مفهوم الزهد عند السيد النبهان

رأيه في الزهد:

الزهد نقيض الرغبة، يقال زاهد وراغب، والزهادة ضد الرغبة، والتزهيد في الأشياء نقيض الترغيب والشيء الزهيد هو القليل.

ويراد بالزهد انصراف الرغبة عن الشيء،  ولابد في الزهد من وجود مرغوب فيه، يراه الزاهد أولى بالاعتبار والاختيار، ولا يطلق لفظ الزهد إلا فيما يرغب فيه، فالمال مرغوب فيه والدنيا مرغوبة، ولا زهد فيما لا يرغب فيه.

وسبب العدول عن المرغوب فيه أصلاً هو وجود ما هو مرغوب فيه آخر، اسمي بالاعتبار والاختيار، والمرغوب فيه أمر محبوب وإلا لم تكن الرغبة فيه، فإن وقع الزهد فيه فهذا دليل على وجود محبوب آخر أولى بالمحبة استأثر بالاهتمام وتوجه إليه القلب.

كان الشيخ يتحدث عن الزهد ويربطه بالمحبة، فلا زهد في مرغوب فيه إلا بالتعلق بما هو أحب إليه، فإذا أحب العبد الآخرة زهد في الدنيا، لا لأنها غير محبوبة، ولكن لأن القلب أحب الآخرة أكثر، والزهد ليس مجرد التجرد عن الدنيا وترك زينتها، وإنما الزهد هو عدم التعلق بها والتعلق مصدره القلب فإذا أحب العبد الله أحب كل ما يريده الله، وزهد في كل ما يحجبه عن ربه، لأن القلب له وجهة واحدة ولا يحتمل أكثر من تعلق واحد فإذا تعلق بالله زهد فيما عداه.

الزهد درجة قلبية:

لم يكن الزهد في نظر الشيخ مرتبطاً بوجود المقتنيات المرغوبة التي تستلذها النفس أو عدم وجودها، وإنما هو مرتبط بعلاقة القلب بتلك المقتنيات، هل هي علاقة تعلق أم هي علاقة تسخير، فعلاقة التعلق علاقة إذلال وتبعية، ويصبح القلب مشغولاً بما تعلق به، فالقلوب منشغلة دائماً بما تحب، فإذا أحبت المقتنيات شغلت بها، وكانت حجاباً لها يحجبها عن أي محبوب آخر، ولا يمكن لمن أحب الدنيا أن يدعى أنه محب للآخرة، ولا يمكن لأي محب للمال والمنصب أن يدعى أنه محب لله تعالى، فالحب الأول حجاب عن أي حب أخر.

وإذا لم يوجد المرغوب فيه فمن الصعب تحقيق الزهد بالمجاهدات، لأن النفوس بطبيعتها تميل إلى المشتهيات الدنيوية لأنها لذيذة، ويستلذها الطبع ويميل إليها، وتشتاق إليها النفس، وكلما ارتقى المرغوب فيه كانت النفس أكثر تعلقاً به، فقد يكون المرغوب فيه هو الكمال الذاتي، وتميل النفس بطبيعتها إلى هذا الكمال ولذلك فإنها تتكلف تخفيف التعلق بالأشياء، تخلصاً من الصفات المذمومة التي يولدها الطمع، وهذا الزهد يختلف عن زهد العارفين، لأنه يدخل في إطار التربية النفسية وتزكية النفوس من الصفات المذمومة، وهذه خطوة أولى لطهارة القلوب للتخلص من أمراضها.

ولعل الشيخ كان يريد التفريق بين زهد المعرفة وزهد الكمال، فزهد المعرفة أسمى وأعلى، وطريقه البحث عن المرغوب فيه فإذا تعلق القلب بذلك المرغوب فيه كان الزهد أمراً حتمياً لانصراف القلب إلى المرغوب فيه، أما زهد الكمال فطريقه المجاهدة والرياضة النفسية، ومن آثار هذه الرياضة أنها تخفف التعلق بالمطموعات إلى درجة الاعتدال، ومع استمرار علاقة القلب بتلك المقتنيات، يصبح الزهد في هذه الحالة داخلاً في نطاق معالجة أمراض النفوس والقلوب بإعاداتها إلى حد الاعتدال بإخماد الطبائع الشهوانية للتمكن من التحكم فيها، لكي تكون في قبضة العقل والشرع.

قال تعالى:

{{ع94س24ش02ن1/س24ش02ن222} [الشورى: 20].

وقال أيضاً:

{{ع94س81ش7ن1/س81ش7ن111} [الكهف: 7].

ولابد من تجريد القلب عن أي محبة أو تعلق بأي شيء، فالزهد وليد الرغبة والتعلق، ولا يتحقق الزهد إلا بوجود المحبة، والمحبة تولد التعلق بالمحبوب، والزهد في كل ما يحول بين القلب وما يحب، ومحبة الله هي الأسمى، فمن زهد في الأشياء التي تحجبه عن ربه فهو محب من جهة وزاهد من جهة أخرى لوجود المرغوب فيه.

والزهد حال يعتري العبد في لحظة نورانية، يعرض فيها عن كل ما يحول يبنه وبين محبوبه الذي تعلق به، والتفاضل هنا ليس تفاضلاً عقلياً بين مرغوب فيه، ومزهود فيه، وبين الدنيا والآخرة، وإنما هو ميل القلب إلى ما يحبه، ويقع الزهد في هذه الحالة من غير مجاهدة وإعراض، فمن تكلف الزهد بالمجاهدة فهو عاجز عن ذلك، لأن القلب لا يمكن التحكم في حركته، ولهذا يدعى البعض الزهد من باب المجاهدة والتكلف، وهذا دليل على عدم وجود المقتنيات والمشتهيات، وعدم التعلق بها، فلو كان فقيراً، ولا يملك شيئاً منها وكان قلبه معلقاً بها فليس زاهداً ولا يوصف بالزهد، وقد يكون فقد المال من أسباب التعلق به ويكون المرغوب الأول فيه.

والزاهد في نظر الشيخ هو الذي لا يشغله زهده، أي ألا ينشغل بزهده عن محبوبه، فمن شغله زهده فهو محجوب، بالوسيلة عن الغاية، وهذا هو زهد العارفين المقربين، وهؤلاء لا يرون زهدهم، لانشغالهم عنه بما يرغبون فيه، والطريق إلى الزهد ليس حمل النفس على الزهد، فهذا زهد في الظاهر مع التعلق بالمزهود في الباطن، وهذا الزهد لا يفيد صاحبه في مجال المعرفة والقرب من الله، وقد يكون مفيداً في مجال تزكية النفس بالمجاهدات والرياضات النفسية التي تقوم على أساس معالجة الأمراض بنقيضها، للتخفيف من حدة التعلق بالأموال والمناصب بطريق مذمومة تعبر عن النهم والطمع الضار بصاحبه الذي يدفعه للمهالك.

( الزيارات : 1٬345 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *