رحلة السيد النبهان الى الحج

رحلة الحج الثانية:

أدَّى الشيخ فريضة الحج لأول مرة في مرحلة شبابه، عندما اختار طريق العلم، ولا أعرف الكثير عن هذه المرحلة من حياة الشيخ، لأنني لم أشهدها.

وكان الشيخ يرغب في الحج للمرة الثانية، وأعرب عن هذه الرغبة، إلا أنَّ ذلك لم يتم إلا عام 1965، لم أرافقه في هذا الحج، كنت وقتها في القاهرة أتابع دراستي في قسم الدكتوراه، ولم يتسير لي أمر مرافقته، كان ذلك مما تألَّمت له فيما بعد.

في هذا العام عزم الشيخ على رحلة الحج، وما أن علم إخوانه بذلك حتى سارع عدد كبير منهم لاستئذان الشيخ في مرافقته، كان أمراً شاقاً من الناحية التنظيمية، ولم يكن من عادة الشيخ أن يقول «لا» في مثل هذه المواقف، هناك من هو قادر ويملك الاستطاعة البدنية والمادية، وهناك من لا يملك تلك الاستطاعة.

كان الشيخ يعرف مشقة ذلك، كانت أسرته كبيرة، والتي تضم كل إخوانه، وكلهم من المحبين، ولا يمكن إقصاء أحد مهما كانت الظروف.. وابتدأ الإعداد للرحلة.

وارتفع النداء في القلوب يردد قوله تعالى: {{ع94س22ش72ن1/س22ش72ن555ع94س22ش72ن6/س22ش72ن441} [الحج: 27].

بلغ العدد خمسمائة رجل وامرأة من إخوان الشيخ، كلهم يريد مرافقته في رحلة الحج هذه، هناك من يملك الاستطاعة وهناك من يملك نصف الاستطاعة أو ربعها، وهناك من لا يملك أي شيء، ولم يكن من عادة الشيخ أن يفكر أو يدبر، وكان يقول في مجالسه ومذاكراته بأن الله تعالى هو المدبر لشؤون مملكته، وكما أن العبد قد سلّم لله أمر تدبير ما خلقه في الأرض والسماء من شؤون الكون فيجب التسليم له في شؤون الخلق، والله تعالى هو قيوم الأرض والسماء والذين خرجوا عن التدبير وسلموا أمرهم لله، تولاهم الله بالحفظ والتمكين، والإنسان مطالب بألاّ يشغل قلبه بشؤون التدبير فيما تولى أمره من شؤون خلقه، وعندما يكون العبد في ضيافة الرحمن فالله يتولى تدبير الأمور.

ولما سألته يوماً عن إسقاط التدبير مع الله تعالى التي كان يكررها في مجالسه وأن الأخذ بالأسباب أمر شرعي لابدَّ منه، ابتسم وأجاب وقال لي:

يا ولدي: «التدبير من أمر الله ومن شؤونه التي اختصَّ بها، ولا يملك العبد القدرة على إسقاط تدبيره إلا بعد المجاهدات، فمن لم يصل إلى درجة اليقين به وهي درجة قلبية فلا يجوز له إسقاط تدبيره، لأنَّ قلبه مرتبط بالأسباب».

كنت أتذكر هذه الكلمة في مواقف كثيرة من حياتي، وإسقاط التدبير هو ثمرة الإيمان بالله والتوكل عليه، فمن أقامه الله في الأسباب وجعل قلبه منوطاً بتلك الأسباب، فمن الخطأ ألا يعمل عقله في الأسباب وألاّ يُعد لها الإعداد الكامل، فإذا لم يفعل فسرعان ما يندم ويضعف يقينه.

انطلقت رحلة الحج هذه من حلب بالحافلات مارة بدمشق وعمّان إلى أن وصلت إلى ميناء العقبة، وهناك استقلت القافلة الباخرة إلى جدة، كان الشيخ خلال هذه الرحلة يطوف بالقافلة، ويشرف على شؤونها ويساعد العاجز والمريض والمسن، وكلّف الشيخ علاء الدين علايا بأن يشرف على شؤون النساء، وكان من العلماء المشهود بالتقى والورع والاستقامة وكلف الطفل الصغير محمد الرشواني أن يدخل إلى أماكن النساء لنقل رغباتهم، وإبلاغها إلى المشرفين على شؤون الرحلة.

كان كل واحد من إخوانه يقوم بمهمة خاصة، يخدم بها إخوانه، فريق كلفه الشيخ بالإشراف وفريق لنقل الأمتعة وفريق للعناية الصحية وآخر فريق لقيادة القافلة وتوجيه سيرها، ومنهم فريق تفرغ للتوعية والتعليم من الرجاء والنساء، وكان الشيخ يشرف على كل صغيرة وكبيرة، يرعى الجميع ويساعد الجميع ويخدم كل إخوانه في الليل والنهار، في السفر والإقامة.

وكان الكل يشعر أنه محمول، والكل يشعر أنه خادم ومخدوم، وأكبر الرجال مقاماً يخدم أخاه ولو كان أقل منه مكانة في نظر المجتمع، والسيد هو الذي يخدم الآخرين ويحمل أعباءهم.

استُقبِلت القافلة في جده بالترحيب والتقدير، ودعا المسؤولون في المملكة العربية السعودية الشيخ أن يكون في ضيافة الملك فيصل الرجل التقي الصالح، شكرهم الشيخ وأبلغهم أنه منذ خرج من موطنه اعتبر نفسه في ضيافة الله، ولا يمكنه أن يقبل أي ضيافة أخرى، وأنه يريد أن يكون في هذا الرحلة عبداً لله تعالى وأن يشعر بهذه العبديّة في جميع المناسك. وقال كلمة: «ما كان للعالم الحق أن يقف على باب أحد ولو كان أميراً».

بقي الشيخ مع إخوانه لم يفارقهم ولم يبتعد عنهم، هم أسرته، ولا يمكن لرب أسرة أن يغادر أسرته ويجد لذته في مكان آخر، إلا إذا ضاق بهم أو ضاقوا به فازعجوه وأرغموه على مغادرتهم.

وأخذ الشيخ يعلّم أصحابه آداب الحج وأهمها:

1  أن يستشعروا عظمة الله تعالى في هذا المكان العظيم وهيبته، وأن يتذكروا أنهم غادروا بلدهم تلبية لنداء الله تعالى وإجابة له وطاعة لأمره، وأن يروا الله تعالى في كل خطوة من خطواتهم، وأن يستحضروا هيبته في قلوبهم، وأن يرددوا بقلوبهم قبل ألسنتهم «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك»…

2  أن يبتعدوا عن الرفث والفسوق والجدال في سلوكهم الظاهر، وفي خواطر قلوبهم، وألا يقوموا بأي عمل يورث الأحقاد والضغائن في النفس، وأن يلتزموا بحسن الخلق في كل ما يصدر عنهم.

3  أن يجرِّدوا قلوبهم من كل المشاغل الدنيوية، وما تطمع فيه النفوس من الملذَات والشهوات، وأن ينصرف اهتمامهم إلى تعظيم الله عن طريق أداء الشعائر والمناسك بتمامها وكمالها.

4  أن يُقبلوا على الله تعالى باستشعار تحققهم بصفة العبديَة وما تتطلبه من شعور الافتقار إلى الله والابتعاد عن مظاهر الزينة والتفاخر والتكاثر، وأن يمد القوي يده لمساعدة الضعيف والغني لمساعدة الفقير والكبير لمساعدة الصغير.

5  أن يرفعوا أيديهم إلى الله تعالى بالدعاء الصادق والاستغفار مع استشعار الخشية من الله والرجاء فيه، إظهاراً للعبودية والقيام بحق الربوبية.

كان الشيخ يخرج للطواف، يرافقه إخوانه، يؤدون مناسك الحج بالتزام كل الآداب، وأهمها الأدب مع الله تعالى وأداء العبادات بكل شروطها الشرعية، حتى اشتهر أمرهم في مكة، وأخذ الحجاج يتساءلون عن هذه الطائفة التي أقبلت على الله بكل الصدق والإخلاص.

وأخذت الشخصيات المختلفة تزور الشيخ في مقر إقامته، وتسمع كلامه، وهو يتحدث عن آداب الحج وأدب العبادة.

وعندما كان يخلو مجلسه من الناس ليلاً كان يصلي ويتضرع إلى الله، ويستغفره ويبكي كما اعتاد أن يفعل في صلاة تهجده، ولم أره يبكي إلا في الصلاة وفي لحظات الاستغفار والدعاء.

وكان لسان حاله في الليل يردد أبياتاً سمعها كل من كان يحضر مجالسه، وحفظتها منه منذ طفولتي:

وليتك تحلو والحياة مريرةوليتك ترضى والأنام خِضابوليت الذي بيني وبينك عامروبيني وبين العالمين خرابإن صح منك الود فالكل هيِّنوكل الذي فوق التراب ترابكان يقول لإخوانه، لكل عبادة ثمرة، والحج عبادة، ولابد من العودة بثمرة الحج، فالحاج يجب ألا يصرف همه إلى رؤية الآثار الظاهرة، وإنما يجب عليه أن يرى ببصيرته عظمة ما يعنيه الحج، وما تثيره في النفس، مناسكه في الإحرام والطواف والسعي والوقوف بعرفة من مشاعر وأحاسيس وعواطف تنعكس على السلوك، فهو يقف بخشوع وآداب أمام بيت الله الحرام، وعليه أن يرى الخصوصية، ولا يمكن رؤية الخصوصية بالبصر وإنما بالبصيرة واستحضار الهيبة من الله تعالى.

وأهم ما ينبغي استشعاره أن يأتي إلى الحج لا بزاد من المؤونة والغذاء، وإنما بمؤونة من العواطف والأشواق، ولا يشعر العبد بالشوق إلا بعد التحقق بخصوصية الفهم عن الله والمعرفة التي يولدها الأدب مع الله تعالى، والأدب ثمرة المحبة، فمن أحب الله التزم بالأدب معه، ومن التزم بالأدب وصل إلى المعرفة والفهم.

وما يجب على الحاج أن يلتزم به أن يأتي ربه متجرداً عن كل ما اعتاد عليه، ويرتدي ملابس الإحرام المعبرة عن هذا التجرد والدالة على الافتقار إليه تعالى والتحقق بصفة العبديّة الخالية عن كل تطلّع داخلي إلى التفاخر بالنسب والمال والعلم والسلطة.

لم يكن الحج في نظر الشيخ رحلة من مكان إلى مكان، ومجرد قيام بعبادة كبقية العبادات البدنية، وإنما هو رحلة إلى الله، وهذه الرحلة لابدَّ من إعداد العدة لها، وأهمها التوبة عن كل ما اقترفته النفس من ذنوب، ومن تقصير بحق من حقوق الله، والتوبة ليست كلمة، وإنما هي شعور قلبي بالندم على كل ذنب من الذنوب التي ترتكب في أوقات الغفلة، والغفلة عن الله هي الذنب الأكبر فمن غفل عن الله ارتكب الذنوب والآثام ولم يشعر بندم وأسف، وهذا دليل على موت القلب، فالقلوب الحية تتألم لما يخالف فطرتها وما يعكر صفاءها، فإذا ماتت القلوب قست شرايينها، ولم تعد تضخ الدماء النقية المشبعة بأسباب الحياة.

واستقبل الشيخ في مقره كبار علماء مكة ووجهائها، وكبار الشخصيات الإسلامية التي حجت في ذلك العام، كان الشيخ يخصهم بالتكريم، ويرد لهم الزيارة في منازلهم ومن أبرز هؤلاء الشيخ عباس علوي المالكي والشيخ محمد العربي التباني والشيخ أمين الكتبي وغيرهم، من أعلام مكة، وكان إخوان الشيخ يحيطون به ويرحبون بضيوفه ويستقبلونهم أحسن استقبال.

ولمَّا وصل الشيخ وصحبه إلى المدينة المنورة تلا قوله تعالى: {{ع94س71ش08ن1/س71ش08ن441} [الإسراء: 80].

وأمر أصحابه بأن يلتزموا بالأدب في مدينة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وأن يكثروا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يدخلوا المسجد النبوي للزيارة بأدب ونظام، وألا يزاحموا أحداً وألا يتدافعوا، وأن يأخذوا بأدب الزيارة كما ورد بها الشرع الحنيف، ومنعهم من تقبيل يده، وإظهار أي مظهر من مظاهر المشيخة، احتراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولما دخل الشيخ إلى المسجد النبوي فرّغ الحرس هناك الروضة الشريفة له، وقف أمام الدوحة النبوية الشريفة بأدب واحترام وقد انتاب الجميع شعور من الخشوع والتأثر، وأخذ الشيخ يردد السلام عليك يا رسول الله.. السلام عليك يا نبي الله.. وأطرق رأسه والدموع تنهمر من عينيه.

حالة من البكاء والتأثر لم يشهدها المسجد النبوي من قبل، وأهم ما فيها التزام الأدب مع رسول الله، ومن أبرز ثمرات ذلك الأدب هو حالة السكون والطمأنينة التي تحل بالقلوب، فتشعرها بالسعادة والسرور، وترى إشراقات النور تنبثق في أعماق النفس فتحلق تلك النفوس في قضاء الكون في رحلة عظيمة من الأكوان إلى المكون، ومن عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن البصر إلى البصيرة ومن عالم الكثافة إلى عالم اللطافة، حيث تتوالى التجليات وتشرق في القلوب معرفة ونوراً.

أمضى الشيخ قرابة شهرين في كل من مكة والمدينة، وعاد بعد ذلك إلى حلب، خرجت المدينة لاستقباله على مشارف المدينة قرب منطقة «أورم» حيث كانت مواكب المستقبلين تملأ الطرق المؤدية للمدينة، ومعظم سكان حلب خرجوا لاستقبال الشيخ، علماء المدينة وتجارها وعمالها ورجال الفكر والثقافة، إذ كانت مسيرات الاستقبال تحمل الأعلام والرايات، ويتقدمها شباب المدينة، كل حي من أحياء المدينة شارك في هذا الاستقبال الكبير، وتوقف موكب الشيخ عند باب المدينة في المزرعة التي اعتاد الشيخ أن يقضي أمسياته فيها، وكانت في ملكية فوزي شمسي أحد إخوان الشيخ المقربين وشهدت هذه المزرعة أهم مجالسه وأروع مذاكراته.

صلّى الشيخ صلاة المغرب والعشاء، وتفقد إخوانه الرجال الذين رافقوه، وأوصاهم بالعناية بالنساء، وامتطى سيارة أحد إخوانه ودخل المدينة برفقة سائقه فقط، وذهب إلى الكلتاويّة وكانت خاوية ليس فيها أحد، صلى ركعتين تحية للمسجد وشكر الله تعالى على نعمه، وأخذ المستقبلون يبحثون عن الشيخ فلا يجدونه، كانوا يريدون أن يدخل مدينة حلب بكل مظاهر الاستقبال المعتادة في استقبال عظماء الرجال، وأراد هو أن يدخلها بكل ما تتطلبه صفة العبودية لله تعالى من إظهار الافتقار إليه والذل بين يديه وكان يردد الحكمة العطائية:

«استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصيتك دليل على عدم صدقك في عبوديتك».

وسألته فيما بعد عن سر ما فعل فقال:

«يا ولدي.. هذا مقام الشكر لله تعالى، ومن تجليات الشكر أن تتحقق بصفة العبديّة لله تعالى في هذه المواطن، وأن تفرد الله في ملكه لكي يلبسك ثوب هيبته، ويقبل منك ما قمت به من طاعته.

( الزيارات : 1٬633 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *