اهم خصائص منهجية السيد النبهان الفكرية

كانت للشيخ رحمه الله آراء في النفس والعقل والقلب والتربية والمجاهدة وتزكية النفوس والإنسان والغريزة والأخلاق والعادات، والأحوال والمقامات والشطحات والزهد والشكر، وهي آراء تنسجم مع التصور الصوفي لهذه المعاني، وأحياناً كان ينفرد بتعريف يراه أكثر دقة أو بتحقيق أكثر ملائمة أو بتفسير أكثر دلالة.

وهذه المعاني كانت ترد خلال مذاكرته في مجالسه، وأحياناً كانت تستنتج من خلال منهجه التربوي، ومن اليسير استنتاج معالم هذا المنهج التربوي من خلال النظرة الكلية والشمولية لآرائه، ولا يمكن فهم هذه المنهجية إلا من خلال تتبع مجمل الآراء والتوجيهات التي يلاحظ فيها الانسجام بين أجزائها، لتكوين معالم مدرسة تربوية لها خصوصياتها الروحية ولها أخلاقياتها المتميزة، وهي ذات صفة ملتزمة بظاهر الشريعة، وليس فيها ذلك الخوض غير المحمود في دلالات المصطلحات الصوفية وذلك الاستغراق المبالغ فيه في المعاني الغيبية.

والبارز في هذه المهجية البعد التربوي والتوجيهي الذي يستهدف تزكية النفس وطهاراتها عن طريق الالتزام بحفظ السمع والبصر، لكي يظل القلب بعيداً عن الكدورات التي تعكِّر صفاءه.

خصائص منهجية:

وأهم ما يميز هذه الآراء ما يلي:

أولاً: تأصيل المعرفة بالقرآن الكريم من غير تكلف لاستيلاد معاني غير ملائمة للدلالات اللفظية:

فالقرآن واضح الدلالة على معانيه المستفادة، والخوض في أعماق الدلالات بما يناقض ظاهر القرآن قد يدفع إلى الانحراف، والمعرفة المستمدة من القرآن هي المعرفة التي لا تقبل الانحراف ولا تؤدي إلى متاهات الضلال، ولابد في الدلالة من وضوح انتمائها للألفاظ، وإلاّ تحوَّلت المعرفة إلى ألغاز لا يمكن التحكم فيها، وكان الشيخ يُكثر من الاستشهاد بالقرآن الكريم والسنة النبوية، ويجد ذلك الترابط المحكم بين ما جاء في القرآن والسنة، ولا يمكن أن يقع التباين بينهما وإذا ظهر شيء من الاختلاف فالاختلاف ناتج عن عدم الفهم ولقصوره في القدرة على ربط الفروع بالأصول الثابتة.

ويقف الشيخ طويلاً عند تفسيره قوله تعالى:

{{ع94س8ش42ن1/س8ش42ن001} [الأنفال: 24] ودعوة القرآن للاستجابة لله وللرسول هي دعوة إلى الحياة، ولا حدود لتفسير ما يراد بالحياة، فكل ما يحقق الحياة من كرامة وسمو ورقي فقد جاء القرآن به ومما يفسد الحياة إتِّباع الهوى فإنه يُضل عن سبيل الله، ولذلك لابد من تزكية النفوس لكيلا تفسدها الأهواء والشهوات، وقد أنكر القرآن على من اتَّخذ إلهه هواه في قوله تعالى: {{ع94س54ش32ن1/س54ش32ن99} [الجاثية: 23] وقوله أيضاً: {{ع94س97ش04ن1/س97ش14ن44} [النازعات: 40 ـ 41].

والاستشهاد بالقرآن هو تأصيل للمنهج لكي يكون قوي الدعائم مرتبطاً بأصوله القرآنية، وما ضلَّ من ضلْ في الأفكار والمناهج والمعارف، إلا بسبب الابتعاد عن المنهج القرآني في وضوح دلالاته ولا يحتاج القرآن لذلك الإيغال المذموم في المعاني الدفينة، فذلك هو بداية الطريق نحو الدروب غير المعبَّدة والتي تقود إلى الضلال.

من حق الفكر أن يطل على المعارف المختلفة وأن يجول في ساحات معرفية واسعة إلا أن من الضروري أن يكون واضح الصلة بأصوله القرآنية، فلذلك يكفل له الالتزام ويمنعه من الانحراف.

ثانياً: عدم الخوض في القضايا الغيبية ذات الطبيعة الجدلية:

وهذا منهج سليم في اعتماده على ظاهر الشرع، فالغيب لا يدرك بالوسائل الحسية لأنه غيب، والغيب وسيلته الخبر الصادق، وما ليس فيه الخبر فلا مجال للخوض فيه بوسائل الحس لعدم إمكان إحاطتها بالغيبيات، فلا جدوى من الحديث في قضايا الروح والقرآن قد ربط ذلك بعلم الله، فمن خاض في ذلك فقد خاض في بحر مظلم لا تدرك سواحله بالبصر، وكان الشيخ لا يحب الخوض في أمور الغيب وأمر المكاشفات والكرامات، ويضيق بذلك، لأنها أمور ذوقية، والذوق فيها حجة لصاحبه وليس للآخرين، فما يدركه أحد بذوقه لا يعني أنه الحق، وهو أمر متوهَّم تتحكم فيه الأمزجة والاستعدادات والقدرات الذاتية، وغاية الدين الطهارة والتطهير بهدف الارتقاء والرقي، وما جعل الدين لغير ذلك من الأهداف الموهمة التي يتعلق بها أهل الجهل.

قال تعالى: {{ع94س5ش6ن74/س5ش6ن665} [المائدة: 6].

ولا فائدة من الخوض في الأمور الجدلية من الغيبيات غير المدركة بالحواس، والتعلق بتلك الغيبيات دليل على الجهل بحقيقة الدين، ولابد من إصلاح النفس بالعلم، لأنَّ العلم نور، ولا إصلاح مع تكريس الإيمان بما لا يفيد من أنواع المعتقدات التي نهي القرآن عن الاهتمام بها قال تعالى:

{{ع94س94ش51ن1/س94ش51ن881} [الحجرات: 15].

ثالثاً: ربط المعرفة بتزكية النفوس:

والمراد بالمعرفة إدراك الشيء في ذاته على ما هو عليه، وتختلف عن العلم في أن العلم يقتصر على الأشياء التي تدرك بذاتها، أمَّا المعرفة فتطلق على الأشياء التي تدركَ بآثارها ولهذا تحتاج المعرفة إلى التدبُّر والتفكُّر ومركز المعرفة هي نفس الإنسان، وتدرَك هذه المعرفة بالفطرة، قال تعالى: {{ع94س7ش271ن1/س7ش271ن111ع94س7ش271ن2/س7ش271ن662} [الأعراف: 172] والفطرة هي مصدر المعرفة لأنها مصدر العلم، كالنخلة في النواة والماء في الأرض إلا أنَّ استخراج ذلك الماء يحتاج إلى جهد وتعب لاستخراجه، وكذلك المعرفة تحتاج إلى تبصر ونظر لاستخراجها والتوصل إليها، وبعض الناس يحصل على تلك المعرفة عن طريق الفطرة من غير جهد وتعلم كالأنبياء والأولياء الذين تفيض تلك المعرفة على نفوسهم من معدن النفس والفطرة، ومن غير تأمل ونظر، لأنهم أقروا على أنفسهم {{ع94س7ش271ن31/س7ش271ن661} أشهدتهم على ذلك {{ع94س34ش78ن1/س34ش78ن66} [الزخرف: 87] فإذا نسوا أن الله تعالى قد أخذ عليهم العهد وأشهدهم على أنفسهم وأقروا بذلك خاطبهم الله بما يدفعهم للتذكر {{ع94س44ش85ن4/س44ش85ن55} ولهذا فإن الحقيقة كامنة في أعماق الذات الإنسانية ولا يمكن أن تكون خارج الذات فالإنسان لا يستمد معرفته من خارج ذاته، ولابد في هذه الحالة من تنقية ذلك الباطن لكي تظهر صورة الحقيقة فيه كما تظهر الصورة في المرآة بعد طهارتها ونقاوة وجهها، ولهذا فإن الدعوة إلى طهارة النفس هي الطريق إلى المعرفة الكامنة في أعماق الفطرة الإنسانية، وهي كالماء في باطن الأرض وكالذهب في أعماق الصخور، ولابد من الجهد المتواصل لكي تنطبع الحقيقة في القلوب المؤمنة، انطلاقاً مما أودعه الله في النفوس من تلك المعرفة.

ومعرفة الله لا تدرك بالبصر كما تدرك الأشياء المحسوسة وإنما تدرك بالبصيرة النقية الطاهرة، عن طريق ما يُشرق في القلوب من شعاعها المبشِّر بالطمأنينة والذي يؤدي إلى السكون.

ومن اليسير تصحيح المعتقدات الفاسدة الناتجة عن الغفلة، إذا كان أصحابها من أصحاب الطبائع السليمة الذين يتقبَّلون الحق، فإذا جادل هؤلاء بالباطل دفاعاً عن باطلهم فهذا جدال مذموم يمنعهم من الانصياع للحق والرضوخ له، وهو نوع من أنواع الاستكبار المذموم الذي يلوِّث الفطرة ويبعدها عن حقيقتها الإنسانية، والغاية من تزكية النفوس إزالة ماران عليها من أدران الجهل والاستكبار فجعلها بعيدة عن الحق مكذِّبة بما سبق أن أقرت به من الإيمان بالله.

كان الشيخ في مجالسه يتحدث عن المعرفة وهي الغاية المرجوة وهي الماء الكامن في أعماق الأرض، والأرض هي الذات الإنسانية، وكل العلوم والمعارف موطنها ذلك الكائن الذي اجتمع فيه الوجود كله وهو العالم الأكبر بكل ما فيه من عجائب المعرفة، ولابد من استكشاف ذلك الكنز الدفين، عن طريق تزكية النفوس بالمجاهدات النفسية للتغلب على الغرائز الفطرية الجامحة التي تسيطر على الإنسان فتدفعه بعيداً عن كماله الفطري إلى منزلقات خطيرة.

وتتكامل مهمة الأنبياء مع مهمة العقول البشرية في الدعوة إلى الحق، فالأنبياء يدعون إلى الحق ويبيِّنون طريق الهداية بالنصح والإرشاد والتعليم، والعقول البشرية تميِّز بين الحق والباطل وتعرِّف الإنسان بالمسالك المضيئة، لئلا يضل طريقه، فهم دعاة الباطن ييسرون مهمة الأنبياء بتعبيد طرق الهداية، ولا تستقيم دعوة الأنبياء إلا بقيام العقول بدورها في الإقناع الداخلي وهو الحوار الداخلي الضروري الذي يُمهِّد لقبول الهداية.

والعقول إذا لم تكن مؤهلة للسماع ولم تُعَبِّد الطرق لدعاة الهداية فلا يمكن لمهمة الأنبياء أن تؤتي ثمرتها المرجوة، ويقاوم الجهلة هذه الدعوة بالجدل والاستكبار، ويطلبون من الأنبياء أن يأتوا لهم بالمعجزات المتلاحقة التي تقنعهم مما يدل على أنَّ الجهل قد سيطر على عقولهم ودفعهم إلى مستنقعات الضلال.

كان الشيخ يؤكد على أهمية تزكية النفوس لقبول كلمة الحق وكلمة الحق لا تحتاج إلى جهد لقبولها لأنَّ إشراقة الحق تنير القلوب إلا أن الظلمة التي تسيطر على النفوس بتأثير السلوكيات العزيزية تمنع النور من أن يتسرب إلى القلوب، فلا تضىء أنواره، ولابد من المجاهدة أولاً لتزكية النفوس، فإذا زكت النفوس أصبحت مستعدة لقبول الحق بسرعة انطلاقاً من سلامة الفطرة التي أقرَّت عند الخلق بالربوبية.

رابعاً: عدم الالتزام بالطقوس الصوفية:

كان الشيخ رحمه الله يتحدث في مجالسه عن كثير من القضايا التي اشتهرت الصوفية بها، وهناك قضايا أخرى لم يكن يتحدث عنها، وأهم ما كان يتحدث به هو الأدب والصحبة وأخلاق الصوفية وتزكية النفوس والمعرفة وأحوال القلب والواردات التي ترد عليه والشريعة والحقيقة، والتحقق بصفة العبدية لله تعالى ومقامات الزهد والتوكل ومحاسبة النفس ومراقبة الله والإيمان والإحسان وثمرات العبادة وآداب المريد ويقظة القلوب.

وهناك قضايا أخرى لم يكن يتحدث عنها، وإذا سئل عنها أجاب بما يفيد عدم انصراف القلب إليها، لئلا ينشغل القلب بالقشور عن اللب المقصود من التربية.

ولعلَّ اهتمامه بالقرآن هو الذي جعله أكثر التزاماً بالمنهج القرآني في مسلكه التربوي والروحي، وما لا يجد سنداً له في القرآن كان يبتعد عنه ويقلل من أهميته.

ومما كان يدعو إليه الحب في الله والبغض في الله، فمن أحَبَّ لله لابد إلا أن يُبْغِضَ في الله والسبب في ذلك أنَّ الحب ارتبط بسبب وهو الله، فمن أحب لذلك السبب أبغض لنفس السبب، ويمكن للإنسان أن يحب ويبغض في نفس الوقت، يحب لصفة في المحبوب ويبغض لصفة أخرى فيه، ولا يتعارض الحب والبغض، لأنَّ كلاً منهما لا ينصبُّ على أمر واحد فيحبه لشجاعته ويكرهه لمعصيته، ويظهر الحب في سلوكيات الإقبال ويظهر البغض في سلوكيات الإعراض فأنت تُقبل عليه بالحب، تعبيراً عن حبك لله، وتُعرض عنه بالوسائل المعبرة عن الإعراض لما فيه من صفات المعصية، إلا إذا شعرت أنه مقبل على التوبة والإقلاع عن الفعل، فتأخذ بيده لكي تساعده على التوبة.

ولم يكن يشجع مجالس السماع التي اشتهرت بها مجالس الصوفية، لم ينكرها عليهم وفي الوقت ذاته لم يشجعها في مجالسه، وكانت مجالسه خالية من ذلك، ويعتبرها من الغفلة التي لا تليق، ولا يحبِّذ ما تثيره في النفس من مواجيد، فإن ارتبطت بمنهي عنه شرعاً فلا يقرها وينكرها، ويحض على اجتنابها، وإذا وجد من يحب مجالس السماع من أصحابه كان يبعده، ولعلِّ سبب نفوره من ذلك أنَّ النفوس تركَن لمجالس السماع وتأنس بها لأنها من اللهو الذي ينمي في القلب التعلق بالشهوات، وكان معظم العلماء يكره ذلك، لما تعبِّر عنه هذه المجالس من غفلة ولما تقود إليه هذه العوائد من انزلاقات، والوجد المتولَد من السماع يحرك مافي القلوب، ولا يُوجد شيئاً جديداً، فما في القلب من خير أو شر يتحرك بالسماع، فإن كانت المحبة لشيء دنيوي تحركت كوامن هذه المحبة بالسماع، والصادقون الذين تعلقت قلوبهم بالله لا يحتاجون إلى ذلك السماع إذا كانوا في لحظة اليقظة، وإذا كانوا في لحظة الغفلة فالسماع لا يوقظ الغافلين ولا خير في قلب يحتاج لمن يوقظه بالألحان والمواجيد.

كان الشيخ يجد في التربية الصوفية سمواً في الهمة وصدقاً في اللهجة، ولا يرى فيها ذلك الانفعال المتكلَّف بسبب وجد من أحد أصحابه وكان يضيق بذلك، إلا إذا كان صادقاً فيه غير متكلِّف، ولعل سببب ذلك تعلق الشيخ بالكمال وتعهد ذلك الكمال في تربيته لأصحابه في مجالسه ومذاكراته وتوجيهاته، وكانت مجالسه خالية من هذه الظواهر، تمثلاً بمنهج الشرع في كراهية ذلك، لئلا تصبح التربية الصوفية مجرد طقوس محفوظة ومجالس سماع تتحكم فيها الأهواء وتسيطر عليها الشهوات.

ولم يدعُ الشيخ إخوانه إلى التزام العزلة عن الناس والأخذ بما اعتادت الطرق أن تأخذ به من الدعوة إلى الخلوة، فذلك أمر يعود تقديره إلى طبائع السالكين، وليس المهم العزلة عن الناس، وإنما المهم ألا يشغل السالك قلبه بقضايا الناس، فالعزلة وسيلة لغاية، والغاية هي الثمرة المرجوة، وهي الإعراض عما يشغل القلوب ويكدِّر صفاءها، والانصراف إلى الله تعالى بكامل الهمة.

والعزلة قد تكون مطلوبة لبعض المساكين ممن لا يقدرون على التحكم في أنفسهم، فيلجؤون إلى العزلة لفترة من الزمن للتخلص من علائقهم الدنيوية، وهي كالحِمْية بالنسبة للمرضى، وليست هي العلاج، فلابد من الاختلاط بالناس والسعي في الأرض بالعلم أو الكسب، ولا مجال للقول بالتزام التوكل على الله فالتوكل مرتبة قلبية وهو حال يعتري السالك في لحظة ما، يدرك معها معنى التوحيد الخالص لله، ويشعر في حاله هذا ألا فاعل في الوجود إلا الله وألا رازق إلا الله وألاّ محرَّك لهذا الوجود إلا الله، وإنَّ الله هو المتفرِّد بالخلق والرزق والعطاء والمنع والقهر والملك، وهذا حال يعتري السالك، وليس مجرد اعتقاد فالاعتقاد موجود لدى السالكين كلهم، أما الحال فهو أخصّ من الاعتقاد وهو شعور داخلي يأتي كالبارقة التي تحل بالقلب وتسكن فيها، وتترك أثرها في كيان السالك، فيرى أن الله تعالى هو الرزاق والفعال لما يريد، ومن ادعى هذه الحال ولم يشعر بها فلا يحسنُ به أن يدَّعي التوكل وأن يتوقف عن السعي والكسب، فالأمور مرهونة بأسبابها الظاهرة، فمن ادَّعاها وهو غير صادق فيها كسلاً عن السعي وادعاءً كاذباً فهذا ليس من السلوك الحميد.

والعزلة ليست محمودة في جميع المواقف، ومخالطة الناس مع مراعاة آداب المخالطة والصحبة والخلوة هو المنهج الأقوم والأقوى، وهو المنهج الشرعي الذي رجَّحه كثير من علماء السلف، وكيف يستقيم أدب المحافظة وأدب الصداقة والأخوّة مع العزلة ولابد من التخلق بحسن الخلق، ولا يبرز حسن الخلق إلا بالمخالطة ولا تبرز الفضائل السلوكية إلا بالتواصل الإنساني، فالفضيلة ليست إعداماً للإنسان وإفناءاً لغرائزه الفطرية، وإنما هي تحكم في الغرائز وتوجيه لها لكي تكون أكثر سمواً وعلواً.

وعندما نريد الحديث عن آراء الشيخ رحمه الله يجدر بنا أن نُسلِّط الضوء على بعض مفاهيمه وسلوكياته، ومن الصعب استخلاص مواقف محددة ثابتة، ذلك أمر عسير فالشيخ في موطن التربية والإرشاد قد تصادفه حالات تستدعي مواقف مختلفة، ولابد من مراعاة طبيعة السالك وما يتطلبه من إرشاد يلائم شخصيته، وهو كالطبيب في تشخيصه للأمراض لا يصف دواءً واحداً لكل المرضى، ولو كانوا يشتكون من أعراض مرضية واحدة، فالمعالجة ترتبط بطبيعة المرض وحالة المريض ومدى استعداداته البدنية والنفسية فقد يصف دواء لمريض ثم يصف دواءً أخر لمريض يشكو من نفس الأعراض، وذلك لمراعاة حالة المريض، لأن الغاية هي الثمرة وهو المطلوب من مهمة الموجه والمرشد.

بالنسبة للسالك يرى كل سالك جوانب في شخصية المرشد لا يراه الآخر، لا للتناقض في مواقف الشيخ ولا لاضطراب في توجيهاته، وإنما لاختلاف في طبائع السالكين، فهناك الصادق وغير الصادق، وهناك من تغلب عليه شهواته وغرائزه، وهناك من يسيطر عليه عقله وتأملاته، وهناك من يعتقد ومن لا يعتقد، وهناك من يتراءى بما ليس فيه طعماً في حسن السمعة ورفعة المكانة.

والمرشد المؤهَّل للإرشاد يدرك جيداً طبيعة كل سالك، ويوجهه إلى ما يفيده وما يلائمه، ومن الطبيعي أن تتعدد مسالك التربية وتختلف أساليبها، في إطار نسق متكامل، يحدد الثوابت ويضع ملامحها، ويتحكم في التوجيهات بما يكفل سلامتها.

وما يستفيده السالك من شيخه إنما يستفيده بفضل أدبه وصدقه مع الشيخ، وألا يلتفت قلبه إلى غير شيخه، فإن التفت قلبه إلى الغير توقفت الصلة وانقطع التواصل، ولا يكون الالتفات مع صدق المحبة فالمحبة هي سر التواصل وهي أداة التعارف وتولِّد الأحوال التي يرتقي بها السالك.

( الزيارات : 914 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *