فى رحاب الله ..ايها السيد

قضيت تلك الليلة في داره، أسعدني ما رأيته في ملامحه من نضارة، أحسست بسعادته وفرحه، كان في الرابعة والسبعين من عمره، لم تكن تظهر عليه ملامح الشيخوخة، عند الفجر سمعته يصلِّي الفجر، ويقرأ ـ كما اعتاد أن يفعل ـ بصوت عال، وعند شروق الشمس نام من جديد، وعندما أفاق عند الضحى دخل الحمَّأم، وتوضَّأ وعاد شاحب الوجه متعباً، أخبرتني عمتي أنَّ أرض الحمام مليئة بالدماء.. اقتربت من الشيخ وسألته عن حاله وصحته وهل يشعر بأي ألم ؟.. أجابني أنه يشعر بإرهاق وضعف، وعرفت أنَّ نزيفاً داخلياً وقع له.

استلقى على ظهره في سريره.. وأغمض عينيه لمدة دقائق، وأدركت أنَّه فقد وعيه بتأثير الدم الذي نزف منه.. وقفت أمامه أتأمَّل ملامحه.. وانهمرت من عيني دموع سخيَّة، ولمَّا أفاق ورأى ملامح وجهي وآثار الدموع في عيني أمسك بيدي برفق، وقال لي: لا تخف أنا بخير.. سأقوم الآن..

اتصلت بأحد الأطباء وأبلغته بما حدث، قال لي: لابدَّ من نقله إلى المستشفى ـ هذا نزيف داخلي.. وقد يعاوده مرة أخرى..

أقنعته بضرورة أن يذهب إلى المستشفى للاطمئنان عليه، ارتدى ملابسه، وكأنه ذاهب إلى مناسبة اجتماعية، وخرج من داره، كان طريق الكلتاويَة قد امتلأ بإخوانه الذين وقفوا على جناب الطريق، تقدموا منه وسلموا عليه، سألهم عن أحوالهم.. واطمأن عليهم، وأوصى كل واحد منهم بوصية نحو من يخصه من أسرته وأصدقائه.

أمسكت بيده وهو يهبط درجات الكلتاويّة في طريقه إلى السيارة، أفلَتَ يده من يدي قائلاً: أنا أقوى منك، هل تصارعني.. أمسكتُ بيده مرة ثانية وطوَّقته بيديَّ ومَشَينا مسافة مائتي متر تقريباً إلى أن وصلنا إلى السيارة.

جلس إلى جانب السائق كما اعتاد أن يفعل دائماً، وسارت السيارة من الكلتاويّة والبياضة مخترقة المدينة من شرقها إلى غربها، ولما مرت السيارة أمام جامع الفرقان الشهير الذي كان من أجمل الملاهي الساهرة المطلة على المدينة، قال لي: هذا هو ملهى المونتانا الذي أكرمنا الله بأن يصبح مسجداً للعبادة والطاعة، وتوقَّفت السيَّارة أمام باب المستشفى، كان هناك عشرات من المحبين قد بلغهم الخبر، ووقفوا ينتظرون قدومه، واستقبله الأطباء بكل حفاوة، وأعدوا له مكاناً لإقامته.

لم تكن صحته تنبىء عن خطر يهدد حياته.. نزيف طارىء سوف يتوقف سريعاً.. كان يحدث من حوله وكأنه في مجلس من مجالسه..

أعطوه الدم الذي فقده، واطمأنت النفوس، ولما دخلت غرفته في المساء رأيت آثار الدم على وجهه، أخبرني الطبيب أن نزيفاً جديداً في فمه بسبب انفجار شريان داخلي.

كانت ردهات المستشفى وممراته مليئة بإخوانه الذين بلغهم الخبر، فجاءوا مسرعين للاطمئنان عليه.

جاءني الحاج فوزي شمسي والحاج محمد عجم والحاج ناصر الناصر وطلبوا مني أن نتحدَّث على انفراد، ولما جلسنا قال لي الحاج فوزي شمسي: الأعمار بيد الله والأمل بالله كبير، ولكن لو كتب الله الوفاة فأين سيتم الدفن، فوجئت بما سمعت وكأنني لم أتوقع ذلك أبداً، ولابد أنهم سمعوا من الأطباء ما لم أسمع.

قلت لهم والدمعة في عيني:

سيدفن في غرفته في الكلتاويّة وفي المكان الذي كان يجلس فيه وبقيت وحدي أفكر في الأمر.

هل يمكن أن ينتقل الشيخ إلى رحاب ربه بهذه السرعة؟.

هل يمكن أن يكون الموت قريباً منّا ونحن لا نشعر به؟.

لا.. لا يمكن أن يحدث ذلك.. الموت حق.. ولكن لماذا لا يتوقعه الإنسان، ولماذا يستبعده، ولماذا لا يفكر فيه على الدوام ؟!!

وتذكرت الشيخ وهو يقول في مجالسه:

زوروا المقابر لكي تعتبروا.. وزوروا دور العجزة والمعوقين لكي تحمدوا ربكم وتشكروه.

الرحيــل:

ونام الشيخ بهدوء تلك الليلة، واطمأن الجميع إلى أن الفجر قريب، وطلع الفجر مبشراً، ومضى النصف الأول من النهار وكانت الملامح مطمئنة، سيعود الشيخ إلى بيته، وخرجت من المستشفى وأنا مطمئن، ولما عدت قبل المغرب سمعت من مأذنة جامع الفرقان المطلة على المدينة أول نداء حزين ينعي الشيخ…

دخلت المستشفى.. كان الصمت هو الكلام المعبِّر.. كانت الرؤوس مطرقة والعيون دامعة.. كانت الساعة الخامسة من مساء يوم السادس من شهر شعبان من سنة 1393 هـ.

وحمل النعش في سيارة مكشوفة.. جلست إلى جانب السائق، وجلس الحاج عمر ططري إلى جانب النعش الأخضر.. ودخلت دار الشيخ وكانت مكتظة بالنساء.. ووقف والدي ابن الشيخ الأكبر أحمد على باب الدار يستفسر، ولا يعلم ولما سألني احتضنته وأجشهت بالبكاء..

ولما رأت النساء خلف النوافذ ذلك ارتفع صوتهن بالبكاء والعويل، وعاد الشيخ إلى داره محمولاً على الأكتاف.

وارتفع صوت الشيخ أديب حسُّون من مأذنة الكلتاويّة ينعي الشيخ، وخلال دقائق امتلأت رحاب الكتاويّة بكل الطرق الموصلة إليها بمئات الإخوان الذين قضوا الليل كله في الكتاويّة، وهم لا يصدِّقون..

ما أروع القرآن وهو يذكِّر المؤمنين بالموت، إنه ملاقيكم أينما كنتم، وكيفما كنتم، وحيثما كنتم، يذهب الرجال وتبقى الأعمال.

ويأتي صوت القارى من بعيد يتلو ءقوله تعالى:

 

   

 

 

رحل الشيخ إلى رحاب ربه بعد أن أدى الأمانة بصدق وإخلاص، كان يردد في مجالسه أنَّ الموت انتقال من عالم الكثافة إلى عالم اللطافة ورحلة العبد إلى ربه، وهي رحلة حب، والمؤمن يشتاق إلى لقاء ربه، ويجب أن يكون في جوار الله.

والذين يكرهون الموت إنما يخافون من ذنوبهم أن يحاسبوا بها عند الله، أما الذين استعدوا للموت بما اعدوه من زاد الأخرة فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

( الزيارات : 1٬416 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *