الأسرة النبهانية.. مسؤولية الإنتماء

الكلتاوية

مما كان يسعدني أن أجد أبناء الكلتاوية وهم الأسرة العلمية للشيخ محمد النبهان رحمه الله في كل مكان، كانوا تلامذته الذين رضعوا من فكره وتربوا على يديه وانتسبوا إلى مدرسته الفكرية، كانوا يعتزون بهذا الانتماء ويعبرون في كل مناسبة عن وفائهم لشيخهم ومربيهم ومرشدهم، والتزامهم بمنهجه التربوي، كنت أراهم قريبين مني، وأفرح لنشاطهم، وكنت دائم الاتصال بهم وأتابع ما يعملون، كنت أراهم الأفضل فيمن عرفت، والأكثر استقامة ونزاهة، وكانوا الأكثر تأثيرا في مجتمعهم…

طائفة منهم في مدينة حلب والمناطق التابعة لها، وطائفة أخرى رحلت إلى بلدان أخرى في الكويت والسعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، وعندما كنت ازور بلدا من هذه البلاد كنت أراهم وافرح بهم، واجد أثرهم الايجابي في مجتمعهم، مئات من أبناء الكلتاوية وهو المصطلح الذي يطلق عليهم يؤدون مهمتهم في الوعظ والإرشاد والتوجيه، ويتميزون بفكر واحد يجمعهم ولا يخرجون عنه هو فكر شيخهم، هم رموز دعوة وينتمون إلى فكر صوفي غير طرقي، إذا سمعت حديثهم تأكدت من استقامة فكرهم، وتغلب عليهم الجدية وفكرهم اقرب للوسطية، ويتميزون بصفة واضحة في شخصيتهم هو ابتعادهم عن السلطة في الأغلب، فهم لا يحسنون التملق والنفاق للسلطة، وإذا ما صدر مثل هذا السلوك عن احدهم فسرعان ما يبتعدون عنه أو ينظرون إليه نظرة إدانة …

ويعتزون بانتمائهم إلى صوفية معتدلة كما هو منهج شيخهم، ليست لديهم أوراد ولا يمارسون طقوسا في مجالسهم، ولا يأخذون بأية طريقة صوفية، ويغلب على سلوكهم الصوفي الالتزام بالشريعة…

وتوجد طائفة كبيرة منهم في العراق، وفي معظم المدن العراقية القريبة من بغداد، وبخاصة في مدينة الفلوجة المجاهدة، التي ينتمي معظم سكانها للكلتاوية، ولما زرت العراق قبل حرب الخليج الأولى لحضور مؤتمر السلام في بغداد التقيت بأتباع الشيخ النبهان هناك، وبخاصة في الفلوجة وسامراء والرمادي.. كانوا بالمئات، ومعظمهم من العلماء، وهم على صلة وثيقة بإخوانهم في حلب..

وقد تفرغ الأخ الشيخ هشام الالوسي من الفلوجة لكتابة حياة الشيخ وتدوين أفكاره وأصدر كتابه الأول، وهو يعد كتابا عن الشيخ أوسع من الأول يتدارك فيه ما فاته في كتابته الأولى، وهو محب صادق ملتزم…

قد يؤخذ على جماعة الكلتاوية أنهم أكثر تشددا من غيرهم من الأفكار والسلوكيات، وأنهم أكثر انغلاقا من غيرهم، وأنهم يكونون مدرسة  منغلقة لا تقبل الحوار ولا تعترف بالآخر،وحاولت أن ادرس هذه الظاهرة بموضوعية، وقد يكون بعضها صحيحا، وقد يلتمس لهم العذر في بعض المواقف، ولكن معظمهم يشارك بنشاط وفعالية في مجال الدعوة، وعندما يشاركون في العمل العام فان  من المؤكد أنهم يملكون مؤهلات متميزة وقابليات مشجعة..

في لقاءاتي الأسبوعية في الكلتاوية كنت أؤكد على أهمية فتح النوافذ المغلقة والإطلالة على الحقول المجاورة لكي تكون الرؤية شاملة وسديدة وكاشفة للحقيقة ومهمة للتعرف على الحقيقة المرجوة..

في كل لقاء كنت اطرح قضية عامة قابلة للحوار، وكنت أجد استجابة وقبولا واستعدادا طيبا للاحتكام للحق، ولم أجد ذلك الانغلاق المرضي الذي يدل على الجهل، وإنما وجدت استعدادا لقبول الجديد من الأفكار، وكنت اشرح لهم كلام الشيخ المرشد الذي يعتبرونه المرجع الوحيد لفكرهم، كانوا مستعدين لقبول كل ما صدر عنه من توجيهات…

وعندما كتبت كتابي الجديد عن الشيخ محمد النبهان تلقفه إخوان الشيخ بالفرحة و عكفوا على قراءته لمعرفة حقيقة فكر الشيخ، ولم يجدوا في فكره ذلك التزمت ولا ذلك التشدد، فقد كان الشيخ يتحدث عن آداب السلوك ويخاطب السالكين، وهو خطاب توجيه وتقويم وغايته الكمال،

لقد وجدوا فيما كتبته صورة مغايرة لما سمعوه من قبل عن الشيخ، معظهم لم يلتق بالشيخ، أو التقى به في مرحلة الطفولة حيث يكون الفهم اقل استيعابا للحقيقة المرجوة…

أتوقع أن يحدث الكتاب أثرا ايجابيا في نفوس المنتمين إلى هده المدرسة التربوية في الكلتاوية، سواء في حلب أو العراق، وربما سوف يستوعب الجيل اللاحق القيم الإنسانية الراقية…

كنت أريد أن أوجه هده الطاقات الشابة من طلاب العلم من خلال لقاءاتي الأسبوعية بهم إلى الاهتمام بقضايا الإنسان المعاصر، والى التركيز على أهمية الكرامة الإنسانية واحترام حقوق الإنسان، وأهمها الحريات العامة، حرية التفكير وحرية التعبير وحرية المشاركة في القضايا العامة ومقاومة المظاهر السلبية في واقعنا المعاصر، ولابد من تحرير المفاهيم من القيود الخاطئة التي ينتجها التخلف ويعمقها الجهل…

هذه الباقة الصغيرة من طلاب العلم كنت أراها كبيرة، وبعد سنوات قليلة سيكون هؤلاء هم رموز الدعوة وأداة الإصلاح، إذا حملوا فكرة فسرعان ما ينقلونها إلى المجتمع بعد حين… ولا بد إلا أن ننتظر الربيع، حيث تزهر النباتات التي كانت في بطن الأرض، ولما تبلغ كمالها البدني سوف تعطي ثمارها المرجوة.

وكثيرا ما كنت احدث أخي الشيخ محمود حوت مدير مدرسة الكلتاوية وهو المؤتمن على إدارتها عن الآمال المعقودة على هذه المدرسة وعلمائها، وأشجعه على أن يوفر لهؤلاء الطلاب المناخ الملائم لنمو أفكارهم وامتداد آفاق رؤيتهم، لكي يعيشوا عصرهم الذي سيأتي فيما بعد، قضايا هؤلاء ليست قضايانا، ولابد من إعدادهم لفهم قضاياهم واستيعاب ما يواجههم..

كنت أتفهم بعض هذه العقبات وأدرك المخاوف التي كانت تراود الجميع، ولم تكن حرية الحركة بمأمن من الأخطار، ولا بد من مراعاة طبيعة الظروف المحيطة التي تحتم تحجيم القدرات وكبح جماح الطموحات.. لكيلا تتوقف المسيرة.. ومما كان يسعدني أن أرى الجيل الأول من علماء الكلتاوية والمنتمين إلى هذا المنهج التربوي يقفون في الصف الأول بين علماء مدينة حلب، ويؤدون مهمتهم بنجاح، ومن ابرز هؤلاء الدكتور محمد صهيب الشامي مدير أوقاف حلب والدكتور احمد حسون مفتي حلب، والشيخ محمود حوت خطيب الكلتاوية، والشيخ احمد العيسي مدير مدرسة منيح والشيخ عبد الهادي بدله خطيب جامع الرضوان والشيخ احمد حوت خطيب جامع البراء وعشرات العلماء الذين يتولون مهمة الدعوة والعمل الإسلامي..

هذه الباقة الطيبة من علماء حلب،ومن أبناء الكلتاوية ومن تلامذة الشيخ محمد النبهان رحمه الله هي اليوم مدعوة لكي توحد كلمتها ولكي تتغلب على تناقضاتها وخلافاتها، فهي قوية بوحدة كلمتها، وبخاصة وأنها تنتمي لمدرسة فكرية وروحية واحدة…

وأدعو خريجي المدرسة الكلتاوية لإنشاء رابطة موحدة تجتمع في كل عام مرة واحدة، للتعارف أولا وللتكافل والتناصر ثانيا لمساعدة من يحتاج إلى مساعدة ولتمكينه من تحقيق مطالبه وطموحاته وبخاصة فيما يتعلق بالدراسة والعمل،  وأؤكد لإخواني من علماء الكلتاوية أنه لا بد لهم من أن يكون لهم فكر مميز يوحدهم ومنهج علمي يقرب ما بينهم في الأهداف، سواء على مستوى الفكر التربوي أو على مستوى المواقف العلمية، بما ينسجم مع المنهج الذي كان الشيخ النبهان يدعو إليه..

ولا اعتقد أن هذا الالتزام سيكون صعبا وعسيرا وسوف تظل مدرسة الشيخ النبهان حية في النفوس ما دامت تحمل فكرا مميزا يجسد طموح الأجيال المقبلة إلى الأفضل، ويدعو إلى منهجية روحية ترتقي بمستوى الفكر إلى الأفق الإنساني الذي يعتبر المعيار الأصدق للتقدم المنشود..

( الزيارات : 1٬609 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *