيف بقيت في ذاكرتي حية ناطقة، لم تعبث بها الأيام، أذكرها في كل حين في كل موقف مشابه لذلك الموقف، تنتصب أمامي وكأنني اسمعها من جديد.

وكان من عادة الشيخ عندما يخرج محصول الحبوب يذهب إلى البيدر، ويجتمع رجال القرية حول المحصول، ثم يتقدم أحد الرجال حاملاً بيده الكيل وهو إناء خشبي كبير تكال به المحاصيل، وتوزع الحصص على أصحاب الحق، كل بحسب سهمه وحصته، ويحمل كل فرد محصوله إلى داره، فإذا كان المحصول قليلاً لا يكفي لسداد دين المزارع يقول له الشيخ: خذ ما يكفيك لعامك هذا، فنحن نملك ما يكفينا، ومن حقك أن تأخذ ما يكفيك ولا تطمع فيما هو زائد عن حاجتك.

كانت فترة الجابرية هي الأجمل والأكثر صفاءً، ربما بسبب قربها من المدينة أو بسبب بساطة العيش فيها، كانت مجالسها جميلة ورائعة كان روح الأسرة الواحدة بين تلامذة الشيخ غالباً وواضحاً.

في تلك الفترة تعلمت الدروس الأولى في التربية، ولم تكن دروساً نظرية، إذ لم أكن أفهم الكثير من كلام الشيخ، ولكنني مازلت احتفظ بالكثير من المواقف والذكريات، وكنت أنهل منها الكثير من القيم والدروس التي كانت تغذيني وتعلمني.

وأهم ما كان يلفت نظري في هذه الفترة صدق الإرادة لدى الإخوان، كانوا أقل عدداً وأكثر صدقاً، ويغلب عليهم الصفاء، حيث كانت الحياة بسيطة وميسرة.

انتهت فترة الجابرية وبقيت ذكرياتها، وما زال العشرات من رموز هذه القرية، وإخوانها يذكرون أيامها، أراهم اليوم واذكرهم، معظم الجيل اللاحق لم يعش أيام الجابرية، كان بعضهم لم يولد بعد، وبعضهم كان في مهد الطفولة الأولى، ولم يكن الجامع قد بني بعد، ولا المدرسة، حيث انتقل نشاط الشيخ إليهما، وانصب اهتمامه على إنشائهما.

وعاش تلك المرحلة الأولى الجيل الأول من الإخوان من أمثال أبو عمر الدباغ وفوزي شمسي وأحمد الصغير ومحمد ربيع ومحمد المهندس وأديب حسون ورشيد الناشد ومحمد الشامي ووحيد العتر وعبد اللطيف العتر وحسان فرفوطي وعمر الططري وسليم التبان وناظم الفرا وظافر دباغ وزهير النعساني ومحسن بوادقجي وعبد الله عزو خشبه ومحمود الناشد.

قرية الكيصومة:

انتقل الشيخ إلى قرية الكيصومة التي تقع إلى الشرق من حلب، في الطريق المؤدي إلى الجزيرة ودير الزور بالقرب من «قرية مسكنه» وكانت الكيصومة قرية كبيرة ممتدة، ليس فيها بساتين وأنهار، بل هي أرض بعليه تسقى من ماء المطر، وتزرع الحبوب فيها.

اشتراها الشيخ، بالاشتراك مع آخرين، وكان يريد أن يقيم فيها مشروعات فلاحية واسعة ويخرج الماء من أعماق الأرض، لكي يجعلها سقوية، ولكن هذه القرية كانت لها مشاكل كثيرة، ولم يكن الشيخ يحب ذلك.

كان من عادته ألا يحب أي خلاف في شؤون العمل، وكان يردد أن البركة توجد في صفاء نية الشركاء والعاملين وحب بعضهم للبعض الآخر، وحرص كل فريق على مصلحة أخيه، وعندئذ يبارك الله في هذا العمل، ويدفع الأخطار المحيطة به، فإذا وقع أي خلاف أو سوء تفاهم بين الشركاء فسرعان ما ينسحب منه متخلياً عنه زاهداً فيه.

وقد أمضى الشيخ قرابة سنتين في هذه القرية، كان يمضي فترة من الربيع وفترة من الصيف فيها، وكان يستقبل فيها إخوانه وتعقد فيها مجالسه المعتادة، ولا أذكر الكثير من أيامها.

واذكر حادثة وقعت للشيخ أثناء عودته من هذه القرية إلى حلب، كان في سيارة أديب النعساني الشقيق الأكبر لزهير النعساني، وكان من المحبين للشيخ، ومعه في السيارة كل من فوزي شمسي وجاسم الفياض وأبو عمر الدباغ، وكان الوقت شتاءً والأمطار تهطل، فانزلقت السيارة وانقلبت، وأصيب الشيخ بكسر في يده، اضطر على أثرها ملازمة الفراش لمدة شهر، وكان يستقبل زواره في داره التي انتقل إلهيا بحارة الباشا، ولم يتوقف نشاطه خلال هذه المدة.

باع الشيخ القرية بعد ذلك، واتجه بهمته إلى بناء الجامع وتوسعته وانصرف إلى هذه المهمة وأعطاها كل وقته، وفي الوقت ذاته أقام مشروعات زراعية عدة لزراعة القطن، ومشروع كبير في مدينة جرابلس المتاخمة للحدود التركية، وأقيم المشروع على نهر الفرات، وفي الوقت ذاته أنشأ مشاريع أخرى صغيرة في قرية تلعرن وقرية تل حاصل القريبتين من حلب، وكان يزورهما في كل فترة لمدة ساعات فقط، يشرف على العمل، ويتابعه، ويتولى أمر الإشراف عليهما الشيخ أحمد اللبابيدي أحد إخوان الشيخ، وكان متفرغاً لخدمة الشيخ ومخلصاً في ذلك.

استمر العمل لعدة سنوات، إذ كانت المشروعات ناجحة وموفقة، ولكن ما كان يكسبه لم يكن يكفيه لتغطية مصاريفه، كان يأتيه الكثير وينفقه، ولم يدخر شيئاً ولم يشك من ذلك، كان ذلك هو اختياره ومنهجه.

لم يتكلف قط هذا السلوك، لم يبحث عن الغد، لم يكن يذكر كلمة الرزق، ذلك أمر آخر، كان يتكلم عن العمل كواجب ديني، ويكره من لا يعمل، ويضيق بالكسل، ويندد بمن يعتمد على غيره، ويدعو إلى الارتقاء بمستوى الهمم إلى أعلى درجات النزاهة.

كان يحب العالم الذي يعطي لا العالم الذي يأخذ، العالم الذي يرفع شأن العلم لا العالم الذي يهبط بمستوى العلم، وكان يعلم إخوانه أن يكونوا من أهل اليد العليا لا اليد السفلى، ولم يضق بما كان ينفق أو يعطي.

لم تكن أعماله تشغله عن مجالسه التربوية، ولم تكن الدنيا في قلبه، وكان يديرها ويشرف عليها، ولم يفكر فيها، وكأنها ليست قضاياه، لا يفرحه إن أقبلت ولا يحزنه أن أدبرت، لا لأنه لا يريدها، وإنما لأنه لا يريدها أن تشغل قلبه.

ويتحدث عن المال في خدمة صاحبه ومالكه، وليس الإنسان في خدمة المال، فالمال خلق ليسعد صاحبه لا ليشقيه، وصاحب المال عليه أن يوجه ماله لخدمة الآخرين، وذلك ليخفف شقاءهم وفقرهم.

ولو أراد المال لجمع الكثير منه، فقد كان مخدوماً في كل ما يريد إنجازه، ومعاناً في أعماله، وكان يستطيع أن يوفر الكثير منه إذا أراد، وكان موفقاً في أعماله ومشاريعه الزراعية، وكان قلبه قوياً في اقتحام مجاهل العمل والإنتاج، ينفق بسخاء على الأرض ويحفر الآبار العميقة ويجدد مضخات الماء، ويغذي الأرض بأحسن الأسمدة، وكانت له خبرة واسعة، يستشار فيها، وكان يملك آلات الحرث والحصاد، ولم يكن ينقصه شيء.

وعندما كان يتحدث عن الزهد كان يقول ليس الزهد ألا تملك، وإنما الزهد ألا يتعلق قلبك بما تملك، فقد تملك الكثير ولا يتعلق قلبك به، وقد تملك القليل وقلبك معلق به، فإذا زال ذلك القليل فقدت قلبك بفقده، وعكرت صفاءه ونقاءه.

كان يتحدث عن علاقة الإنسان بأرضه وهي علاقة حب، فمن أحب أرضه أعطته ومن بخل عليها منعته، وهي كعلاقة الغارس بغرسه، لابد من المحبة المتبادلة، ولابد أن تشعر الغرس بعاطفة غارسها وحبه لها، لكي تكون مطواعة له مستجيبة لأوامره، تطيعه إذا أمرها، وتمسك عن الجري إن أومأ لها، وهذه العلاقة كعلاقة الزوج بزوجته لابد من تبادل الحب والعاطفة.

والشيخ لابد له أن يحب إخوانه، إذا أحبهم أحبوه، وإن بادلهم العاطفة بادلوه، والشيخ الذي لا يحب إخوانه سرعان ما يعرضون عنه.

ويعلم إخوانه أن يتعاملوا مع الآلات والأدوات الجامدة بأدب ورفق، فالحصادة مثلاً خلقت لخدمة صاحبها، ولابد إلا أن يحبها ويتعامل معها برفق ويحرص على نظافتها، والمحراث وكل الأدوات الأخرى.

وأكثر ما كان يضايقه أن يترك أحد إخوانه صابونة التنظيف وسخة بعد استعمالها، ويقول له: احرص على نظافتها كما حرصت هي على نظافة يديك، وأعدها إلى ما كانت عليه، وهي تحرص على نظافتها كما تحرص أنت على نظافتك.

قرية التويم:

لم تكن قرية التويم مجرد قرية ريفية أراد الشيخ أن يستثمر أرضها بهدف الكسب والربح، وإنما كانت شيئاً أكثر وأعمق، ليس المهم فيها أن نتكلم عن أرضها وآبارها وأشجارها، وإنما المهم أن نتحدث عن أثرها في نفسية الشيخ، كانت رمزاً جميلاً لعلاقة الشيخ بإخوانه.

كان الشيخ يحبها كأعظم ما يكون الحب، ويرعاها كأروع ما تكون الرعاية، ويحب أهلها ويقربهم إليه، كان يحب كل شيء فيها، لأنها بالنسبة إليه كانت موطن هجرته وقضى في رحابها أجمل سنوات عمره، وكان يقضي فيها معظم الصيف، وأصبحت المركز الأهم لإخوانه في الريف الكائن في المنطقة الجنوبية من مدينة حلب.

في البداية كانت قرية صغيرة تضم مجموعة عائلات ريفية، أراضيها خالية من أي ماء أو شجر، مجرّد أراض جرداء ترزع بالقمح والشعير، تؤتي أكلها في أعوام الخير والمطر وتحبس خيرها في أيام الجفاف والعطش.

كانت بيوتها الطينية البسيطة متفرقة في أرجائها، وتقع هذه القرية وسط قرى ريفية أخرى أكبر منها مساحة وأعز نفراً، يملكون من خصب الأراضي ما لا تملك، ومن الأغنام والإبل ما يجعل لهم التميز في المكانة والمنزلة.

وقد بدأت صلة الشيخ بهذه القرية محدودة، ثم نمت بعد ذلك وتوسعت، وتسكن في تلك المنطقة أسر وعشائر ذات نفوذ وشهرة، وكانت البداية عندما اضطربت أحوال المدينة بعد انفصال الوحدة، وانقسام المجتمع إلى مؤيد ومعارض، وظهور منافسات غير محمودة، واختار الشيخ أن يقضي معظم أوقاته في الريف الذي كان يحبه منذ طفولته، ويحب ما يتحلى به مجالسه عن قيم الريف وأخلاقية القيم السائدة فيه، وأهمها قيم الشرف والفضيلة والتعلق بالدين.

الاهتمام ببناء الريف:

وأهم ما كان يحرص عليه هو الاهتمام بإصلاح الريف، وإعداد طلاب العلم من أبناء الريف، للعودة إلى مناطقهم وقراهم للتوعيّة ونشر القيم الدينية، وكان يجد في طبائع الأسر الريفية نقاء وصفاء، وأراد أن يوجه اهتمامه لذلك الريف الذي يحتاج أهله إلى تعليم أبنائهم لكي يكونوا أداة للنهوض بالمناطق الريفية.

عندما بنى الشيخ مدرسته في الكلتاوية أرسل إلى أمراء الريف وزعماء العشائر وأبناء الأسر الكبيرة أن يرسلوا أبنائهم إليه لكي يعلمهم في مدرسته، ويعيدهم إليهم علماء عاملين مخلصين، ينشرون الوعي الديني في أهلهم وعشائرهم.

وكان يردد في مجالسه أن أمير العشيرة إذا صلح صلحت العشيرة بصلاحه، وإذا صلح أبناؤها انعكس صلاحهم على أهلهم وقومهم ومن حولهم.

كان يقول: أريد من يرفع شأن العلم، ولا أريد من يتسول بالعلم، فمن أذل نفسه أذل العلم الذي يحمله، ومن أعزَّ نفسه بنزاهته وترفعه عن الصغائر أعزَّ العلم ورفع من شأن العلماء في المجتمع.

وابتدأت مدرسته تستقبل في كل عام عشرات الشباب من أبناء الريف، يتعلمون العلم ويلتزمون بالعمل ويعتزون بعلمهم، ولا يحنون رأسهم طلباً لمنفعة دنيوية أو تملقاً لصاحب مسؤولية، يرفعون شأن العلم بشموخ وإباء، ويفرضون احترامهم في المجتمع باستقامتهم ونزاهتهم وثقة الناس بهم، ويكون كل فرد منهم أمة، بإيمانه بالله، وبمواقفه الصادقة التي يدافع بها عن الحق وقيم الدين الصحيحة.

اختار الشيخ قرية التويم لإقامته، وانطلاق دعوته، إلى تصحيح العادات وتقويم السلوكيات وتزكية النفوس وإصلاح القلوب، وكما اختار الشيخ «الكلتاوية» مقراً لنشاطه في الدعوة والتوعية اختار «قرية التويم» لكي تكون كلتاوية الريف في إشعاعها الديني والتربوي.

مكانة التويم في قلبه:

واتجهت الأنظار إلى تلك القرية الصغيرة، وأصبح أبناء القرى المحيطة بها يتجهون إلى هذه القرية لحضور مجالس الشيخ، والالتزام بمنهجه في التربية الروحية، وهناك عشرات القرى الممتدة من حلب إلى منطقة «المدخ» أصبحت مشدودة إلى «قرية التويم» وتزاحمت الطرقات والدروب في كل صباح ومساء، ومواكب طلاب الشيخ يتوافدون بكثافة كبيرة على القرية الصغيرة للالتقاء به والتنعّم بقربه وحضور مجالسه والالتزام بما يدعو إليه من الأخذ بآداب الشريعة وإصلاح القلوب من الأوصاف المذمومة وتصحيح العقيدة من كل انحراف.

وهكذا أصبحت كلتاوية الريف تنافس كلتاوية حلب في إشعاعها وأصبحت تنمو بقوة وسرعة كنسمات الليل تنتقل عبر السهول والوديان والجبال لا تتوقف، فالدعوة إلى الله هي دعوة إلى ما يحيي القلوب ويوقظها من غفلتها، وينبهها من سباتها، ويعيدها إلى عالم النور والضياء حيث تشرق في القلوب محبة الله، ومن أحب الله أحب خلق الله والتزم بالأدب في التعامل معهم.

لم تعد «التويم» أرضاً قاحلة كما كانت، ولم تعد أرضها تشكو الجفاف، فالشيخ لا يحتمل أن يرى الأرض تبكي عطشاً، وتضيق بملامحها الشاحبة، فلا شحوب في الحياة، فالملامح الشاحبة هي علائم الشيخوخة ومقدمات للموت، ولم يكن الشيخ يحب الاستسلام للضعف والخضوع لليأس والقنوط.

وهنا بدأت رحلته إلى البناء والتعمير، وكما لا تعمر القلوب إلا بإصلاحها فإن الأرض لا تعمر إلا بمياهها وحراثتها وتغذيتها بالأسمدة وعلاج أمراضها بالدواء الذي يطارد الأوبئة.

وقد حفر الشيخ أكثر من عشرة آبار ارتوازية على أعماق كبيرة وأخذت المياه تتدفق كالأنهار عبر الأقنية والسواقي، تسقي الأراضي وتحيي مواتها وتخرج منها ما في أحشائها من خيرات وثمرات، وأصبحت «قرية التويم» جنة وارفة الظلال، يزرع فيها القطن في مواسمه، وتجوب أرجاؤها قطعان الماشية، وتحرث أراضيها بالجرارات الضخمة، وتحصد محاصيلها بآلات الحصاد الكبيرة، وتقام فيها ورشات الإصلاح التقني، التي تشرف على تلك الأجهزة المتطورة.

كان الشيخ سعيداً بما كان يبنيه، فالعطاء واحد، والبناء واحد، من استعد للبناء في تكوينه أخذ يبني في كلّ مكان، ومن كان مؤهلاً للهدم والخراب لا وقت لديه للبناء، ومن أراد إصلاح القلوب زرع كلمة الحب في كل مكان ذهب إليه، وأنعش النفوس بما يبثه فيها من أمل وإشراق، وأحيا القلوب اليائسة بعد إحباط، وأعاد لها بسمة الحياة وإشراقة الشمس.

والذين يجدون سعادتهم في البناء لا يحتملون رؤية الهدم، ويضيقون بكل من يسعى إلى الخراب، والبناة تدفعهم هيئة راسخة في النفس لا يتكلفونها تصدر عنهم من غير تأمل وتفكير، ولا يشعرون بأنهم يبنون، ولا يمنون على أحد بما يفعلون، وهم في خطواتهم لا يرون أنفسهم، ولو رأوا أنفسهم لشغلوا بالحديث عن البناء ونسوا البناء.

ومن كلمات الشيخ أنه كان يقول: «إنَّ الشجاع لا يرى نفسه شجاعاً ولو رأى نفسه شجاعاً لشغل بشجاعته عن عدوه، ولكن الشجاع هو الذي ينسى شجاعته ويراه الآخرون شجاعاً، والسخي لا يرى نفسه سخياً وإنما يراه الآخرون سخياً، ولو رأى نفسه بهذا الكلام لتكلف الأمر وشغل به، والزاهد هو الذي لا يشغله زهده، فإذا رأى زهده شغله زهده عن الله تعالى فكان زهده حجاباً له».

ازداد اهتمام الشيخ «بالتويم» وأخذ يقضي معظم أيام الأسبوع فيها، كان يعود لصلاة الجمعة في الكلتاوية، ويلقي درس النساء في صباح السبت، وبعد الظهر كان يعود إلى التويم بواسطة القطار الحديدي الذي يمر بالتويم، ويتوقف إذا كان الشيخ فيه، ويستقبل في داره التي كان ينزل فيها ضيوفه من أبناء القرى المجاورة، الذين كانوا يفدون إليه في كل يوم، ويحضرون مذاكراته.

وأحياناً كان يرافقه لفيف من جماعته من أبناء المدينة الذين كانوا يلازمونه، ومن أبرزهم الحاج محمود الناشد الذي كان يرافق الشيخ في معظم تحركاته بسيارته التي كان يقودها بنفسه، ويزودها بكل وسائل الراحة، ويشرف على أعمال الشيخ، وكان من أكثر الناس ملازمة له، ولا يسمع لأحد أن ينافسه في ذلك.

وذات يوم أبلغ الشيخ في مقره بالكلتاوية أنَّ «قرية التويم» بكل أراضيها ومبانيها قد غرقت بسبب الفيضانات الكبيرة التي تولدت من الأمطار الغزيرة القادمة من الحدود التركية حيث أغرقت كل المناطق المحيطة بمنطقة «المدخ» المعروفة بانخفاض أراضيها، وقضت مياه الفيضان على كل المزروعات ولم تترك شيئاً، وأصبحت القرية بحيرة يسير أهلها فيها عبر القوارب.

وذهل كل من كان في مجلس الشيخ، سكت الشيخ برهة وقال «الله هو الذي يعطي والله هو الذي يأخذ.. والحكمة فيما اختاره الله» وتابع مذاكرته، وكأنه لا شيء جرى.

وبدأ من جديد يعيد بناء ما هدمه الفيضان، من غير أي كلمة تعبر عن التبرم بما وقع، إذ كان راضياً بقضاء الله، مسلماً أمره إليه جل شأنه، حامداً له فضله، لا سيما في كل المواقف العصيبة.

دروس من القرية:

في «قرية التويم» تكونت معالم مجتمع جديد، كان الشيخ ينسج ملامحه بدقة لتكوين شخصية إسلامية متكاملة، كانت القابليات موجودة والنفوس مهيأة، ومن اليسير أن تجد في مجتمع الريف ما لا تجده في مجتمع المدينة من فطرة نقية، تبحث عن ذاتها وكيانها، وتشتاق لسلوكية الكمال.

 

لم يكن الشيخ في أي يوم من الأيام يبحث عن طموحات سياسية أو تطلعات قيادية، كانت السياسة بالنسبة له منسية ومتجاوزة، لم تخطر بباله يوماً، ولم يفكر فيها لأنها مهمشة عنده ولذا لم يخالط رجالاتها، وما كان يحب ذلك، ولم يشجع أحداً من أصحابه أن يمارس السياسة ولم يناقش في مجالسه يوماً أمراً من أمورها، كان بعيداً كل البعد عنها وعن مزالقها.

ولم يفكر يوماً في قيادة شعبية أو زعامة، كان يكره ذلك، ويتهم من يفكر في هذا الأمر بالرجل الفارغ الذي يبحث عن ذاته من خلال الآخرين، وعندما كان يرى أحداً من جماعاته يحب تنظيم إخوانه ويعرض عليه ذلك كان يضحك ويبتسم، ويقول له: «دعك من الزعامات الفارغة، اعمل لله وقل كلمة الحق وادع إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

التويم مدرسة تربوية:

في «قرية التويم» كانت هناك نواة لمدرسة تربوية في الريف، لا تعني بالتكوين العلمي وإنما تعني بالسلوك الأخلاقي، والريف فضاء يتسع لكل إصلاح، لوجود قابليات نفسية تستجيب بسرعة لكلمة الحق، ولم تكن أمية الريفيين لتمنعهم من أن يشعروا بإشراقة الحق، ولم تكن أمية الريفيين لتمنعهم من أن يشعروا بإشراقة النور في كيانهم، لأن قلوبهم صافية كصفاء الطبيعة ونقاء هوائها، حيث لا يحدث ذلك التلوث الذي تثيره الغازات والزيوت المحترقة في سماء المدن، فالهواء النقي تعتاده النفس وتستمع به وتضيق بما يلوثه من سلوكيات الأنانية.

ومن هنا فقد أحس الشيخ بسعادة وهو يرى أثر تربيته في سلوكيات إخوانه في الريف، فانصرف إليهم واهتم بأمرهم، وأصبح يقضي معظم أيامه في «التويم»، حيث الجو النقي النظيف والفضاء الروحاني اللطيف.

قدّر لي أن صحبته يوماً من المدينة إلى التويم حيث كان يسافر في ساعة محددة بعد ظهر يوم السبت في كل أسبوع، كان يرافقه عدد من إخوانه، وكان القطار يمر بالقرى المختلفة ويعبرها من غير توقف، في كل قرية كان يقف عشرات الرجال من إخوان الشيخ يلوحون له بالتحية، وينتظرون بفرحة مرور القطار الذي يأخذه في طريقه إلى التويم، وكأنهم على موعد معه، كان منظراً مؤثراً وشيقاً يجذب الانتباه خصوصاً حين كان الشيخ يلوح بيديه لإخوانه بفرحة وابتسام.

وفي هذه الأثناء نظر الشيخ إلى وجهي، ورأى دمعة محبوسة في عيني، أمسكت بها لكيلا تنزلق على خدي، ولكي لا يراها الشيخ، حينها سألني عما يثيرني، قلت له: أخشى مما أرى، وأخاف منه، وهناك من لا يرغب في ذلك، ويرقب الأمور.

وبدأت خلافات صغيرة بين إخوان الشيخ، بين عائلات متجاورة ومتنافسة، كان الشيخ يمسك بمقود الأمور ولا يسمح بتجاوز مبدأ الأخوة والمودة والالتزام بالتسامح المتبادل وحل كل خلاف بالحوار الأخوي الهادىء، وتدخلت أيادي خارجية ألهبت هذا الخلاف وعمقته ورسخت القطيعة بين أخوة الأمس.

وحزن الشيخ وتألم، كان يريد لإخوانه أن يكونوا متحابين متعاونين، تجمعهم الرغبة في إخلاص النية، وإصلاح النفوس، واشتد الخلاف وأصبح عميقاً، وترك الشيخ القرية عائداً إلى المدينة، وكان يحذر من تغير القلوب، فإذا تغيرت وزالت المحبة منها تمسكت بالدنيا، ووقع التزاحم والتدافع، ولا شيء كان يؤلمه مثل هذا التدافع المذموم لأجل مطامع دنيوية.

وأدرك الجميع أن المطلوب هو إبعاد الشيخ عن إخوانه، وإشغاله بما كان لا يحب الإنشغال به، ووقعت مواجهة قاسية بين الجماعات المتخاصمة، أدت إلى ابتعاد الشيخ عن القرية.

وعاد الشيخ إلى الكلتاوية كما كان من قبل، وظل إخوانه في الريف على وفائهم له وملازمتهم لمجالسه، ولم يحزن الشيخ أو يتألم بالرغم مما أصابه من أضرار كبيرة.

وسألته بعد ذلك عن سر هذا الابتلاء والاختبار، وهو ابتلاء شديد آلمه وأحزنه.

أجابني بلهجة المؤمن بالله الراضي بقضائه:

«هذا الابتلاء ليس لي، فأنا راض بقضاء الله وحكمته وتدبيره، وإنما هو ابتلاء لإخواني، فمنهم من يصبر عليه ومنهم من تتقلب قلوبهم، وأخذ يردد: يا مقلب القلوب ثبتنا على ما اخترته لنا، واشرح قلوبنا لفهم أسرار حكمتك وتدبيرك».

لم يذهب الشيخ إلى التويم بعد ذلك… عادت كما كانت من قبل.. غربت شمسها بعد يوم ربيعي جميل، وأقبل الليل بظلامه الدامس، ولم يبق سوى أطلال ملقاة هنا وهناك وذكريات قافلة النور حلّت قليلاً ثم ارتحلت وغابت خلف الأفق بكل ما تحمله من مشاعل الأمل والنور.

نتائج عمله في الزراعة:

لم يعمل الشيخ في الزراعة طمعاً في الكسب، كان القليل من المال يكفيه لحياته، وإنما كان يحب العمل بحد ذاته كواجب على الإنسان أن يقوم به تعبيراً عن احترامه لذاته، وشعوراً بوجوده الإنساني.

فالآيات القرآنية تدعو المؤمنين إلى العمل والسعي في الأرض لابتغاء الفضل من الله تعالى، قال تعالى: {{ع94س2ش891ن1/س2ش891ن777ع94س2ش891ن8/س2ش891ن88} [البقرة: 198] وقال تعالى: {{ع94س26ش01ن4/س26ش01ن001} [الجمعة: 10].

ومن تعاليم الدين أن يسعى الإنسان في شؤون المعاش، لكي يستغني عن الناس، ولكي يكون صاحب اليد العليا وليست السفلى ويعطي ولا يأخذ، يعف عن أموال الآخرين، ويأكل من كسب يده، والعمل من العبادة، وهو عبادة إذا قصد بالعمل الاستغناء عن الناس، والذين يفهمون أن العبادة هي قعود عن العمل يخطئون، فمفهوم العبادة أشمل وأعظم، وكل عمل في سبيل الله فهو عبادة، وغايتها الأقرب الاستغناءعن الناس، ومن مروءة الإنسان ألا يشعر بحاجته للآخرين ولو كانوا من أسرته الأقربين.

والعلماء هم أولى الناس بالاستغناء عن الناس، ومن شعر بحاجته للناس أحس بالذل والهوان، والعالم الذي يمد يده إلى الناس سرعان ما يفقد هيبته وشعوره بالكرامة، والاستغناء عن الناس هو طريق السيادة، ولا سيادة مع الشعور بالافتقار للناس.

ولا تعارض بين الاشتغال بالعلم والعمل، والعلم الذي لا يشعر صاحبه بالكرامة والعزة والسيادة ليس علماً وإنما هو وسيلة معاش.

وغاية العمل هو تحقيق الكسب وجلب الرزق المقسوم الذي يرزق الله به عباده، لأجل إغناء النفس، وليست غايته الاكتناز والادخار، فالمال ليس غاية بذاته وإنما هو وسيلة لتحقيق الكفاية ومساعدة المحتاجين.

ولم يكن الشيخ يشجع العلماء على التعيش بعلمهم والتنافس في الوظائف الإدارية وإنما كان يشجعهم على العمل المنتج، في التجارة أو الصناعة أو الفلاحة، وأي عمل في نظره يستحق الاحترام والعامل محترم، وله أجر العمل وثوابه، وليس في العمل درجات اجتماعية، فالعامل يكرم لأنه كسب من جهده، ومن افتقر للناس بسبب كسل أو ترفع فلا يستحق الاحترام وإلا إذا كان بسبب عجز مانع من العمل.

وكان يفضل الزراعة على التجارة، لأن الزارع يحرث الأرض ويزرعها ويعتمد على الله ويتوكل عليه، فيزرقه الله الكسب الحلال الذي لا شبهة فيه، بشرط ألا يكون في عمله ظلم لجهد الآخرين واستغلال لتعبهم وشقائهم، وكان يرى أن الأجر يجب ألا يقل عن كفاية الإنسان لحاجاته الضرورية، فمقدار الحاجة مكفول، وما يرتبط باستمرار الوجود الإنساني مضمون.

ومن أبرز شروط العمل المشروع التعامل بالإحسان، لأن الله تعالى أمر بالعدل والإحسان، والإحسان هو أن يرعى القوي حقوق الضعيف، فلا يحاسبه بالعدل فقط، وإنما بالإحسان إليه، والتنازل عن بعض حقوقه في الديون إذا كان الضعيف معسراً وفقيراً.

وكان من عادة الشيخ عندما يشتري شيئاً أن يتنازل للبائع الضعيف عن الباقي، ويقول له نحن أولى منك بأن نتنازل لك، ويدعو أصحابه إذا اشتروا شيئاً من ضعيف أن يسامحوه في الباقي، لأنه أولى بالزيادة في الكيل والميزان، ويردد أن خير الرجال هم أحسنهم قضاءاً لحقوقهم، وأكثرهم إنصافاً.

وأهم ما يجب أن يتحلى به الإنسان في شؤون كسبه أن يقصد من وراء ذلك ليس الكسب، وإنما أن ينوي إعفاف النفس عن الحاجة والافتقار، وألا يشغله أمر دينه عن أمر آخرته، فمن شغلته دنياه عن آخرته خسر الدنيا والآخرة معاً، وأسوأ الصفات التي يجب التحرر منها هو الطمع في مال الآخرين والطمع يدفع صاحبه للطمع في كسب الحرام.

وكان يحذر من الطمع في الأموال العامة التي تعود ملكيتها للمجتمع كله، ولا يجوز الأخذ منها إلا بمقدار الحاجة، لأنها أموال المسلمين قاطبة والطمع يلوث القلب ويجعله مظلماً.

ويتحدث في مجالسه عن التاجر الحق، وهو الذي يلتزم بأخلاقية التجارة فلا يكذب ولا يغش ولا يطمع في أموال الناس ولا يذل نفسه، ويتعامل مع الناس بالحسنى والوضوح والثقة، ويندد بالتويجر الذي لا يحترم أخلاقية التجارة، ويستدين ولا يحسن تقدير الأمور فيقع في المخاطر ويعرض نفسه للمساءلة.

لقد اختار الفلاحة لعمله، وكان خبيراً بشؤونها، مستمتعاً بما تخلفه في النفس من مشاعر التوكل على الله، وكان يرى في كسب الفلاحة أنها بعيدة عن الريبة والشبهات.

لم يضق يوماً بالفلاحة أو يتجاوزها بالرغم من غدر الفلاحة بسبب الكوارث الطبيعية كالجفاف والفيضان وظهور الأوبئة في المزروعات، ولم يختر طريق التجارة التي كانت ميسرة له بفضل خبرة معظم إخوانه بها.

وفي الفلاحة ربح الكثير وخسر الكثير، ولم يبتهج لربح ولم يحزن لخسارة، كانت الكفاية حاصلة، والفضل مردود على المحتاجين.

الثروة الباقية:

كان معظم الناس يظنون أن الشيخ يملك الكثير، وأقرب الناس إليه كانوا يعتقدون ذلك، والقليل من إخوانه الذين يلازمونه كانوا يعرفون الحقيقة، وهي حقيقة لم تكن تهم الشيخ أو تجري على لسانه، لم يقل يوماً: أنه يملك أو لا يملك ولم يسأله أحد عن ذلك.

وعندما انتقل إلى رحاب الله كان مديناً بالكثير، ولم يكن كل ما يملكه يفي بذلك الدين… لم يكن يملك داراً لنفسه، أو لأحد من أولاده، ولم يترك لهم شيئاً، ترك عقاراً ورثه من أبيه، وظل محتفظاً به، وترك قطعة أرض زراعية، وكان عليه ديون، وأوصى قبل وفاته بأن توفى ديونه مما يملك من هذين العقارين ولكن أصحاب الديون لم يقبلوا باسترداد تلك الديون.

أما الإرث الذي تركه لأسرته، فهو ذلك الإرث العظيم الذي يزداد ولا ينقص، مهما أنفقت منه، فالأموال تذهب والعقارات تنقل ملكيتها، أما الإرث الذي يدوم فهو ذلك الصرح العظيم من المكانة والسمعة ومحبة الناس، ويكفي أسرته فخراً واعتزازاً أن يسمعوا صباح مساء ما يسعدهم من أفواه المحبين وأن يروا بعيونهم ابتسامات إخوانه من الذين يلازمون الكلتاوية ويزورون ضريحه في كل يوم.

وبالإضافة إلى هذا الإرث الكبير فهناك القاعة التي عاش فيها حياته، ما زالت باقية في الدار التي كان يسكنها إلى جانب الكلتاوية، بكل ملامحها وأشيائها، لم يتغير شيء فيها، فملامحها تدل على شخصية الشيخ.

كيف كانت، وما أهم اهتماماته، وأشياؤها تدل على اسلوب حياته.

أهم ما كانت تضمه تلك القاعة مكتبة صغيرة تحتوي كتبه، وكانت عزيزة عليه، لم يفرط فيها، وتضم أهم المراجع في التفسير والحديث والفقه والأصول، وأما أشياؤه الأخرى فهي قليلة جداً، وهي ما كان يحتاج إليه لاستعماله اليومي، وأهمها سريره الذي كان ينام عليه، وكنبة متواضعة كان يجلس عليها زواره، وطاولة عادية صغيرة يضع عليها ما يحتاجه في كل يوم، خاتم عقيق كان يلبسه بإصبعه، ومقص صغير يقص به أظافره، وزجاجة من عطر الورد كان يتطيب بها، وكرسي يجلس عليه عندما يأتيه الحلاق فجر كل يوم جمعة، ولوحات للمسجد الحرام وأخرى للمسجد النبوي ولا شيء غير ذلك.

كان يضيق بأي شيء آخر، ولا يحتاج إليه، وإذا جاءه شيء مهما كان يوزعه مباشرة، فلا يحتمل أن يشغل نفسه بغير ما يحتاج إليه.

في غرفته تلك كان يستقبل كل زواره، كباراً وصغاراً، لم يفكر في إرضاء أحد فهذا هو كما يدل على نفسه، وفي ضريحه في الكلتاوية توجد بعض ملابسه الخارجية التي اشتهر بها، الجبة البيضاء في صفائها ونقائها.. وهناك العمامة أيضاً فضلاً عن مئات الأشرطة المسجلة من أحاديثه.

هذا هو إرثه وهو إرث لا تملكه أسرته، وإنما يملكه كل إخوانه 

( الزيارات : 1٬814 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *