السيد النبهان وايام معه

ذاكرة الايام..السيد النبهان .وايام معه

ما زالت الفترة الاولى من حياتى ما بين العاشرة والعشرين هي الاهم والاغنى دلالة وتاثيرا , هي مرحلة التكوين الاولى , كان يمكن لحياتى ان تتجه نحو مسار اخر , كل ماحولى كان يسير بطريقة مختلفة , تلك الفترة كانت بصحبة السيد النبهان طيب الله ثراه , كان بالنسبة هو المربي والموجه والمرشد , كنت الحفيد والاقرب اليه , كنت قريبا منه , كنت اقرب اليه من كل الاخرين , كان يريدنى ان اكون الى جانبه فى كل وقت , كنت اصلى الصلوات الخمس معه والى جانبه , كان يوقظنى كل ليلة قبل الفجر فاصلى معه التهجد , ثم نصلى الفجر , ثم اجلس الى جانبه وهو يقرا القرآن  بصوت عال الى ان تطلع الشمس , كنت افعل كل ذلك بارادتى وانا سعيد به , وكنت ارافقه فى كل زياراته ودعواته واحضر جميع مجالسه الخاصة والعامة , كان هو الصديق الوحيد بالنسبة لى وهو موطن اسرارى , لم يكن احد يعرف ذلك السر بيننا , كان ينتظرنى ولا يصلى الا اذاحضرت ووقفت الى جانبه  , كان اذا اكل شيئا لا بد الا ان يخصنى بشيء مما ياكل , لم اسمع منه كلمة قاسية او جارحة , عندما اخطئ كان يقول لى كلمته المعهودة : الله يصلحك , اصبح مدلولها فى اذنى كعقاب شديد , انها تدل على عدم الرضا , لم يلمنى قط على خطأ ارتكبته بغير ارادتى , وكانه لم يشعر به , عندما كان يتحدث كنت اشعر انه يوجه حديثه لى , كنت افهم ما يريد , سألته يوما عن ذلك قال لى : انت تفهمنى جيدا وتفهم ما اريد , كنت اشعر كانه مؤتمن علي , كل الاسرة كانت تتساءل عن سر ذلك الاهتمام , كان يثق بى بغير حدود , لم اطلب منه شيئا لنفسي , لو طلبت اي شيء لاجاب ولكننى لم افعل , كان يقول لى تعجبنى همتك وعفتك , كان يمدحنى فى غيابى كثيرا ولكنه لم يمدحنى فى حضورى , وكان يخشى علي من المديح ان اكبر به فى نظر نفسي , عندما كنت اغيب عنه كان يقلق ولا يريدنى ان اغادر البيت الا معه , عندما كان يسمع من يمدحنى فى مجلسه كان يشعر بسرور , ويقول اننى انا الذى ربيته ويقولها بفرحة , عندما سافرت لطلب العلم بعد سن العشرين كان حزينا وكدت أعود من سفرى , عندما كنت اعود من السفر كنت اجد عددا من اخوانه فى استقبالى خارج المدينة واذهب معهم الى حيث يكون , عندما يحدثه احد عنى بمالايسره كان يقول له انا اعرف منك به , بعض ما كنت اسمعه منه فى تلك الفترة لم اكن افهمه جيدا , عندما اتاملها فيما بعد اصبحت افهمها اكثر , من المؤسف ان قلة ممن كان يسمع كلامه كان يفهمه جيدا , كانوا يفهمونها بقلوبهم وعواطفهم , وذلك فهم اكثر رسوخا واعمق دلالة  وهذا يسعدهم ويكفيهم , كنت اتساءل عن السر فى تلك الرعاية التى كان يخصنى بها , فيما بعد اصبحت افهم اكثر سر تلك الرعاية , عندما كنت صغيرا لم اكن افهم ما اصبحت افهمه فيما بعد , كانت تلك الفترة خصبة وغنية , وهي التى اسهمت فى تكوين معظم افكارى والهمتنى معظم تاملاتى , لقد تركت فى نفسي شيئا لا يمكننى انكاره او تجاهله , ذلك الاثر كان يمكن ادراكه بسهولة , وعندما التقيت بالشيخ عبد الحليم محمود شيخ الجامع الازهر وكان من اعلام عصره فى المغرب فى اول زيارة لها وكنت فى مقتبل العمر وسمع منى اول درس منى امام الملك فى الدروس الحسنية قال لى كلمته : لقد رايت السيد النبهان يتكلم , وقد سمعها منه الشهيد الشيخ محمد الشامى , ويومها قال لى الحسن الثانى رحمه الله : شيء ما فى حديثك لم اسمعه من قبل , لا اشك ان تلك هي بركة السيد النبهان , هناك فى حياتنا مالا ندركه ولا نفهمه , كنت اشعر باستمرار بتلك البركة تلازمنى فى مواقف كثيرة , كنت اراها كمظلة واقية فى ليلة تواصلت امطارها , عندما اتامل بعض المواقف والمنعطفات فى حياتى ادرك جيدا ان الرعاية الالهية كان لها الفضل فى  مسيرتى , ماكان فى حياتنا من  فضل فهو من الله , وكنت الاحظ التوفيق والتيسير فى كثير من المواقف , لم اكن املك ما لا يملكه غيرى من امثالى , ولكننى كنت الاحظ انما افعله او اقوله  يكبر احيانا بغير جهد منى , كنت اشعر كاننى مدفوع والقن ما يحسن ان يكون , وينشرح صدرى لمواقف وكلمات لم اكن قد فكرت فيها او اعددتها , فتحت امامى ابواب كانت مغلقة من قبل , وكان الخير فيها , واغلقت فى وجهي ابواب كنت اتمناها واعمل لها بكل جهدى ولم اوفق فيها , واكتشفت بعد حين ان الخير فيما كان , وحمدت الله , هناك الكثير من المواقف التى رأيت فيها اللطف الالهي , وكنت ادر ك ان الله تعالى يمن علينا بفضله , وتظل عقولنا قاصرة  عن فهم اسرار ما اراده الله لنا , لم تضعف ثقتى يوما بقدرة العقل على فهم مانحتاج اليه , ولكننى اعترف ان هناك مالا يمكن للعقل ان يدركه , كان هذا الشعور عميق الجذور فى تربيتى وتكوينى , لقد عشت فيه منذ الطفولة , وهذا من تاثير تربية السيد النبهان , واعترف ان كل ماكان من قضايا الايمان بالله والتسليم بما اختاره الله لنا كان من تاثير تلك الطفولة , لم تكن طفولتى كطفولة الاطفال الاخرين , لم اعش تلك الطفولة , مازلت اذكر اننى التقيت باحد اعلام العلم فى مصر وهو العلامة الشيخ محمد ابو زهره , وكنا نتحاور فى قضية وانطلقت من لسانى كلمة مما كنت قد تربيت عليه من مسلمات ايمانية , قلت لاستاذى فى ذلك المجلس الادب مع الله , بهت الرجل وهو يطلب منى ان اشرح ما اريد قوله , كان بعيدا كليا عما كنت اقصده , انسحبت بسرعة وتراجعت وكانها زلة لسان , كان علما كبيرا وادركت يومها انه بعيد كليا عما كنت افكر فيه , والتقيت يوما فى القاهرة باحد الرجال الكبار الذين هم بعيدون كليا عن كل القضايا الايمانية وعندما تكلمت امامه رأيته ينصت باهتمام  ومنذ تلك اللحظة اخذ يتابع اخبارى ويحرص على ان يسمع منى بعض ما اقول ,لقد التقينا ولا بد من تلاقى الارواح ,  هناك قضايا ايمانية لا يمكننا فهم خفاياها , حاولت ان افهم بعقلى بعض الظواهر ولم استطع فهم  الكثير مما كنت اشعر باثره , احيانا استعيد بعض الكلمات التى سمعتها من السيد النبهان فى الطفولة , فيما بعد اصبحت افهم اكثر , واجد الكثير من كتاباتى فيما بعد يعبر عن بعض تلك المعانى , كان تاثير تربية الطفولة كبيرا فى حياتى وفكرى وفى شخصيتى وفى كثير من المنعطفات فى حياتى , وفى المغرب مرت بى ازمات قاسية ومررت بمنعطفات خطيرة , وقد ساعدتنى تربيتى الاولى ان امر بتلك الازمات وان اتجاوزها بيسر , كنت اتألم كالاخرين الا اننى كنت اشعر بقوة داخلية كانت اقوى وارسخ مما توقعت , كان كل من كان حولى يسألنى عن السر فى ذلك السكون الداخلى الذى كنت اشعر به , كنت اشعر بقوة لا حدود لها , كان كل من حولى يشعر بها ويسالنى عن ذلك السر الذى اخفيه , كنت اشعر اننى الاقوى , فى المغرب كان هناك الكثير مما يستحق ان يذكر , لقد اكتشفت ان هناك فى المغرب خصوصيات ايمانية لم اجدها فى اي بلد اخر , رأيت مثلها فى سوريا , ذهلت وانا اجد الكثير من الكبار سواء من العلماء اومن الشخصيات الوطنية يملكون خصوصيات ايمانية وروحية تدل على خصوبة الارض المغربية حضارة وايمانا , لولا هؤلاء ما تمكنت من العيش فى المغرب والاندماج فى مجتمعه , عرفت اكثر الرجال مكانة فى المغرب وكانوا فى غاية الرقي ادبا وخلقا , لقد استقبلت فى منزلى اهم الرجال , وكنت اسعد بزيارتهم , وكانت افضل المجالس الثقافية  تتم فى بيتى , وهذا كله يدل على خلق واصالة الشعب المغربي , وكنت فى كل تلك المناسبات استحضر بعض ذكريات الطفولة واجد فيها ما يساعدنى على الفهم الحقيقى لما يريده الله منا , لا ادعى اي شيء لنفسي , كنت اجد نفسي مدفوعا الى ما كنت اقوم به , تعلمت من السيد النبهان ان الله تعالى اذا اراد شيئا لك شرح صدرك له للقيام به ونسبه اليك , واؤكد ان اثر تلك المرحلة الاولى من حياتى سيظل ملهما لى ومؤثرا , ومهما ابتعدنا عن مصدر الماء فسوف يظل موطن النبع يمدنا بماء متجدد لم تلوثه رحلة السواقى ولم تغيره اوحالها المتراكمة ..  رحم الله السيد النبهان لقد كان له فضل علي فى حال حياته وفيما بعد , مازالت اثار تربيته تمدنى بمدد من حسن الفهم لما يريده الله منا , كنت اجد ان معظم ما اكتبه كانت له جذور من تربية السيد النبهان ومن ذكريات تلك الطفولة .ز

 

( الزيارات : 647 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *