رحلة السيد النبهان الى العراق

الرحلة إلى العراق:

سافر الشيخ إلى العراق مرتين، كانت الرحلة الأولى عام 1381 هجرية والثانية عام 1969 م ولم أرافقه في أي منهما، سمعت وصف هاتين الرحلتين من الشيخ نفسه ومن بعض إخوانه من العراق.

بدأت علاقة الشيخ بالعراق منذ عام 1950، كان يحضر مجلسه أحد التجار العراقيين من الكبيسة، وهو الحاج محمود مهاوش الكبيسي، عرف الشيخ ولازم مجالسه، ولم يفارقه لمدة تزيد عن عشر سنوات، كان من إخوانه المحبين الصادقين، كان له محل تجاري في خان النحَاسين بحلب، ويشتغل في تجارة الأقمشة بين سوريا والعراق، وكان من طلاب العلم الذي أخذوا علمهم عن كبار علماء العراق، ويرتدي ملابس العلماء، وكان يرافق الشيخ في كل يوم بعد صلاة العصر إلى المزرعة أو يحضر مجالسه المسائية، ويسكن في حي العقبة ثم انتقل إلى حي سيف الدولة، وانفرد بأنه كان يسجل أحاديث الشيخ وأقواله في دفتر معه لم أطلع عليه، كنت أراه يكتب في دفتره كل ما يسمعه من الشيخ وأحياناً يسأل والشيخ يجيب، ثم انضم إلى مجلس الشيخ الحاج جاسم الفيّاض من الأسر العريقة بمدينة الفلُّوجة، وكان تاجراً، ولازم مجالس الشيخ، ولم يغادر حلب إلا بعد وفاة الشيخ.

أخذ الحاج محمود مهاوش يحدِّث إخوانه وأصدقائه في العراق عن الشيخ، وينقل لهم بعضاً من أقواله وأحواله وكيفية تربيته لإخوانه ويدعوهم لزيارة الشيخ في حلب، بدأت الأفواج الأولى من الأخوة العراقيين تزور الشيخ وتسمع أحاديثه، وتعود إلى العراق وتحدث بما سمعت، وهكذا بدأت صلة الشيخ بالعراق، وأصبح العشرات من علماء العراق يزورونه في كل عام، من أبرزهم الشيخ قاسم القيسي مفتي العراق والشيخ أمجد الزهاوي علامة العراق والشيخ الداعية محمود الصواف والحاج محمد الفيّاض والعلامة الشيخ عبد العزيز السامرائي (مدير المدرسة الآصفية بالفلوجة) والشيخ عبد العزيز البدري وعشرات غيرهم..

واشتهرت أسرة الفيَّاض بحبها للشيخ، ومن أبرز أفرادها الحاج محمد الفياض والحاج إبراهيم والشيخ خليل والحاج يحيى الفياض الذي كان في مقتبل العمر واشتهر بصدق إرادته والشيخ أيوب الذي استشهد في طريقه لبغداد بعد أن حضر انتقال الشيخ إلى الملأ الأعلى، ثم توالت وفود العراق على حلب ومن أبرزهم الشيخ هشام عبدالكريم الألوسي الشاعر المحب الذي ألف كتاباً سجَّل فيه حياة الشيخ وأقواله والتقى بأهم إخوانه ونقل ما سمعه منهم وما رووه له من حياته وفكره.

وصف الشيخ هشام الألوسي في كتابه عن الشيخ نبذة مختصرة عن رحلتي الشيخ إلى العراق، وكان حاضراً كل اللقاءات وشاهداً كل المجالس، وأصبح إخوان الشيخ في العراق أكثر من إخوانه في حلب، وأنشئت مدارس في العراق، ونظمت مجالس، واحتفظ إخوان الشيخ بأفضل أشرطة التسجيل لأحاديث الشيخ ومذاكراته.

بدأت دعوة الشيخ بالعراق بالحاج محمود مهاوش الكبيسي ثم تبعه الحاج جاسم الفيَاض، ثم توسعت بعد ذلك وبخاصة في مدينة الفلوجة التي تضم معظم إخوان الشيخ، واشتهر إخوان الشيخ بالعراق بالصدق والتزام آداب السلوك والمحبة والإخلاص.

الزيـارة الأولى:

ورحَّب أهل العراق بقدوم الشيخ، واحتفلوا بذلك وفرحوا، واستقبله علماء العراق أجمل استقبال، في كل مدينة، وزار كلاً من بغداد والفلوجة والرمادي والموصل وسامراء والنجف وكربلاء وهيت وكركوك والكبيسة، وما زالوا حتى اليوم يذكرون ـالسه وأحاديثه والأماكن التي زارها بكل اعتزاز، وتسابقت المدن العراقية للاحتفال به والتعبير عن فرحتها وبهجتها بقدومه.

أحبَّ الشيخ العراق وأهل العراق، وكان إخوان الشيخ يحيطون به بكل المحبة والرعاية، أحبهم لما وجد فيهم من صدق وإخلاص وتعلق بآداب الشريعة، وأقبلوا عليه وعلى مجالسه بكليتهم.

استمرت زيارته الأولى مدة خمسة وعشرين يوماً، قضاها الشيخ بين إخوانه، وجدوا فيه المرشد الصادق الذي يدعوهم إلى الله تعالى ويحضهم على تزكية نفوسهم من الآثام وطهارة قلوبهم من الخواطر المذمومة، والإقبال على الله بصدق النية والمحبة الناتجة عن المعرفة بالله، فمن شعر بالقرب من الله بفضل القيام بحقوق الله عليه تولدت لديه محبة الله، ومن أحب الله وصل إلى درجة الفناء فيه، بحيث لا يشعر العبد بوجوده، ويتجه بكليته إلى ربه، ويلتزم بما أمره به ونهاه عنه.

لم يتحدث الشيخ في مجالسه العراقية عن شطحات الصوفية وانزلاقاتها في التجليات والأحوال التي تعتري القلوب، والتي تؤدي في الغالب إلى انحرافات في الأقوال والسلوكيات وادعاءات ضارة تشوِّش القلوب وتبعدها عن المعرفة، ولم يجدوا في أقواله سوى الدعوة إلى الالتزام بأحكام الشريعة وآدابها.

وهذا هو منهج الشيخ وهذا هو تصوّفه، فهو تصوّف يهدف إلى تزكية النفوس لا إلى سلوكيات الغرور، ويدعو إلى تصحيح العقيدة بالتزام ضوابطها لا إلى تشويه العقيدة بادعاءات باطلة ومواجيد متكلَّفة.

أدرك العراقيون أنَّ صوفية الشيخ ليست صوفية الطقوس الطرقية والتقاليد الشكلية، والمعتقدات الخفية التي تشوِّه صفاء السلوك وتسيء للفكر الصوفي، وتهبط بمستوى ترتبيته إلى درجة مراعاة الخلق والتمُّلق إليهم ونسيان الخالق وما يجب له من حقوق الإخلاص له.

لم يكن لمنهجية الشيخ أوراد محفوظة تردد في أوقات معلومة، ولم يطلب من إخوانه يوماً أن يقوموا بأي ورد خاص به، فالورد الذي يأمر به هو ورد الاستغفار الذي يؤدِّيه العبد عندما يريد أن يقاوم غفلته بذكر الله والتزام إتباع رسوله وحفظ سمعه وبصره مما يعكِّر صفاء النفس والقلب.

وليس في تريبته أسرار يدعيها أهل الأحوال في مواجيدهم، فينطقون بما هو مستهجن من العبارات، وبما هو منحرف من الأفكار ولا يلتزمون بحسن الأدب مع الله في عباداتهم ومعاملاتهم.

ولم يكن الزهد الذي يدعو إليه الشيخ هو زهد الظاهر بالتخلِّي عن الأموال والكسل عن العمل والاعتماد على الغير، وإنما هو زهد القلب بعدم التعلق بالدنيا، وإخراج حبها من القلب لكي يظل القلب صافياً لا تشغله دنيا ولا تدركه همومها، ولا يعكِّر نقاءه ذلك الطمع المذلُّ لصاحبه.

وجد العراقيون شيخاً يعرف أمور الدنيا أكثر مما يعرفون، يرفع هامته إلى السماء اعتزازاً بعلمه ويحني رأسه استشعاراً بعبديته لله تعالى وطاعة له وافتقاراً إليه، يتكبر على المتكبرين من رموز القوة والطغيان والزعامة والسلطان ويتواضع بعفوية ومن غير تكلّف للمستضعفين في الأرض الذي خلقهم الله أعزَّة أحراراً.

ما أروع العلماء وهم يجسدون قيم السلوك الإنساني في حياتهم اليومية، يقولون كلمة الحق في المجالس العامة، ويزهدون فيما يطمع فيه الطامعون، يتحالفون مع الضعفاء ضد الأقوياء، ويناصرون الشعوب في دفاعها عن حقوقها الإنسانية، ويمسحون الدموع عن وجوه البائسين.

هذا ما وجده أهل العراق في شيخهم القادم من حلب، فازداد تعلّقهم بشخصه وحبهم له، والنفوس البشرية إذا عرفت أحبت، وإذا أحبت اشتاقت، وإذا اشتاقت رحلت إلى حيث ما تحب.

عاد الشيخ إلى حلب.. وابتدأت مواكب المحبين والمشتاقين ترحل إلى حلب، إلى الكلتاويّة، حيث مقر الشيخ، يمكثون أياماً ويعودون، والشيخ فرح بهم.. إنهم أبناؤه من العراق.. أحبهم كما أحبوه..

الرحلة الثانية:

عاد الشيخ إلى العراق في رحلتيه الثانية وأظنها في أواخر عام 1968 وذكر الشيخ هشام الألوسي العراقي في كتابه عن «السيد النبهان»، أنها في العاشر من شهر تشرين الثاني عام 1969، ووصف هذه الرحلة في كتابه بقوله: «في العاشر من تشرين الثاني سنة 1969، وفي الوقت الذي كانت الطائرة تجوب سماء العاصمة العراقية كان المطار قد غصَّ بجموع المستقبلين من أنحاء البلاد لاسيما العلماء وطلبتهم الذين أضفوا على المطار بهاءً من العمائم البيض، وكان يوماً مشهوداً أنشد فيه الناس «طلع البدر علينا»، وحملوا الشيخ قدَّس الله سره من الزحمة إلى قاعة المطار فيما أعدَّ العراقيون موكباً وإذاعة ليسيروا به في شوارع بغداد قبل أن يصل رضي الله عنه المكان المهيأ للضيافة، إلا أنَّ الرجل الذي تأبى عبديته «الطنطنات» رفض أن يشيع بموكب، فعمد إلى سيارة متعبة شكلاً وحالاً فنحا بها جهة ضيّعها على مستقبليه، بينما تفرق الموكب، وبقيت سيارة إذاعة تعلن في المدينة هنيئاً لكم يا أهل بغداد لقد قدم اليوم إلى العراق العارف بالله الشيخ محمَّد بن أحمد النبهان.

لقد نزل في بيت من بيوت الله تعالى حتى إذا تفرَّق الجمع عاد إلى البيت الذي دعي إليه»(%1).

ووصف الشيخ هشام الألوسي الذي كان يرافق الشيخ في مجالسه وتنقلاته في الأيام السبعة التي قضاها الشيخ في العاصمة العراقية، وما تضمنَّته تلك الزيارة من احتفالات تكريمية كبيرة في كلية الشريعة وجمعية التربية الإسلامية وغيرها ألقيت فيها الخطب والأشعار التي ترحب به كما وصف زيارة الشيخ لمقام سيدنا عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه وما أحدثته تلك الزيارة في نفوس الناس من فرح وهيام حتى كادوا أن يفقدوا عقولهم، وحملوا الشيخ على الأعناق وهم يهتفمون ويصرخون، وكانت ساعة عظيمة من الأذكار والصلوات(%1).

وختم الشيخ هشام الألوسي وصفه للزيارة لقوله:

وكما احتفلت بغداد فقد عاشت المدن التي مر بها ربيعاً محمَّديَّاً، وقضى أهلها أعياداً فريدة في الفلوجة والرمادي وهيت وكبيسه والخالدية وديالي بما لا يسعه قلم واصف، وهكذا كلما دخل مدينة أو خرج زف إياباً وذهاباً من المساجد والبيوت والشوارع، فالخطب والأشعار مرافقة لحركة أقدامه، ولا وطأت أرضاً إلا وأعقبت غرساً صالحاً وخضَاراً مباركاً لا تزال آثاره باقية(%1).

كانت زيارة الشيخ الثانية إلى العراق فتحاً عظيماً ما يزال أهل العراق يذكرون تلك الأيام بفرحة واعتزاز، يذكرون كل مكان حلَ فيه وكل بيت دخله، وكل طريق سار فيها، وكل كلمة قالها وكل إشارة أَوْمَأَ بها، إنه الحب بلا حدود، إنه الإيمان الصادق، إنها الشعلة التي أوقدها الشيخ بتلك الأرض الطيبة، بلاد الرافدين العظيمة، شعب الحضارات المتعاقبة.

أحب الشيخ العراق كما أحبته، لو اختار الهجرة من أرضه لاختار العراق موطئاً لهجرته، رأى في العراق صدق الرجال والهمم العوالي ورأى فيها القيم العظيمة التي أحبها في طفولته وتمسَّك بها، وأهمها قيم الرجولة والشجاعة والمروءة والسخاء والشرف والوفاء.

ومن المؤسف أنني لم أرافقه في رحلتيه إلى العراق، كنت في الكويت حيث سافر الشيخ من العراق إلى الكويت، وقضى يومين فيها، واستقبله السيد يوسف هاشم الرفاعي الرجل الصالح، وكان وزيراً يومها، وأعدَّت له الحكومة الكويتية ضيافة كريمة له ولمرافقيه في إحدى دور الضيافة، ولم يكن من عادته أن ينزل في ضيافة الحكومات وأقام في منزلي، وأقام مرافقوه في دار الضيافة.

كان يرافقه في زيارته القصيرة إلى الكويت الأمير ناظم العاص زعيم قبائل العبيد في شمال العراق، وكان من إخوان الشيخ ومحبيه وملازمي مجالسه، وكانت سمة الإمارة واضحة في شخصيته وملامحه، عرف الشيخ وأحبه ولازمه، كما كان يرافقه عدد من إخوانه من حلب والعراق.

سعدت بزيارة الشيخ إلى الكويت، أحسستُ بالفرحة والبهجة، حدثني عن سروره بلقاء إخوانه في العراق، لم يسعده ذلك الاستقبال الحافل، وإنما أسعده ما لاحظه من صدق أصحابه ومريديه، وأهل العراق ليسوا أهل شقاق ونفاق وإنما هم أهل صدق ووفاء، إذا أحبوا صدقوا، وإذا عاهدوا وفّوا، هم كنهرهم الخالد دجلة يعجبهم شموخ السجايا، ويتدفق الخير في طباعهم كما تتدفق المياه في نهرهم العظيم، لا يحبون النفاق، يتمردون على الباطل دفاعاً عن الحق، وهم أوفياء لعظمة تاريخهم، لا يتنازلون عن مكرمة بناها أجدادهم، شادوا في أراضيهم الخصبة مقامات الوفاء والمحبة لرموز بيت النبوَّة، وسقوا سراج العلم والمعرفة في كل مكان.

لم يسعد الشيخ بزيارة سابقة أو لاحقة كما سعد بزيارة العراق، كان يحدثني عن إخوان العراق بسعادة وفرحة، إذ بقيت بلاد الرافدين رمزاً للوفاء، وزرت العراق بعد عشرين عاماً من زيارة الشيخ الأخيرة لحضور مؤتمر السلام في بغداد، ورأيت الأرض الخصبة ما زالت رطبة وكأنها سقيت بالأمس، ورأيت الشيخ في كل قلب وفي كل دار وعلى كل لسان.

لم يغب الشيخ عن العراق، ما زال فيها بروحه، ملامحه ما زالت هناك، آثاره باقية، مجالسه مستمرة، الشيخ الحقيقي يستمر من خلال روحه وتوجيهاته في القلوب يوقد السراج ويضيء نوره بزيت محبة العبد لربه.

رحل الأوائل من إخوان الشيخ في العراق الحاج محمد الفياض ومحمود مهاوش الكبسي وجاسم الفيّاض وعبد العزيز البدري والشهيد أيوب الفيّاض الشاب التي استشهد في طريقه إلى الشيخ عندما بلغه خبر وفاته، مات بعد أن ودَع الشيخ على أبواب حلب في حادثة سير، قال لي وهو يودعني قبل وفاته بدقائق: أريد أن أظل إلى جانب الشيخ في عالم النور وعالم اللطافة، حيث لا موت ولا حياة، ولا حجاب يحجب الأحياء عن الأموات.

وما زالت أنظار إخوان العراق مصوّبة، إلى حلب الشهباء، تشتاق بقلوب صادقة وتعانق النسمات القادمة من الغرب، وتحملها، أجمل مشاعرها وعواطفها.

وتذكَّرت ذلك الشاب الصادق الذي لم يتجاوز سنة السادسة عشرة من عمره الذي زار الشيخ قبل خمسين عاماً، وأحبه وتعلّق به، واشتهر بصدقه بين إخوان الشيخ الذين كانوا في سن والده، وأبعدوه عن المجالس، فكانوا يجدونه في كل مكان يذهبون إليه، كان هذا الشاب هو يحيى بن حمد الفيّاض المحب الأول، الذي أحبه إخوانه في العراق، ثم بدأت الباقة الخضراء تنمو وتكبر، وضمَّت الشيخ عايش الجروان والشيخ هشام الألوسي والشيخ حامد السخي والشيخ صلاح الفياض وعشرات غيرهم.

)

( الزيارات : 1٬315 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *