المحبة فى نظر السيد النبهان

رأيه في المحبة:

حظيت فكرة المحبة باهتمام الشيخ رحمه الله في مذاكراته وأحاديثه، وكان يركز على المحبة وشرح معناها وبيان آثارها، وكان يعتبرها الخطوة الأولى في السلوك، والغاية المرجوة من كل إصلاح، ولو تحاب الناس لاستقامت أمور المجتمع، والمحبة تعني التضحية، لأن المحب يعطي ويحسن، وبفضل المحبة تزداد المودة بين الناس.

والمحبة تعني الميل، فمن أحب شيئاً مال إليه، والميل هو بداية الطريق إلى المحبة ولا يميل الإنسان إلى شيء إلا بعد معرفته أولاً ووجود لذته فيه ثانياً، والإنسان يحب الجمال لأنه يجد لذته في النظر إليه، ويبتدىء ميله إليه، وهنا تكون المحبة ويكون هذا الميل هو بداية المحبة.

والكمال شيء جميل، ولذلك يميل الإنسان ويحبه ومن أحب الكمال أبغض ما ينافي الكمال من السلوك، فالإنسان يحب الصدق لأنه كمال ويكره الكذب لأنه مناف للكمال ويجد القبح فيه.

المحبة ثمرة المعرفة:

ومن عرف الله أحبه وتعلق به، ويعرفه بكماله الذاتي ويعرفه بإحسانه إلى خلقه، وهذه المعرفة تولد الحب، وهذا هو الأصل، وقد يقال بأن الحب يولد المعرفة، فمن أحب الله عرفه وكانت المعرفة هي ثمرة الإقبال على الله والتعلق به وإيثاره على ما سواه، ومن أحب الله أطاعه وامتثل لأوامره، فكان مراده موافقاً لمراد الله.

وكان الشيخ يفرق بين محبة العوام لله ومحبة العارفين، فمحبة العوام ترتبط بإحسانه إليهم بالنعم، وهؤلاء يحبون الله لما أنعم به عليهم، فحبهم لله هو حب لتلك النعم، لأنه المنعم عليهم، وهذا الحب ليس حباً ذاتياً لذات المحبوب، وإنما هو حب مرتبط بسبب كحب المتعلم للمعلم وحب المريض لطبيبه، فهو حب ليس لذات المعلم ولذات الطبيب، وإنما هو حب لما قام به من إحسان، ولولا ذلك الإحسان لما كان الحب، وهذا الحب هو أقل درجة من الحب الذاتي، فهناك محبوب لذاته ومحبوب لغيره، فالمال محبوب لغيره وليس لذاته.

أما محبة العارفين والمقربين فهو حب ذاتي تولده المعرفة بذات المحبوب، ولابد لهذا الحب من المعرفة، فمن عرف الله أحبه لذاته، لا لإحسانه إليه، وهو حب الكمال، ويجد المحب لذة في حبه، لوجود نسبة بين المحب والمحبوب، وهو حب الكمال، وهذا الحب فطري وتلقائي، لأن القلب تشرق فيه هذه المحبة، وهذا هو الأصل في كل القلوب، إلا أن القلب قد يحجب عن النور الإلهي فلا يشرق فيه ذلك النور، بسبب ذلك الحجاب الكثيف، إما بسبب المعاصي والآثام التي تؤدي إلى قسوة القلوب وإما بسبب تعلق القلب بالدنيا والتفاته إليها فيحجب بسببه عن ذلك النور.

ويرى الشيخ أن محبة الله لها علائم وقرائن يمكن لكل محب أن يراها، ويعرف طبيعة حيه، فمن أحب الله طمعاً في جنة أو خوفاً من نار كان حبه لهذا الغرض، وهو حب محمود ومن آثاره الكف عن المحارم والإتيان بالأوامر، ومن أحب الله لذاته شعر بالأنس به واستوحش من الخق، فلا يشغله عن حبه شاغل، ويرتقي هذا الحب إلى درجة الفناء في الله، فيكون الله في سره، ويشعر بالسكون والطمأنينة، ومن آثار هذا الحب أنه يرضى بما اختاره الله له، ويسلم أمره لربه، ويتوكل عليه.

ومن أحب الله أحب كل ما يحبه الله، أحب أنبياءه وأولياءه وأحباؤه، وأحب الصالحين الذين يعملون الصالحات، وأحب في الله وأبغض في الله، لأن المحبة تنتقل من المحبوب إلى كل ما يرتبط به ويحيط به، وتتسع دائرة هذه المحبة، فيكون كل محبوب لله محبوباً، وتصبح المحبة رابطة قوية بين المؤمنين يجمعهم حب الله، وما يحبه الله من عمل الصالحات.

وتكون هناك أسرة إنسانية متسعة، يجمعها شعار واحد، الحب في الله، والبغض في الله، وينقسم العالم كله إلى معسكرين، معسكر الخير الذي يعمل الصالحات، ومعسكر الشر الذي يسعى في الأرض فساداً، ويثير الفتن والحروب، ويهدر القيم الإنسانية الرفيعة.

شعار محبة الله ليس مجرد علاقة خاصة بين الإنسان وربه معزولة عن قضايا الناس، وإنما هي إعادة تأسيس لعلاقات إنسانية راقية، غايتها تعزيز قيم الخير ومطاردة رموز الشر، فالحب في الله هو رابطة جديدة لعلاقات إنسانية بين شعوب مختلفة، والبغض في الله هو مطاردة رموز الشر بإظهار العداوة لهم، لأنهم خرجوا عن الاستقامة ونشروا الفساد في الأرض، فإظهار الكراهية للظالم والفاسق والكافر والقاتل والمفسد هو تنبيه له وتحذير وتخويف من مغبة تحدي قيم الخير التي أمر الله بها، ومثل هؤلاء يجب إشعارهم بأن الله تعالى يبغض أفعالهم القبيحة ويدعوهم إلى التوبة والرجوع إلى طريق الله وهو طريق الخير.

وحب الله هو حب للكمال، والارتقاء بمستوى سلوكها، فمن أحب الله فقد اختار طريق الاستقامة، واختار مواقف الخير وتحصن داخل حصون الدفاع عن القيم الإنسانية، وأقام معسكراً للخير في مواجهة رموز الشر الذين يحاربون الله ورسوله في سلوكهم ومواقفهم وطغيانهم.

والذين يفعلون الخير انطلاقاً من حبهم لله تعالى ولمن يحبهم الله تعالى من أنبيائه وأوليائه والصالحين يحدوهم أمل كبير ويدفعهم حافز قوي وهو أنهم سيلاقون رـم في الآخرة، وهم يعتقدون أن الله شهيد على ما يفعلون، وأن الكلم الطيب يصعد إليه والكلمة الطيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ولابد إلا أن تؤتي ثمرها بإذن ربها وتكون محبة الله هي الماء الذي تسقى به أشجار الخير التي تجسد الإنسانية في تطلعها إلى الكمال لعمران هذه الأرض التي استخلف الله الإنسان وسخرها له ليعبد الله ويقيم فيها شريعته وتهتدي البشرية إلى طريق الحق والنور والهداية.

محبـة الله رسالـة إنسانيـة:

ومحبة الله في نظر الشيخ هي رسالة إنسانية ودعوة مفتوحة للخير، لكي يطارد الشر من خلال هذه المحبة التي تجمع البشر عـ الساحة الإنسانية التي ترفع فيها شعارات الاستقامة في السلوك والتعلق بالكمال والسمو في مستوى التصورات والابتعاد عن الشهوات والملذات المذمومة، والتحكم في علاقة الإنسان بالمال والجاه والمقتنيات الدنيوية بحيث يصبح الإنسان متحرراً من القيود المذلة لإنسانيته.

ومحبة الله هي تجسيد لتلك المعاني السامية، وهي الشعار الذي يجمع المتقين والصالحين لكي يكونوا نواة لمعسكر الخير في مواجهة رموز الشر من الطغاة والمفسدين والظالمين الذين ما جاءت الأديان السماوية إلا للتضييق عليهم ومقاومة ما يفعلونه في الأرض من فتنة وفساد.

فإذا تعلق القلب بالله كان أكثر ثباتاً على قيم الخير، وأكثر صعوداً في مقاومة الشر، والذين يزهدون في الدنيا ولا يتعلق قلبهم بملذاتها لا يخافون ولا يرهبون، لأنهم لا يحزنون على مفقود ولا يطمعون فيما يذل الجباه من متاع الحياة وزينتها.

والذين يحبون الله ويجدون أنسهم في ذلك الحب، فتسكن نفوسهم وتطمئن قلوبهم، فهم راضون بما أكرمهم الله به من نعمة، شاكرون لما أفاءه عليهم من فضله، قانعون بما فيه لا يذلهم الطمع ولا يحني رؤوسهم الخوف.

هؤلاء أحبوا الله وأحبهم الله، فكان الله أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وعشيرتهم، وأموالهم وتجارتهم وهؤلاء هم المؤمنون حقاً.

قال تعالى:

{{ع94س9ش42ن1/س9ش42ن333} [التوبة: 24].

وقال أيضاً:

{{ع94س5ش45ن1/س5ش45ن6661ع94س5ش45ن71/س5ش45ن882} [المائدة: 54].

ولذلك فالمعرفة هي أساس المحبة، فمن عرف الله أحبه، ومن أحبه أقبل عليه بالتوبة أولاً وبعمل الصالحات ثانياً، وكان الشيخ يدعو إلى الإقبال على الله والصدق في هذا الإقبال، ولابد من الصدق في الإقبال، ومن علائم الصدق في الإقبال، الإعراض عن الدنيا وعن متاعها وزخرفها، فمن ادعى الإقبال من غير إعراض عن الدنيا فهذه دعوى والمدعي لا يجد حلاوة الإقبال في قلبه، فيكون إقباله متكلفاً، ولا حدود لحلاوة الإقبال، وهو أمر ذوقي، ومن ذاق حلاوة الإقبال زاد صدقه وازداد إعراضه عن المشاغل التي تحجب القلب عن الدنيا.

وهذا المعنى هو ما عبرت عنه الأبيات التالية:

كانت لقلبي أهواء مفرقةفاستجمعت منذ رأتك العين أهوائيفصار يحسدني من كنت أحسدهوـت موـ الورى منذ ـت مولائيتركت للناس دنياهم ودينهمشغلاً بذكرك يا ديني ودنيائيومن أحب الله اشتاق إليه، وهو شوق يختلف عن شوق العبد للأشياء، والشوق إلى الله هو التعلق بالكمال، والبحث عن ذلك الكمال بالاستزادة من المعرفة بالله، فإدراك العبد إدراك قاصر ومحدود، ولا يتجاوز ما تدركه العقول القاصرة، ولذلك فالشوق إلى الله هو شوق لمعرفة ما لم تدركه العقول من أنواع المعارف التي تشرق في القلوب، فتمنحها الأنس بالله والأنس هو أثر من آثار المحبة الناتجة عن معرفة الله، ولا حدود لشوق الأبرار والصالحين والمقربين إلى لقاء ربهم، ومن علائم الأنس بالله التوحش من الخلق والابتعاد عنهم وعن مجالسهم، والشعور بالسكون والطمأنينة القلبية التي تولد في النفس الرضا عن الله وعما اختاره الله له، فلا يتبرم ولا يضيق بما قدره الله له.

( الزيارات : 947 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *