الاستقبال الملكى فى الرباط..والتعيين..

في مساء هذا اليوم زاره في الفندق صديقه السيد عبد الرحمن الدكالي ، رحب به باسم جلالة الملك ، واطمأن عليه ، وفي اليوم التالي زاره أحمد بنسوده مدير الديوان الملكي وأبلغه أن الملك سيستقبلـه قريباً ، وفي صباح يوم 24 فبراير 1977 اتصل به وزير التعليم العالي الدكتور عبد اللطيف بنعبد الجليل وذهبا معاً إلى مكتب الأستاذ بنسوده في الديوان الملكي في المشور السعيد ، ومن هناك انطلقوا جميعاً إلى قصر دار السلام الذي يقع خارج مدينة الرباط بالقرب من نادي الكولف الملكي ، وهو قصر أنيق يقضي فيه الملك أوقات راحته ، وهناك وجد الحاج محمد باحنيني وزير الدولة للشؤون الثقافية والوزير المشرف على المصالح الإدارية للقصر الملكي ، وجلسوا جميعاً لمدة نصف ساعة في مكتب يقع في مدخل القصر في انتظار الإذن بالدخول إلى القصر ، وهنا دخل إلى المكتب أحد رجال التشريفات الملكية ودعاهم إلى مرافقته ، وعند الباب الخارجي للقاعة الملكية وقف الجنرال مولاي حفيظ العلوي وزير القصور الملكية والتشريفات ورحب به ودعا الجميع بإشارة من يده إلى الدخول ، كان جلالة الملك واقفاً في وسط القاعة ، رحب به وقال لـه بلهجة ودودة : مرحباً بك في بلدك ، وسار الملك إلى حيث الأرائك الجلدية الفخمة وجلس ودعاهم للجلوس في حلقة دائرية صغيرة حيث كان الملك يجلس على أريكة جلدية سوداء لا تختلف عن بقية الأرائك ،و بعد قليل دخل السيد أحمد عصمان الوزير الأول وانضم إلى هذا المجلس..

بدأ صاحبنا حديثه بالتعبير عن الشكر لجلالة الملك لثقته به ، ولاختياره لهذه المهمة ، ثم قدم إليه رسالة أمير الكويت ، وكانت مغلقة ولم يطلع عليها ، ولم يستطع الحصول عليها فيما بعد ، فتح الملك الرسالة وقرأها بعناية ثم التفت إلى الحاضرين وأبلغهم أن الأمير سعيد لاختيارالدكتور النبهان الاستاذ فى جامعة الكويت لكي يكون مديراً لدار الحديث الحسنية ، وأن الكويت قررت أن يكون الدكتور النبهان منتدباً من الكويت إلى المغرب ، وأن الكويت سوف تحتفظ لـه بكل حقوقه فى الجامعة ، وهنا التفت الملك إلى صاحبنا وقال لـه : علاقتك بالكويت علاقة خاصة بك ، أما نحن فسوف نقوم بواجبنا تجاهك وأنت في ضيافتنا مادمت فى المغرب.

ثم أخذ الملك يسأل صاحبنا عن صحة الأمير الشيخ صباح السالم الذي كان يعالج خارج الكويت ، وأكد على تقديره لـه وتمنياته لـه بالشفاء كما ا شاد بموقف الكويت فى موافقتهاعلى الانتداب….

وبعد ذلك بدأ الملك يشرح الغاية من إنشاء دار الحديث الحسنية ، والأهداف المرجوة منها ، لخدمة الفكر الإسلامي وتجديد معالمه ، وإحياء دور المغرب الإسلامي كما كان في الماضي ، فقد كان المغرب عاصمة فكرية ومدرسة إسلامية يؤمها طلاب العلم من كل مكان ، وأن ما حققه المغرب من انتصارات وفتوحات يعود الفضل فيها إلى دوره العلمي ، وأن العلماء المغاربة وصلوا إلى كل مكان في العالم ، يبشرون بالإسلام ويعرّفون به ، وأنه لابد من تجديد المناهج وتطوير آفاق البحث لكي تكون المناهج الإسلامية مواكبة للمناهج الحديثة في الدراسة والبحث ، وكان الملك يوجه حديثه لصاحبنا بلجهة هادئة ودودة ولغة عربية فصيحة ، ثم تحدث الملك عن المذهب المالكي والوحدة المذهبية في المغرب ، وأهمية العناية بالمذهب المالكي لارتباط ذلك بتدعيم الوحدة الوطنية واجتماع المغاربة على مذهب واحد في أدائهم لعباداتهم وفي سلوكهم الإسلامي .

وأخذ صاحبنا يشرح لجلالته معالم تصوره المبدئى للدور الذي يمكن أن تنهض به هذه المؤسسة ، وأهمها تكوين قيادات فكرية وكفاءات علمية على مستوى متميز ، والتزام المؤسسة بالتقاليد الأكاديمية في مناهجها وأسلوب الدراسة فيها ، وحاجتها لأساتذة أكفاء لحمل مسؤولية التدريس والإشراف والتكوين العلمي ، وأن ذلك يتطلب إعادة النظر في المناهج والخطط الدراسية ، والابتعاد عن أسلوب الوعظ والإرشاد في التلقين العلمي ، احتراماً للمنهج السليم فى تكوين الشخصيات العلمية، والارتقاء بمستوى البحوث والدراسات و المناقشات العلمية ، ويجب على المؤسسة أن تفرض وجودها العلمي من خلال بحوثها المنجزة فيها عن طريق تطوير أسلوب  البحث  والعناية بتكوين شخصية الباحث وتنمية قدراته ، ثم أكد صاحبنا أهمية إحياء دور جامعة القرويين ، نظراً لسمعتها التاريخية ولمكانتها في العالم الإسلامي كأول جامعة في الغرب الإسلامي ، وهي تملك رصيداً كبيراً من المكانة التي تؤهلها لكي تكون منارة علمية في أفريقيا والغرب الإسلامي ، واقترح طرح مشروع طموح لإحياء دور القرويين والاهتمام بها وتطوير مناهجها وأنظمتها لكي تكون مؤهلة لاغناء ا لفكر الإسلامي ..

كان الملك ينصت باهتمام ويناقش كل فكرة ، ويستعرض إمكان تطبيقها ونجاحها ، ويضيف ما يراه من أفكار بعبارات جادة وبلهجة الغيور على القيم الإسلامية والمتطلع لدور مميز للمغرب على مستوى العالم الإسلامي .

كانت ملامح الرضا واضحة على وجه الملك ، وتكررت عبارات التشجيع والتأييد مرات عديدة ، وعبَّر عن سعادته بأن يسلم مقاليد الإدارة لمن وقع اختياره عليه ، ممن اطمأن قلبه إلى أنه سينهض بهذه المسؤولية الجسيمة التي لن تكون ميسرة ومفروشة بالورود ولابد من وجود صعوبات وتجاوز عقبات قد تدفعه لليأس والقنوط ، وأعرب الملك عن تأييده لـه ومناصرته لخطواته ، ونصحه بالصبر أمام التحديات ، ولابد منها لمن يريد العمل الجاد ، وأعلمه بأنه سيتابع خطواته ، وأن بابه سيظل مفتوحاً لـه عندما يحتاج إليه ..

استمر اللقاء لمدة خمس وأربعين دقيقة ، ووقف الملك يودعه بكل مودة ويتمنى لـه التوفيق في مهمته ، وخرج الجميع ، واستبقى الملك الحاج محمد باحنيني وزوده بتوجيهاته ، كما أعطى توجيهاته لوزير التعليم العالي عبد اللطيف بنعبد الجليل بأن يتولى شخصياً أمر العناية بإلحاق أولاده بالمدارس ..

وفي الساحة الخارجية للقصر كان مندوب التلفزة المغربية واقفاً بانتظاره وطلب منه أن يدلي بكلمة عن هذا الاستقبال ، فعبر عن شكره للثقة الملكية الغالية ، وعن سعادته بهذا التعيين ، ودعا اللـه تعالى أن يوفقه في هذه المهمة ..

عاد صاحبنا إلى الفندق يرافقه وزير التعليم العالي الدكتور عبد اللطيف بن عبد الجليل الذي دعاه للعودة بسيارته ,وفي الفندق استمع إلى نشرة أخبار الساعة الواحدة ، التي نقلت خبر الاستقبال الملكي والتعيين ، كما نقلت التصريح الذي أدلى به للتلفزة المغربية .

انتشر الخبر في المغرب كلـه ،وكان الكل يتساءل عن هذا التعيين ، وانقسم الناس إلى مؤيد ومعارض ، ولم تكن المعارضة لشخصه ، وإنما المعارضة لفكرة تعيين أجنبي ولو كان عربياً مسلماً على رأس مؤسسة علمية ذات مكانة في المغرب ، كان البعض يرى في هذا التعيين يسيئ لعلماء المغرب الذين وقع تجاوزهم ، وينبغى أن يتم اختيار  أحدهم ، وكانوا جميعاً يطمحون  لهذا المنصب ،وكان التساؤل متوقعا وحتميا: ألا يوجد في ا لمغرب من يشغل هذا المنصب وقد اشتهر المغرب بعلمائه فى مختلف العلوم الاسلامية ..

أحسَّ صاحبنا بما كان يدور همساً في المجالس ، وما كانت تتحدث به النفوس وما يدور في القلوب من خواطر ، وكان يلتمس العذر لهم في هذه المشاعر ، ولو كان واحداً منهم لاختار موقفاً مماثلاً لهم ، ولانضم إلى قافلة المعترضين .

ولكن ما ذنبه فيما اختير لـه ، وفيما دفع إليه ،ولم يكن بإمكانه أن يعتذر أو ينسحب ، ، كان في الكويت مستقراً وآمناً ، ولم يكن يشعر هناك بالغربة ، فهناك مجتمعات متعددة وجاليات مختلفة، وكل جالية تكوِّن حياتها وكأنها في بلدها ..و الأجنبي هناك لا يشعر بغربته أووحدته,..

كانت الأنظار تتجه إليه حيثما ذهب ، والغلطة ستكون مضاعفة ، وعليه أن يبتدئ من نقطة الصفر ، فهو لا يعرف شيئاً عن المغرب ، ولا عن تاريخه وأسره وتقاليده وقيمه وعاداته , ولا يعرف شيئاً عن الإدارة المغربية ولا عن التقاليد المخزنية في أسلوب المراسلات وأسلوب الخطاب ، وكان نظام المغرب يقوم على أساس التعددية الحزبية, والأحزاب كثيرة والصراع بينها قوي ,فهناك أحزاب موالية للقصر ، وهناك أحزاب معارضة ، وهي قوية وذات صحافة مسيطرة ، وصوتها مرتفع ، والصراع قوي ولا حدود لـه ..

و كل الأطراف تملك رصيد الانتماء الى الوطن ، وكان التلاحم على أشده بين القوى المختلفة ، وكان هو الحلقة الأضعف في هذه القوى ، وربما يكون ضعفه هو رصيده الوحيد ، فهو لا يملك أسرة قوية تحميه ، ولا يملك تاريخاً حزبياً ، ولا ينتمي إلى أية عصبية تدافع عنه ، كان يملك ثقة الملك ، وهي تحميه من الناحية القانونية فلا أحد يستطيع أن يزيلـه إلا الملك ، ولكن هل يكفيه هذا لمواجهة الأزمات اليومية في عملـه وحياته ، هل تحميه الرعاية الملكية مما يمكن أن يتعرض لـه من مواقف محرجة وبخاصة وأن صحف المعارضة كانت تبحث عن الثغرات وتوجه أسهمها الناقدة والجارحة لرموز النظام.

كان في كل صباح يجلس في شرفة غرفته يطل على الأحياء المجاورة ، ويتأمل الشمس وهي تشرق من بعيد على حي السويسي الذي يبدو وكأنه غابة خضراء رائعة في جمالها الطبيعي ، والطقس ربيعي في الشتاء ، ودافئ في النهار ، ويستيقظ أطفالـه أروى وعزام فى كل صباح ويسألانه متى نعود لمدارسنا ولزملائنا وألعابنا في الكويت .

بدأت الهواجس تطوق تفكيره ، لم يعد ضيفاً كما كان ، يؤدي مهمته ويعود ، أصبح اليوم مقيماً في غير بلده ، منافساً لأهلها فيما يطمحون فيه ويتطلعون إليه ، وكان عليه أن يعترف بهذه الحقيقة ، إنها الطبيعة البشرية في نزوعها الفطري للدفاع عن ذاتها ، وسوف يخطئ إذا تجاهل هذه الحقيقة ..

كان لقاء الملك أروع ما أسعده وأجمل مما كان يتوقعه ، أعطاه الثقة بنفسه وأشعره بالتكريم في أسمى صوره ، كان الملك رائعاً في استقبالـه ، عظيماً في تواضعه ,كبيراً في مواقفه ، عظيم الفهم لنوازع النفس ، تحبه وتحترمه ، ويشعرك بعظمة خصال الملوك, وعندما تخرج من مجلسه تشعر بما ألقاه في روعك من أثر يشدك إليه ، وبقي ذلك الأثر حياً لم تضعف قوته ، ولم يخبُ نوره ، وفي لحظات الإحباط والضعف ، كان ذلك الأثر يعيد إليه البسمة والأمل ، ويمنحه التفاؤل .

وذهب إلى مراكش بعد أسبوع من تعيينه ليحضر الحفل الديني الذي يقيمه الملك في القصر الملكي بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف وتتلى فيه الأمداح النبوية ، وبعد نهاية الحفل ناداه الملك ولما سلّم عليه قال لـه بصوت سمعه معظم من كان فى ذلك الحفل  : بلغتني شائعات تقول إنك من الإخوان المسلمين ، وسواء كنت منهم أو لم تكن فإنني أثق بك كل الثقة ، وهذه الشائعات لن تضعف من مكانتك في نفسي..

كان المغرب في تلك الأيام يعيش في أجواء حادث اغتيال أحد قيادات حزب الاتحاد الاشتراكي وهو الحزب القوي في تنظيماته النقابية على مستوى الطلاب والعمال والطبقة المثقفة ، وقد أقدمت إحدى المنظمات الإسلامية على اغتيال السيد عمر بنجلون الصحفي القدير المعروف بمواقفه المتشددة ، واتهمت بعض قيادات الشبيبة الإسلامية باغتيالـه ، وتمت محاكمتهم ، وترك هذا الحادث أثراً سلبياً في النفوس ، وبخاصة وأن الطبيعة المغربية لا تحب العنف وترفض اللجوء إليه ، وتدين كل من يلجأ إليه ..

لم ينتسب صاحبنا قط إلى أي من تنظيمات الإخوان المسلمين أو أي حزب آخر ، لأنه اختار طريق العلم ، وكان لا يحب العمل الحزبي ولا يميل إليه ، وهذا لا يمنع أن تكون لـه صلات مودة مع معظم الشخصيات الإسلامية التي اشتهرت بمواقفها المعتدلة ، سواء كانت من الإخوان المسلمين أو من غيرهم ، ويعترف بدور هذه الشخصيات في خدمة الفكر الإسلامي من خلال إسهامها الجاد في إغناء هذا الفكر بالبحوث القيمة..

كان يمكن لهذه الشائعة أن تحرج الملك وتسيء لعلاقة صاحبنا بالمغرب فلا يمكن لملك المغرب أن يعهد لأي حزبي ملتزم بإدارة هذه المؤسسة العلمية التي يرعاها مهما كانت ثقته به ، وربما يؤدي ذلك إلى اخلال بالتوازن الداخلي ، وبخاصة في ظل ذلك التنافس الذي بدأ في ذلك الحين بين التنظيمات اليسارية والتنظيمات الإسلامية ، وهو تنافس قوي وحاد وسوف ينمو هذا التنافس والتغالب فيما بعد وبخاصة بالنسبة لاتحادات الطلاب في الجامعات المغربية ، وكان اليسار في ذلك الحين يمثل المعارضة القوية المنظمة التي كانت تمارس الضغط السياسي على السلطة ، ولم يكن للجماعات الإسلامية  فى تلك الفترة قوة حقيقية على مستوى العمل السياسي ،  وقبل حادثة الاغتيال لم تكن الجماعة الإسلامية معروفة ، وبعد الاغتيال انهار هذا التنظيم وطوردت قياداته ..

كانت المؤسسة الملكية تعتمد على قاعدة إسلامية تقليدية تتمثل في رابطة علماء المغرب وجمعية علماءخريجي دار الحديث الحسنية والقاعدة الشعبية الواسعةالتي كانت تؤمن بأن الملك هو الإمام وأمير المؤمنين وهو المؤتمن على حماية الدين والعقيدة ، وأن البيعة تلزم كل المغاربة بطاعة الإمام في كل ما يأمر به من شؤون الدنيا والدين, وكان خطباء الجمعة يدعون للملك في خطبهم ويؤكدون على وجوب طاعته ، ولابد في ملك المغرب من أن يكون متمكناً من العلوم الإسلامية ، حافظاً لجزء من القرآن والحديث والأدعية الضرورية في المناسبات, وأن يكون قادراً على الاستشهاد بالقرآن والحديث ، وأن يرأس الاحتفالات الدينية وأن يحافظ على الدروس الدينية في شهر رمضان ، وأن يحظى العلماء بالتكريم  فى عهده  وهم يقفون معه ويباركون مواقفه وسياساته .

وللعلماء مكانة خاصة في المغرب ، ويرعاهم الملك ويتبرك بدعائهم ، ولا يمكن للعلماء أن ينضموا إلى المعارضة ، كما لا يمكن لمنابر الجمعة أن تمارس دور النقد للحكومة التي تسمى حكومة صاحب الجلالة .

كانت المعارضة اليسارية تسيطر على اتحادات الطلاب ، وتستطيع أن تعلن الإضراب وتوقف الدراسة ، ويتدخل رجال الأمن لإعادة الهدوء .. كانت حقبة الستينات قاسية ومرهقة للمغرب ، وكانت السجون مليئة بالمعتقلين السياسيين من المعارضة اليسارية ، وبخاصة في ظل سياسة القمع التي كان يقوم به الجنرال ( أوفقير ) والتي أدت إلى أحداث الصخيرات ..

كان الملك يثق بقوة المؤسسة الملكية على مستوى التأييد الشعبي وبقدرتها على التحكم والسيطرة ، وكان اليسار ينتقد دور العلماء التقليدي الموالي للقصر والذي يحركه القصر متى أراد ، أما الشباب فمعظمهم يعمل تحت شعارات المعارضة ..

ولما وقع حادث اغتيال أحد قادة المعارضة اليسارية واتهمت الشبيبة الإسلامية بهذا الاغتيال ، كانت الفرصة سانحة لمطاردة وتصفية هذا التنظيم الاسلامى والقضاء عليه ..

كانت دار الحديث الحسنية مؤسسة علمية وليدة ، وقد أمر الملك بإنشائها في لحظة صفاء روحي في شهر رمضان عام 1964 لكي يكرم من خلالها العلماء بالتدريس فيها ، ولكي يخدم بها الثقافة الإسلامية عن طريق تكوين جيل جديد يجسد الدور المغربي في خدمة التراث الإسلامي ..

وتعثرت مسيرة الدار ، وكان الكل يتساءل عن الدور الذي يمكن أن تقوم به ، وكان ينقصها الكثير لكي تكون مؤسسة علمية معترفا بها ،..ولم تكن تتوفر على القوانين التي تكفل لها الحماية .. وانتماؤها للقصر لا يعفيها من وجود قوانين تنظم أمورها ..

أراد الملك أن تنطلق هذه المؤسسة التي تحمل اسمه وتمثل عهده ، بعد أن ضاق بمشاكلها المتجددة ، وكان يدفعها بأوامر استثنائية تمشي قليلاً ثم تتوقف لعدم وجود مراسيم تنظيمية ، ولعل هذا هو السبب الذي جعلـه يختار صاحبنا لإدارتها ..

سافر صاحبنا إلى طنجه ، وهناك استقبلـه الأستاذ عبد اللـه كنون الأمين العام لرابطة علماء المغرب ومؤلف كتاب النبوغ المغربي ،وهو عالم متميز وصاحب تاريخ عريق في العمل الوطني ، وشارك بعد الاستقلال في تولي مسؤوليات كبيرة ، وكان عاملاً لمدينة طنجه ، وكان صاحبنا يعرفه من قبل في أول زيارة لـه للمغرب ، وأعجب به كشخصية إسلامية ذات إمكانيات فكرية وقيادية ،وكان يحترم نفسه ، ويقول كلمة الحق بحكمة, وينصح ويوجه وينقد ويقود الرابطة بكفاءة عالية ، وحكمة بالغة ، كان يحسب حسابه وتخشى كلمته ، وكان محترماً ومهاباً تحترمه السلطة لمكانته ويحبه العلماء ويثقون بقدراته وإخلاصه ،وهو امتداد لجيل العلماء الأفداذ الذين يحسنون تقديم النصح للحكام بالكلمة العاقلة ،و كان يشغل الأمانة العامة لرابطة علماء المغرب لمدة طويلة بجدارة وكفاءة ،و لم يكن أحد ينافسه اويعارضه, وكان عقل الرابطة وباعث دورها ، وفي عهده كانت الرابطة الرمز الكبير لكرامة العلم والعلماء ، كلماته محسوبة بذكاء وحركته ذكية ، كان زاهداً في مغريات السلطة ، ولو أراد الكثير لحصل عليه بسخاء ، واختار حياة الكرامة لنفسه وللعلم وللعلماء ، وبعد وفاته فقدت الرابطة الكثير من استقلالها ومكانتها ..

في أول اللقاء هنأ صاحبنا وأعرب عن تفاؤلـه ومساندته لـه في مهمته ، وأشفق عليه مما سيلقاه من صعوبات ، وأبلغه بلغة الواثق من كلامه ” لن تمكَّن من العمل ” وإذا أردت العمل فسوف ينتصب الجميع لمحاربتك وسوف تجد نفسك وحيداً معزولاً .. خصوم الثقافة الإسلامية في كل مكان .. وهم ممسكون بمفاصل القرار ، وطلب منه أن يهيئ نفسه لمواجهة تحديات صعبة ودعاه لحضور مؤتمر العلماء الذي سينعقد بالجنوب في أغادير  ..

وانتقل صاحبنا إلى فاس واستقبلـه عميد كلية الشريعة الشريف عبد الواحد العلوي ، وهو عالم من الأسرة العلوية وعلى خلق رفيع ، وسبق لصاحبنا أن تعرف عليه في مجالس الدروس الحسنية ،.. والأسرة العلوية كبيرة ومتماسكة ، وهم في موطن الرعاية والثقة والتكريم ، وظهر منهم علماء كبار وشخصيات كبيرة ، وكان نبيلاً في موقفه لبقاً في استقباله، ويمثل في مركزه كعميد لكلية الشريعة بفاس أهم مركز علمي ، وفاس هي عاصمة العلم ، وعلماء فاس يحسب لهم حساب ، وعميد هذه الكلية هو رئيس لجامعة القرويين في ذلك الحين ، وكان لعلماء فاس دور كبير في تاريخ المغرب السياسي ، فهم أصحاب الكلمة والبيعة ، ولابد إلا أن يكون علماء فاس في موطن الرعاية ، وانطلقت معظم الشخصيات الوطنية من أحياء فاس ومن الأسر الدينية التي اشتهرت بالعلم والثقافة والمكانة .. والصيحة التي تنطلق من فاس يسمع صداها في المغرب كلـه ، فالكل في فاس ، ويفخر الفاسيون بمكانتهم ، ولا يقبلون أي تجاهل لدورهم ، وهم أذكياء وأصحاب حضارة ، ويحسنون الكيد إذا وقعت الإساءة لهم ، ولا يقبلون أن يسند أمرهم لغيرهم ، وبالرغم من هجرة الأسر الفاسية العريقة من فاس بسبب التجارة أو السياسة اوالإدارة فهم يعتزون بانتمائهم ، والأسر الفاسية العريقة محترمة حيثما حلت ، وهم أوفياء لتاريخهم الحضاري والوطني ، ولما حل صاحبنا بمدينة اكادير للمشاركة في المؤتمر العام لعلماء المغرب وجد هناك علماء المغرب من كل المدن المغربية ، وانعقد المؤتمر تحت رعاية الملك وحضر حفل الافتتاح كبار رجال الدولة ممن أوفدهم الملك لحضور أشغالـه ، تأكيداً لرعايته للعلماء ، حضر المؤتمر أكثر من مائتي عالم على رأسهم الأستاذ عبد اللـه بن كنون ومكتب الرابطة ورؤساء فروع الرابطة ، كان الأستاذ كنون يمسك بالمقود لكيلا ينزلق المؤتمر إلى قرارات محرجة للحكومة ، ويوجه بحكمته الأمور ، وينصح بالاعتدال والتوسط والحكمة ، وهناك حرية كاملة في التعبير والنقد والتوجيه ، إلا أنه يجب أن يقع الالتزام بالضوابط لمنع الانزلاق ، وبخاصة من جيل الشباب الذين يندفعون بقوة في صياغة تصورات مثالية يرونها الأفضل والأكمل ، ولا يدركون أن الشيوخ الذين عركتهم الحياة يعرفون حدود الحرية المتاحة أفضل منهم ، لسلامة المركب من الغرق ، فالرابطة لابد لها من دعائم ، وعليها أن تؤدي المهمة الموكولة إليها في حدود ما هو مرسوم لها ، لتطويق كل انحراف أو انزلاق .

ولأول مرة زار صاحبنا منطقة سوس في جنوب المغرب ،و هناك تجد المغرب الحقيقي في القيم والسجايا والكرم والدين والأخلاق ، فالعلم مقدس في سوس والعلماء رموز فضيلة والبيوت الفسيحة مفتوحة للعلماء ، ولا حدود لعطاء الشخصية السوسية في مجال القيم الإسلامية ،ومعظم أهل سوس من البربر ويتكلمون في بيوتهم بالبربرية ويسمون ” الشلوح ” والشلوح أهل وفاء وكرامة واستقامة ودين ..

أهل سوس يتنافسون لتكريم العلماء ، وهم قوم عاملون وتجار بالفطرة ، ويفخرون بالعمل ، وهم متواضعون بالرغم من قصورهم ، لا تهمهم المظاهر ،و مظهرهم لا يدل على مكانتهم الاجتماعية ، يعيشون في بداية أمرهم بالقليل ، ولا ينفقون على البذخ والمظاهر ، وسرعان ما تجدهم أصحاب ثروات باهظة ، ويختلفون في هذا عن أهل فاس الذين يحبون المظاهر ويهتمون بها وينفقون الكثير عليها ، ويحرص السوسي على الزواج من سيدة فاسية التي تتمتع بقدر كبير من الذكاء والثقافة وحسن التدبيرلكي يأخذ بأسباب الحضارة ، و تتطلع المرأة الفاسية إلى الزواج من السوسيين الأثرياء لتحقيق طموحها في حياة مرفهة .

أحب صاحبنا سوس وأهل سوس وكانت تربطه صلة مودة بعدد من أصدقائه من سكان سوس ، ومن أبرزهم  السيدعبد الرحمن بوفتاس والسيدعبد اللـه الأزماني والشيخ حسين وجاج والشيخ عبد اللـه الكرسيفي ,وهؤلاء من وجوه سوس.

وخلال وجوده في أغادير تعرف على الحاج يحيى بدر من وجهاء أغادير وأثريائها خلال دعوة أقامها للعلماء ، وكان من كرام الرجال وحدثه بما هو عازم عليه من عمل خيري ينفع به بلده ، وكان أهل سوس يتطلعون لإنشاء كلية للشريعة فأقنعه بأن يوجه جهده لإنشاء هذه الكلية ، فأعلن عن استعداده لوقف قصر جميل لـه في منطقة ( أيت ملول ) خارج المدينة لإنشاء هذه الكلية ، ولما استقبل الملك وفد علماء سوس أعطى أوامره بإنشاء الكلية في القصر الذي أوقفه السيد يدّر الذي توفي بعد فترة وجيزة …

خلال هذا المؤتمر تعرف صاحبنا على عدد كبير من علماء المغرب ، وجرت خلال أيام المؤتمر حوارات ومناقشات مفيدة ،و لم يشعر قط بما يعبر عن ضيقهم  ، بل وجد كل ترحيب وتكريم ، وبخاصة من الأستاذ عبد اللـه كنون رئيس رابطة العلماء الذي كان يجلسه إلى جانبه ، ويخصه بالحديث والتكريم ، ويشرح لـه ما كان يحتاج إلى توضيح من مواقف العلماء ، ولعل سبب موقفهم هذا أنهم كانوا يعتبرونه ضيف جلالة الملك ، والمغاربة بشكل عام يتميزون باللباقة والأدب في العلاقات العامة ويحترمون قرارات الملك، وقلما تجد من أحدهم تصرفاً يخرج عن نطاق الأدب  الاجتماعى ما لم يضع الإنسان نفسه في موطن الحرج ..

و عاد بعد انتهاء المؤتمر إلى الرباط بعد جولة في شمال المغرب وجنوبه حيث تعرّف على المغرب ، وسمع الكثير مما يمكن أن يفيده في أداء مهمته ، وكان السيد أحمد بنسوده مدير الديوان الملكى دائم الاتصال به ، وهو شخصية وطنية ذات تاريخ مشرق في الحركة الوطنية والعمل السياسى ، وهو خطيب مفوه يحسن  الكلام ولـه ثقافة إسلامية عميقة ، وهو عالم وحافظ للقرآن ومن أسرة علمية ودينية  أسهمت خلال تاريخها في التوجيه الديني في مدينة فاس ، واشتهر علماء الأسرة السودية بالوعظ والإرشاد والعلم والتأليف ، وكان علماء هذه الأسرة هم خطباء الجمعة في المساجد الكبيرة ، وأصل الأسرة من الأندلس وهاجروا إلى المغرب ، وهم أصحاب مروءة وفضل ونبل ، وكان الأستاذ بنسوده يتحدث باعتزاز عن تاريخ أجداده من العلماء ,وهناك مؤلفات عن تاريخ هذه الأسرة ,وكان أحمد بنسوده الجد الاعلى لهذه الاسرة يعمل في خدمة أحد الملوك العلويين ، كان الأستاذ بنسوده واسع الصدر نبيل الخصال يحب الخير ويسعى من خلال منصبه لمساعدة العلماء وأصحاب الحاجة ، ويرفع شكاويهم ومطالبهم إلى الملك ، وكان الملك يحبه ويقدر حبه لعمل الخير ، وقويت علاقة صاحبنا بصديقه الأستاذ بنسوده ، وكانا يصليان الجمعة معاً في مسجد آل فاس في المشور السعيد وهو المسجد الرسمي الذي يصلي فيه الملك صلاة العيدين ، واستمرا لمدة عشرين عاماً يصليان الجمعة في هذا المسجد إلى أن انقطع عنه عندما أقعده المرض ، ويجلسان بعد الصلاة يتحدثان في الشؤون العامة والقضايا الثقافية وهي الجلسة الأسبوعية المستمرة ، يتحدث كل منهما بما عنده ويتبادلان الرأي واستمر مستشاراً للملك لمدة تزيد عن ربع قرن ، واحتفظ بهذا المنصب بالرغم من المرض الذي أقعده في داره لمدة طويلة ، تقديراً لجهاده الوطني وبخاصة بالنسبة للصحراء المغربية التي رفع فوق ساريتها أول علم مغربي وأصبح والياً عليها ..

أبلغ الأستاذ بنسوده صاحبنا أن جلالة الملك اصدر مرسوم تعيينه مديراً لدار الحديث الحسنية بدرجة وزير عضو في الحكومة بمرتبه وتعويضاته ومنافعه ، وكان هذا التعيين بهذه الدرجة هو أسمى تعبير عن التكريم والتقدير ، واستمر في هذه الدرجة لمدة ثلاث وعشرين سنة ..

حفل التنصيب

كلف الملك  الحاج محمد باحنينى  الوزير الدائم فى الحكومة  والمكلف  بالمصالح الملكية ان يرأس حفل التنصيب الذى يتسلم به  المدير الجديد  ادارته , وحضر الحفل عدد من الوزراء منهم وزير التعليم العالي ووزير التعليم الثانوي ووزير الاوقاف ومدير الديوان الملكي أحمد بنسوده وإبراهيم فرج مدير المصلحة الإدارية والمالية للقصر والذي عين فيما بعد في منصب الحاجب الملكي وكبار المسؤولين في الدولة وعلماء المغرب وقدماء الخريجين ، وترأس الحفل الحاج محمد باحنيني الذي ألقى كلمة رائعة صاغها بعبارات أنيقة وأسلوب أدبي راقٍ ، وبدأها بقولـه :

عهد إلي صاحب الجلالة الحسن الثاني أدام اللـه ناصر زمانه وواطد سلطانه بتسليم مقاليد هذا المعهد الموسوم باسم العاهل الكريم الظافر بالسابغ من كلاءته ورعايته إلى مديره الجديد العالم النحرير الدكتور …………….. وإني لمبتهج شديد الابتهاج ومعتز عظيم الاعتزاز بأن يضفي عليّ شرف هذا التسليم ، ويختار للحظوة بهذا المنصب الجليل صديق مبجل عزيز ، وإذا كانت الأعراف جارية في مثل هذه المناسبة بتقديم من يقع عليه الاختيار وتسند إليه المهام إلى الملأ من ذوي الصلة والعناية ، فما أراني اليوم في حاجة إلى ركوب مسلك مألوف والأخذ – امتثالاً للعادة –  بعرف معروف ، ذلك أن الدكتور الفاضل أغنى بما فيه بلاغ للسائلين ، فقد قدم نفسه أحسن تقديم إلى مختلف طبقات المثقفين في مشارق الأرض ومغاربها بما ألقى من دروس وألَّف من تآليف وتحدث به من أحاديث وعرف الناس بالواسع من درايته والدقيق من بحثه والصحيح من استنتاجه والمتصل من كفاحه ونضالـه إعلاء لكلمة الدين وتبيينا لإغلاق الفكر الإسلامي وترغيباً فيما أنجبته العبقرية الإسلامية من ثقافة غنية مخصاب ، وأبقته من تراث شامخ بهيج .

وتابع خطابه بقولـه :

لقد أفضى إليك صاحب الجلالة الحسن الثاني أطال اللـه بقاءه بالاهتمام البالغ الذي يوليه لدار الحديث ، وبالأغراض التي يتطلع إلى إدراكها من خلال اعتلاق الطلبة بالكتاب العزيز والسنة النبوية ، وأوضح لك يوم أفضى إليك بهذا كلـه ما يستجيشه من طموح إلى أن تصبح هذه الدار الموقوفة على كتاب اللـه وسنة رسولـه صلوات اللـه عليه وسلامه حصناً حصيناً يقي العقول والأفكار مكاره الغزو والتوهين ، ومركز وثيق الأركان من مراكز التألق والإشعاع ومنطلقاً وطيداً لإصلاح النفوس المعتلة والضمائر المدخولة ، ثم انتهى إلى نفسك من البيان الملكي أن الغاية المطلوبة أن يعطى هذا الصرح من المناعة ويمد به من الأسباب ويضفي عليه من الجلال ويكسب من الوزن والفاعلية ما يرد التيارات المناوئة للدين . مغلولة الحد داحضة مدحورة لا تستطيع وإن اجتهدت أن تُحدِث في المجتمع السليم ما تبتغيه من شنيع الآثار ..

وختم كلمته بقولـه :

وإني إذ  أحيي في شخصك أيها الأخ العزيز العالم الذي أحببناه منذ عرفناه ، وطفقنا نُسَرُّ بطلعته وحديثه كلما لقيناه وحادثناه لأعد من أسباب سعادتي أن أجدد لك في هذا الحفل الحفيل تهنئتي بما حظيت به من ثقة سامية غالية ، وأردد  ما شافهتك به من يقين بأن اللـه سيسدد خطاك وينجح مسعاك ، ويكتب لدار الحديث الحسنية بجميل تصريفك ولطيف تأنِّيك المصير المعلم بالإشراق على مدى العصور والأزمان ([1]) .

جرى حفل التنصيب يوم 5 أبريل 1977 بعد شهر ونصف من تاريخ التعيين ، وأذاعت التلفزة المغربية كلمة الحاج محمد باحنيني كاملة كما نشرتها الصحافة المغربية بعناوين بارزة ..

وألقى صاحبنا كلمة شكر جلالة الملك لثقته التي يعتز بها ، وحدد ملامح الخطة التي وضعها للنهوض بهذه المؤسسة والتي التزم بها فيما بعد ، واعتبرها برنامج عملـه ، كانت كلمة الوزير واضحة في بيان الأهداف المرتجاة من تعيين المدير الجديد والغاية المطلوبة وأهمها :

إعطاء هذه المؤسسة المناعة والقوة والفاعلية والوزن لرد التيارات المناوئة للدين ودحرها حماية للمجتمع من خطورة ما تحدثه تلك التيارات من آثار ضارة ..

أحدثت كلمة الوزير اهتماما في المجتمع المغربى ، وبدأ التساؤل عن الدور المطلوب أن تؤديه هذه المؤسسة .. لماذا كل هذا الاهتمام .. ما المراد بالتيارات المناوئة للدين والتي يراد دحرها وهزيمتها ..

هذه أول إطلالة لدار الحديث الحسنية على المجتمع ، وقد اتجهت الأنظار إلى المدير الجديد ، وسلّت السيوف من أغمادها لكي تواجه ذلك القادم من الشرق ..

كان الكل يعرف أن الحسن الثاني يحسب حركته ويتحرك بذكاء وشجاعة نحو الهدف الذي يريده ، هناك حصن يشاد ويسهر الملك نفسه على بناء أعمدته ..

كان الملك يبحث عمن يتوسم فيه القيام بهذا الدور ..

كان الحاج محمد باحنيني من أعمدة المؤسسة الملكية ، بل هو الركن الاول والأقوى فيها ، يتحرك بقوة وذكاء ، ويعبر عن الأهداف الملكية ، لا تحركه العواطف ولا يستجيب للأهواء ، يتحرك بإرادة الملك ، ويفهم جيداً الدور المطلوب منه .. هو مع الملك  في كل خطواته ، في إقدامه وإحجامه ، في حبه وكراهيته ، ولاؤه للملك بلا حدود ، هو موطن الأسرار .. كان الكل يهابه ويحسب حسابه ، ابتسامته محسوبه وحركته منضبطة ، تتغير الحكومات وتتعاقب الأدوار ويظل هو في موقعه في الوزارة ، ينتقل بين الوزارات, وقوته في ثقة الملك به ..ويستشار في أهم المواقف ، ويكتب خطابات العرش ، وتوكل إليه المهمات الصعبة .

وأهم فضائلـه أنه أمين فيما يوكل إليه ، نظيف اليد والسمعة ، لا تحركه مصالحه ، ولا يستغل مكانته ونفوذه لمصالح شخصية ، وهو ذكي هادئ شديد التهذيب والأدب ، يكتفي بالإشارة ، والتلميح ، ولا ينبغي أن يستفز أو يستغضب ، وفاؤه للقصركبير، وثقة الملك به تمنحه الاستقرار النفسي ..

يخشاه الجميع ولا يخشى أحداً ، ويتقرب إليه الجميع ولا يتقرب إلى أحد ، فهو عين الملك يراقب كل شيء ، وينبه إذا وجد خللاً أو انحرافاً ..

كان أستاذاً للملك وتولى الأمانة العامة للحكومة ومناصب وزارية ، واستمر في الوزارة إلى أن توفاه اللـه ، وكان إلى جانب مسؤولياته مشرفاً على المصلحة الإدارية والمالية للقصر الملكي التي تتولى كل المصالح الملكية ، فهو الذي يشرف على ميزانية المصالح الملكية ويوقع كل التعيينات والترقيات والمهمات , وكان يساعده السيد إبراهيم فرج الحاجب الملكي الذي تولى هذه المسؤولية بعد وفاته ، وبناء على أن دار الحديث تابعة للقصر الملكي فالحاج محمد باحنيني هو المسؤول من الناحية الإدارية والمالية عليها ، ويتولى وزير التعليم العالي الإشراف التربوي فقط ولا علاقة لـه بالتعيينات الإدارية والإنفاق المالي .

كانت هذه الازدواجية في علاقات المؤسسة بالوزارات المختلفة هي العقبة الأولى ، فكيف يمكن لوزارة التعليم العالي أن تشرف وأن توجه وهي ليست معنية من الناحية الإدارية ، و المؤسسة ليست تابعة لها ، وكيف يمكن للقصر الملكي أن يشرف على النشاط الأكاديمي ولوائحة خالية من أي شيء ينظم هذا النشاط ، وبالإضافة إلى هذه التبعية المزدوجة هناك تبعية ثالثة لوزارة تكوين الأطر التي يجتمع في رحابها مجلس التنسيق الذي , ومعهد الشبيبة والرياضة الذي يتبع وزارة الشبيبة والرياضة ، وهناك أكثر من ثلاثين مؤسسة تابعة لوزارة تكوين الأطر التي تشرف على مجلس التنسيق الذي يقر التعيينات في المناصب العلمية وترقيات الأساتذة فإذا ضمت وزارة تكوين الأطر إلى وزارة التعليم العالي فالأمر يسير ويجتمع المجلس برئاسة وزير التعليم العالي ، وإذا انفصلت فلابد من إلحاق تكوين الأطر بوزير آخر وتحدث مشكلات الازدواجية وتعدد المراجع وتداخل الاختصاصات..

( الزيارات : 1٬856 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *