الزهد والاعراض

الزهـد والإعراض:

ويفرق الشيخ بين الزهد والإعراض، فالزهد أن تزهد فيما تملك، وتشعر بزهدك، لأنك تركت ما تطمع فيه النفس، فأنت تشاهد زهدك، وقد تنشغل به، وقد يكون دافعك إلى الزهد هو الخوف من النار أو الطمع في الجنة أو الثواب، أما الإعراض، فأنت لا ترى المزهود فيه لانشغالك بالمرغوب فيه، والعبد يعرض عن الدنيا، لأنها لا شيء في نظره وما يعرض عنه العبد هو الشيء الذي لا يستحق أن يهتم به، ففي الأعراض لا شيء يزهد فيه لإنعدام الرغبة فيه، والتدافع بين المزهود فيه والمرغوب فيه.

ولا يكون الزهد حقيقياً إلا عندما يقع استغراق القلب في المرغوب فيه، بحيث ينعدم المزهود فيه، وكأنه لا شيء يستحق الزهد فيه فإن زهد العبد وقلبه متعلق بالمزهود فيه فهذا ليس من الزهد في شيء لأن الالتفات إلى الدنيا قائم، وهذا الالتفات هو الحجاب الشاغل الذي يشغل القلب.

ولا يتنافى الزهد مع العمل والسعي والكسب، وغاية العمل ليس مجرد الكسب، وإنما القيام بما يجب لتوفير أسباب الحياة، فليس الزهد نقيض العمل، ولا يتنافى العمل مع الزهد، وفائدة الزهد أنه يحرر الإنسان من التعلق والانشغال، ولا يمنعه من العمل، فإذا تحرر التاجر من التعلق بالمال كان أقدر على التجارة يتحكم بها كما يريد، لا يفرحه الكسب ولا تحزنه الخسارة، وإذا تحرر الموظف من التعلق بالمناصب كان أقدر على القيام بواجبه، فلا يشعر بالخوف من كلمة الحق، وإذا تحرر السياسي من التعلق بالجاه والرياسة كان سيداً في أقواله وأفعاله، لا يتملق العامة في أقواله، ولا يلحق بهم، بل هم الذين يلحقون به، لأنه صادق اللهجة، ولا يحتاج إليهم، وهذا ما كان الشيخ يقرره في مفهوم الزهد، فالزهد ليس الكسل وليس الاحتياج إلى الناس، وإنما هو درجة تعنى التحرر من قيود التعلق إلى فضاء التحرر من الخوف والمطامع الدنيوية والمصالح الشخصية.

الزهد ليس نقيض التنعم، فمن زهد لا يعني أنه يعدم نفسه، ولا يشعر بلذة الطعام والشراب والملبس والمسكن، فقد يملك الكثير وهو زاهد غير متعلق بما يملك وغير ملتفت في قلبه إلى ما يملك وليس من الزهد التلذذ بالخشونة والفقر والحاجة، فهذه المظاهر قد يراد بها الرياء لاكتساب حسن السمعة عند الناس والمكانة المتميزة، وهذا هو عين التعلق بالملذات، وهذا هو التفات القلب اـذموم إـ الدنيا، لأن الاهتمام بما يقوله الناس مناف للزهد.

والزاهد الحق يزهد فيما يقوله الناس عنه، فلا يلتفت إلى مدحه إذا مدحوه، ولا يلتفت إلى ذمه إن ذموه، مكتفياً بما يعلمه الله فيه، فإن أسعده ما يقولون فيه من حسن الظن فهذا ليس من الزهد فالقلوب تتعلق بما يقوله الناس.

ومن الزهد الزهد في الناس وفيما يقولون، لأنه منشغل بما يرغب فيه عن الناس، فإذا التفت قلبه إلى الناس شغل بهم عن الحب الذي سكن قلبه.

والزهد في نظر الشيخ صفة إيجابية وليست صفة سلبية، هي تعني الحياة ولا تعني الفناء، تعني العمل ولا تعني الكسل، تعني الرقي في الاهتمامات ولا تعني إماتة الرغبات، فالزاهد قد يكون الأفضل في عمله وتجارته ومظهره وملبسه، ويجب أن يكون الأفضل على الدوام، لأنه متحرر من الخوف من الفقر ومتحرر من الشهوات ومتحرر من صفة النهم في طلب الأشياء، فهو دائم الفرحة لعدم وجود ما يدفعه للطمع والخوف…. فالدنيا موجودة في حياته وليست موجودة في كيانه، تخاف منه لتحرره منها ولا يخاف منها لزهده فيها، تلاحقه فلا تلحق به لأنه معرض عنها، تبحث عنه فلا تجده لأنه راغب في غيرها، تريد أن تأنس به وهو يأنس بغيرها مما تعلق قلبه به لا يفرح بموجودها من لذائذها ومتعها وشهواتها ولا يحزن على مفقودها، يستوي عنده مادحه وذامه، لأنه يعلم أن الله تعالى يعلم مافي قلبه، والمدح والذم سيان عنده لأنه لا يفرح بما ليس عنده ولا يحزن لما سلب منه.

( الزيارات : 1٬263 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *