الاهتمام بالفكر الصوفى

الإهتمام بالفكر الصوفي

قادتني هذه المقارنة في مفهوم الكمال الإنساني لدى كل من الغزالي وإبن مسكويه إلى الإهتمام بالفكر الصوفي الذي يبحث عن المعرفة الإلهية، ولم أكن بعيداًعن الحياة الصوفية، وتربيت منذ الطفولة على يدى المربي الكبير سيدي محمد النبهان طيب الله ثراه، وكان مجدداً في الفكر الصوفي وهوصاحب منهج متميز ورؤية صوفية سامية وبعيدة عن الصوفية الطقوسية والسطحية , ولولا رؤيتي لذلك المنهج التربوي النقي لما دافعت عن الصوفية , وسوف تهتم الأجيال المقبلة بطريقة الإمام النبهان كمنهج صوفي يأخذ بحقيقة التصوف ويهتم بتصحيح المفاهيم الصوفية ويركز على أهمية القيم الصوفية الأصيلة , وقد كتبت كتاباً عن حياة الشيخ محمد النبهان وشرحت آثاره وبينت أفكاره ,وهناك  عدد كبير من تلامذته من العلماء في حلب والعراق يأخذون بمنهجه في التربية والسلوك,  وقد قام الشيخ هشام الآلوسي من العراق بإعداد كتاب في مجلدين بعنوان (( السيد النبهان ))..

وقد استيقظت في نفسي ذكريات الطفولة وتذكرت مجالس جدي الشيخ النبهان وأقواله , وشغلني العلم عن هذا التوجه في مرحلة الشباب , ولم أجد فيما كتبته ما كنت أبحث عنه من سعادة وطمأنينة وكتبت في معظم العلوم الإسلامية: الدراسات القرآنية والاقتصاد الإسلامي ونظام الحكم وتاريخ الفقه والعقوبات ونظام الأسرة ولكنني لم أشعر في داخلي بتأثير ذلك على قلبي وسلوكي..

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1)  هو جدي وهوسيدي وشيخي وكان له الفضل في تربيتي الروحية وأشرف على تعليمي وتكويني وما زالت آثاره مستمرة وتوفي عام 1974 ودفن في الكلتاوية بمدينة حلب …

2)  طبع الكتاب في حلب ونشرته دار التراث العربي.

 

 

وكنت أشعر بجفاف العاطفة الوحدانية  والعلم هو إذا لم تغلبه بسيطرتك عليه غلبك وحجبك عن الحقيقة , و لن تبلغ الكمال الإنساني بالعلم وحده,  و لن يقودك العلم الظاهر إلى المعرفة الإلهية التي هي مصدر السعادة للإنسان , وهي التي تنير القلوب وتسمو بالنفوس إلى المراتب العليا , و يرى الإنسان الدنيا من علٍ فلا يشغله بريقها و لا يستجيب لدعائها , و هذا ما اكتشفته بعد أكثر من ثلاثين عاماً وأنا أخوض بحار العلوم و أبحث عن مفقود في نفسي لا أعرفه ,وكنت أظنه فى العلم الذي اتجهت إليه , و تنقلت في ساحات العلم المختلفة  ابحث عن مفقودى وبدأت رحلتى بعلوم الشريعة ثم العلوم الاجتماعية و الدراسات التربوية , و كتبت كتابي الأخير عن التصوف الإسلامي كما هو في نظر رواده الأوائل قبل أن يصبح طقوساً و تمثله طرق مختلفة متنافسة متحاسدة تبحث عن الدنيا وتنشغل بها ويقودها من لا يحسن فهم مسالكها , وقد أساء هذا الواقع  إلى صورة التصوف الإسلامي ولو التزمت الطرق الصوفية بما التزم به الشيوخ الأوائل البناة من التزام بالشريعة واستقامة في السلوك وإخلاص في العبادة وزهد و ورع وتقى لما تجرأ أحد على مخاصمة الصوفية فما ينتقدون من السلبيات ..

لم آت بجديد فيما كتبته عن مبادئ الفكر الصوفي،  لأنني كنت أريد أن أكتب عن التصوف كما هو وليس كما أريد له أن يكون ،  ولو انتقلت مشيخة  الطرق الصوفية إلى الصادقين من أتباع هذه الطرق لما انحرفت هذه الطرق عن مسارها الشرعي ومنهجها الروحي، ولما انتشرت فيها قيم خاطئة لا تقرها الشريعة وسلوكيات غير مفيدة … والشريعة هي المعيار، ولا يمكن أن يقبل أي انحراف عن منهج الشريعة وأسهمت القيم الخاطئة في تشويه القيم الإسلامية الأصيلة، فالتصوف هو منهج تربوي للارتقاء بالنفس الإنسانية نحو الكمال،  والإخلاص في العبادة والتحرر من قيم العبودية, والتكافل الاجتماعي وتنمية العواطف الإنسانية ,والالتزام بالأدب ,واحترام الآخر حيث كان , وطهارة النفوس من الآثام والقلوب من الخواطر المذمومة , والالتزام بالفضائل الإنسانية وعدم الانشغال بالدنيا والمال والجاه والمناصب،  والتحرز من الغرائز المذمومة والسيطرة على النفوس والتحكم بالشهوات والاندفاعات النفسية للوصول إلى الكمال الإنساني الذي يتميز به الإنسان عن المخلوقات الأخرى في سعيه نحو ذلك الكمال…..   ذلك ما كنت أريد أن أصل إليه فيما كتبته, وهذا ما أوكد عليه في كل أحاديثي ، وهذا ما كنت أربي عليه تلاميذي في المغرب وما قبل المغرب وما بعد المغرب، وهي دعوة إلى صوفية بانية ناهضة صافية الملامح لا تشوبها شائبة، تكون عنوناً للاستقامة والورع والصفاء والمحبة والأدب والوفاء والرحمة…

وقلت لطلابي في آخر محاضرة لي في دار الحديث الحسنية بالمغرب لقد فشلنا في مهمتنا كمربين، وفشلت مؤسساتنا ومعاهدنا العلمية لأننا أعطيناكم العلم وجعلناكم رموزاً يعتز جيلكم بعلمكم، ولم نعطكم أخلاقية العلم ولا روحية العلم ، وقد أثمر العلم في معظم القلوب طمعاً في السلطة والجاه ونفاقاً وتملقاً للأقوياء من رموز السلطة والمال، وتسخير العلم لتبرير الطغيان والاستبداد والمظالم الاجتماعية ,والتحالف مع الأقوياء ضد الضعفاء الأغنياء ضد الفقراء والمستغلين ضد المحرومين .

وقلت لطلابي :أريد أن يكبر العلم بمواقفكم واستقامتكم ونزاهتكم وتمسككم بالقيم الإسلامية الأصلية , ولاأريد أن يصغر العلم بصغار ضعفاء النفوس من العلماء الذين أرادوا العلم مطية لتحقيق مطامع دنيوية، فأساؤوا لمكانة العلم والعلماء ,وأصبح العلماء اليوم في ركاب الحكام وفي قصور الأمراء وذوي النفوذ والسلطة، وضعفت مكانة العلماء في مجتمعهم، ولم يعودوا رموز الاستقامة والورع والعفة والنزاهة ، وقلما تصدر من أحدهم كلمة حق يصفق لها المستضعفون بصدق وحماس.. ..

 

 

( الزيارات : 1٬080 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *