الامسية الاخيرة ..انس ووصية ودعاء

)

 

اشتهر الشيخ بقوة بنيته وسلامة صحته، فلم يكن يشكو من مرض، وقلما كان يصاب بصداع أو زكام أو آلام، ولم يكن يألف حياة اـرض والاستسلام له.

كان يحب رياضة المشي، ويخرج إلى المزارع لكي يمشي في دروبها، ولم تكن ملامح الشيخوخة تظهر عليه، كان يقاومها بقوة إرادته وبنشاطه الدائم، ولم يتوقف نشاطه اليومي في الكلتاويّة في الصباح والمساء، وكان يستقبل زواره وإخوانه، ويتناول طعامه معهم في الكلتاويّة عند الضحى وبعد العصر، ويشاركه في الطعام كل من كان في مجلسه.

بزوغ ملامح الإرهاق في السنوات الأخيرة:

في السنتين الأخيرتين من حياته بدأت ملامح الإرهاق تظهر عليه، بسبب مرض السكر الذي كان يشكو من أعراضه، وأهم أعراضه الانفعال، ولم يكن من عادته الانفعال والغضب، كان يكظم غيظه ويغلب عليه الحلم، وكان هادىء العبارة، صبوراً في المواقف الصعبة.

ولابدَ أن أحداث «قرية التويم» قد أزعجته، ولكنه لم يكن يتحدث عنها، وكنت في كل مساء أعود معه من الكلتاويّة إلى داره، أو أزوره بعد عودته إلى الدار، أو أراه في فترة الظهيرة في غرفته أثناء القيلولة.

كنت أحدثه في كل شيء، وأحياناً أداعبه بكلمات محببة إليه، فيأنس بذلك، وكنت أحمل معي مجموعة من المطالب، لبعض أفراد أسرته أو لبعض إخوانه، التمس منه أن يأذن لهم بها، فكان يقول لي بتحبب وود، إذا اقتنعت بهذا فلاباس به.. ولم يكن أحد يناقشه في أمر، لا لأنهم يخافون منه، ولكنهم كانوا يحترمون ما يقول.. وإذا اقتنع بأمر فسرعان ما كان يأخذ به.

عندما أعود إلى حلب من السفر كنت أزوره مباشرة فيفرح بقدومي ويعود إلى الدار في وقت مبكر عند الظهر والمساء لكي يسألني عن أحوالي ويطمئن عن أسرتي، وإذا رأى زوجتي أجلسها إلى جانبه وأكرمها وسألها عن أبيها وحدثها عن جدها الشيخ أبو النصر شيخه في السلوك، وأوصاني بها خيراً.

في كل أمسية كنت أجلس إلى جانبه على حافة الفراش الذي ينام عليه في فناء الدار العربية التي كان يسكنها، النور خافت ونسمات الليل في أمسيات الصيف تداعب الوجوه.. أحدِّثه في كل شيء ويحدثني، استفسره عن بعض الأمور ويجيبني.. ويشرح لي ما لا أعلمه من الأمور، ويستخرج من ذلك العبرة، ويختم ذلك بنصيحة أو كلمة نورانية تشعرك بسمو نظرته للأمور.

سألته يوماً في إحدى تلك الأمسيات عن سر ما وقع له من ابتلاءات فقال لي: هذا امتحان لكم وليس لي، فأنا راض بقضاء ربي واختياره، يا ولدي: لقد وجدت الخير كله في الابتلاء، فالابتلاء يشعرني بعبديتي لله تعالى وبفقري إليه.

يا ولدي: أنا لا أطلب الابتلاء ولكن إذا أراده الله فأنا راض به وكيف لا أرضى بما رضي لي به حبيبي وقص عليَّ قصة سمنون المحب الذي خاطب ربه بقوله:

وليس لي في سواك حظ فكيف ما شئت فاختبرني.. كنت أداعبه بكلامي فيبتسم، وأمازحه فيأنس، كان يعرف حبي له وكنت أعرف حبه لي، ولم يتدخل قط في أمر من أموري الخاصة إلا إذا استشرته فينصحني، ويوجهني بكلمات هادئة ولهجة محببة، وكنت أحياناً أفضي إليه بما يجول في خاطري فيشرح لي الأمور ويعيد إلى نفسي الأمل والرجاء.

ذكريات صيف عام 1974:

عدت من سفري المعتاد في بداية صيف 1974، رحبَّ بي أجمل ترحيب، كان في الكلتاويّة، عاد إلى البيت سريعاً، وكنت أرافقه، أمسكت بيده وهو ينزل درج الكلتاويّة، ولما استقر في غرفته، قال لي: حدثني عن زيارتك للمغرب.. لقد أبلغني المغاربة الذين التقيت بهم أثناء تشييع السيد المكي الكتاني بدمشق أنك كنت في المغرب، وألقيت درساً أمام الملك، وأعجب الملك به.

حدثته بالتفصيل عن تلك الزيارة وعن الدرس، قال لي:

إنني معك أينما كنت.. والأسفار لا تحجبك عني… أنا معك في شبابك كما كنت معك في طفولتك.

قلت له: أريد أن أعود إليك لكي أكون معك وفي خدمتك، أجابني بلهجة حانية ودودة دافئة:

ليس المهم أن تكون معي بجسمك وإنما المهم أن تكون معي بقلبك، والسفر ليس حجاباً، والحجاب هو إعراض القلوب..

ثم طلب مني أن آتيه بورقة فكتب:

«اللهم يسر ولا تعسر.. اللهم تمم بالخير.. يا كريم يا رحيم يا الله».

ما زلت احتفظ بهذه الورقة حتى اليوم..

في كل أمسية كنت أزوره، مشتاقاً لتلك الجلسة المسائية، فإذا تأخرت سأل عني..

كانت هناك امرأة فقيرة محجبَّة تطرق الباب بعد مغرب كل يوم، لا أحد يعرف عنها شيئاً، ولم يسألها أحد عن اسمها وسكنها، كان الشيخ يأمر أسرته بأن يعطوها طبقاً من الطعام يكفي لإطعام أسرة، كانت تأخذ الطعام وتأتي في كل مساء تحضر الطبق الفارغ وتأخذ الطبق المملوء، استمر الأمر لمدة سنوات وكان يحض أسرته على عدم سؤالها عن اسمها إذا أرادت إخفاء ذلك ويقول لهم لقد سخرنا الله لها فلا توقفوا رزقها.

وأوصاني بمتابعة طريق العلم، والعمل هو ثمرة من ثمرات العلم، والعلم لكي يعطيك ثمرته فأعطه كل ما عندك، فإن أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً.. والعلم كله محمود، لأنه يعرفك بالأشياء كما هي في حقيقتها لا في صورتها الظاهرة، والعلم الحقيقي يوصل إلى الله تعالى، وليس هناك علم مذموم، فصفة الذم تأتي من استعمال العلم في المواطن الضارة، وأهم ثمرات العلم أن تدرك أن كل ما في الوجود من خالق الوجود، وكل ما في الأكوان من حقائق تتلمّسها من خالق الأكوان، وما يراه الإنسان من وسائط ما هي إلا أسباب مسخَّرة لخدمة الإنسان، ولابد من الإيمان واليقين بأن الله تعالى مطَّلع على كل شيء ويعلم كل شيء ويسيّر الكون بحكمته وتدبيره.

وقال لي:

يا ولدي: ازرع الخير في كل مكان، لأجلك لا لأجل الآخر، لكي يكون الخير صفة من صفاتك، فلا يليق بالإنسان أن يفعل الشر، ولو مع من أساء إليه، ولا تمنعك إساءته لك من مواصلة الإحسان إليه، والله قد تولى أمر المحسنين، وواجه حقد الحاقدين بإحسانك إليهم وتجاهل ما يصدر عنهم.

يا ولدي: إذا أحب الله عبداً ابتلاه لا لكي يؤلمه ويحزنه ولكن لكي يوقظه من غفلته ويسمع صوت عبده وأنينه مشفوعاً بالذل والانكسار إليه جل جلاله، فيقرّبه منه ويحققه بمرتبة العبديّة لله تعالى، فمن استعز بالله ألبسه الله ثوب هيبته.

يا ولدي، ليس الزهد ألا تملك المال، وأن تعيش في فقر مذل، وإنما الزهد أن تتحرر من قبضة المال والسلطة والجاه فلا تكون عبداً لهم، بل تخرجهم من قلبك، لكي يكون الله في سرك، ولا يكون له شريك في تفكيرك.

يا ولدي: ليست التوبة أن تترك المعاصي خوفاً من النار وإنما التوبة أن تترك المعاصي والآثام لأنك تستحي أن يراك الله تعالى في مواطن المعصية، وهو الذي أنعم عليك بكل النعم الظاهرة والباطنة.

يا ولدي: مما يعينك على تحمل الابتلاءات والمحن أن تشعر بالأنس بالله وأن يشعرك هذا الأنس بالطمأنينة والسكون، وينبثق النور في أعماقك فيشغلك عن همومك وأحزانك.

يا ولدي: خذ بكل الأسباب المادية لتحقيق نجاحك الذي تتطلع إليه، ولكن سلِّم أمر تدبيرك لمن هو أعلم منك بشؤون مملكته وأحوال خلقه وما يصّلحهم، وهذا هو الأدب مع الله، فلا يكون في هذا الكون إلا ما يريده الله.

كان جدي الشيخ العارف يوصيني في كل أمسية بكلمة طيبة، بحاله حيناً وبمقاله حيناً آخر، كلمات قصيرة، إشارات وإيماءات ومواقف، ولم يكن من عادته أن يأمر وينهي، وإنما يوضح ويبين ويعلم.

كنت أدرك أنه في كل كلمة يغرس في كياني غرسه، وفي كل إشارة يضيء في قلبي شعلة، كان الغرس يدفن في نفسي، لا لكي يموت، ولكن ينبت في فصل الربيع بعدما يُسقى بماء الأمطار والآبار، وتشعر الأرض بدفء الشمس ونور القمر.

وذات يوم كانت الأمسية دافئة الكلمات واللمحات والعواطف، حدثته بما يسعده، فابتسم أجمل ابتساماته، كان فرحاً مسروراً لم أشهده من قبل بمثل ما شهدته في تلك الأمسية، تذكرت طفولتي عندما أردفني خلقه على الفرس في قرية الجابرية، وعندما حملني في حمَّامات الحمَّه المعدنية بين يديه يعلمني السباحة وعدت ذلك الطفل الصغير المدلل الذي لم يغادر طفولته الأولى.

( الزيارات : 1٬547 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *