الطريق الى الله

الطريق إلى الله:

كان الشيخ رحمه الله يؤكد على أن الطريق إلى الله مدخله الاستقامة، والمعرفة بالله تبتدىء بحفظ السمع والبصر، فلا يصل إلى القلب عن طريق الحواس إلا ما هو طاهر ونقي من أنواع الخواطر، والتعلق بالدنيا هو إشغال القلب بما يدركه من أنواع التعلقات، والزهد ليس ترك الأموال وإنما هو التحرر منها وعدم التعلق بها، بل ألا يشغله زهده عن ربه.

فإذا انشغل الزاهد بزهده حجبه ذلك الزهد عن غاية الزهد..

كان الشيخ يحذر من خطورة الانشغال بالوسائل عن الغايات، فالغاية من كل ذلك المعرفة، فمن حجب عن الله تعالى بالمجاهدة والخلوة والعزلة والزهد والكرامات حجب بالوسائل وتوقف عند حدود الظاهر، وهذا من الجهل والغفلة بحقيقة التصوف.

والقلب كالمرآة الصافية تنطبع فيه الحقيقة كاملة كما هي، لا كما يتخيلها العقل بقوانينه الاستدلالية، فما يتخيله العقل هو وليد تراكم صور مختلفة، ذات أشكال متغايرة ومتنافرة وتتعدد مدركات العقول، لا لتعدد الحقائق، ولكن لتعدد المتخيلات وتنافرها وعدم انسجامها، ولهذا تعددت العقائد وتنافرت المعقولات وتكاثرت الرؤى، بسبب كثرة ما يرد على العقول من صور، وعندما تتوقف هذه المتخيلات تنطبع في المرآة صورة ما هو موجود في الفطرة النقية التي فطر الله بها الناس عليها، فالعوارض الخارجية تأتي من الهواء والميول، فتولد الخواطر السيئة في العقول، وتعتاد العقول بتأثير الأهواء على قبول ما هو للفطرة، ولهذا نجد أن مدركات العقول تختلف بحسب الأمزجة الشخصية والمؤثرات التربوية والعوامل الجغرافية، فطبائع الغضب تنتج سلوكيات معبرة عن الغضب كالحقد والحسد، وطبائع الشهوات تنتج سلوكيات معبرة عن الأهواء كالطمع وحب الجاه والتعلق بالدنيا.

والإنسان هو أفضل مخلوقات الله، وهو الأفضل بسبب ما فضله الله به من استعداده للمعرفة وقابليته لتزكية النفس وطهارة القلب، وهذه الأفضلية ليست صفة ثابتة ودائمة إذا لم يحترم الإنسان خصوصية هذه الأفضلية، وتتمثل هذه الخصوصية في قابلية الإنسان لأمرين، الأمر الأول هو قابليته للشهوات البهيمية التي يشترك فيها مع الحيوان، في شوقه الفطري للطعام والشراب والجنس وكل ما تشتهي النفوس من أنواع المطالب والرغبات، والأمر الثاني هو قابليته للعلم وقبول المعارف والتطلع للكمالات، وهو في هذه الصفة يشبه الملائكة الذي لا يعصون الله فيما أمرهم، لاتصافهم بصفة الكمال النسبي وهم بطبعهم كاملون، لا يقبلون النقص، إلا أن كمال الإنسان أكثر كمالاً لأنه يملك الاختيار.

فمن غلبت على طباعه الصفات الشهوانية فهو كالأنعام بل هو أضل منهم، لأن الحيوانات لا يملكون قابلية الكمال، بخلاف الإنسان فيملك قابلية الكمال، فإذا اختار الصفة البهيمية فهو أضل من الأنعام وإذا غلب عليه الكمال وانصرف بكليته إلى ما يحقق فيه هذا الكمال فهو ملكي.

 

ووصف الله تعالى الذين كفروا بأن مثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع، فهم صم بكم عمي لأنهم لا يعقلون، ولو عقلوا معنى انسانيتهم ولماذا خصهم الله بصفات الكمال لاختاروا الكمال لما في الكمال من جمال، والإنسان بطبيعته يحب الجمال لأنه يرى فيه الكمال، ويحب الكمال لأنه يرى فيه معالم خصوصياته الإنسانية ويحب إنسانيته لأنها سبب تميزه عن البهائم التي تشاركه في قواه الحيوانية وشهواته الدنيوية واستمتاعه بالملذات.

ووجه التفرقة بين الذين آمنوا والذين كفروا أن الله تعالى وليّ الذين آمنوا، وثمرة هذه الولاية أنه يخرجهم من الظلمات إلى النور والطاغوت هو ولي الذين كفروا وثمرة هذه الولاية أنه يخرجهم من النور إلى الظلمات، وشتان ما بين الولايتين، من حيث الأثر، فالرحلة من الظلمات إلى النور هي رحلة من النقص إلى الكمال.

والرحلة من النور إلى الظلمات هي رحلة من الكمال إلى النقص، وأصحاب العقول يرحلون من الظلمة إلى النور لأنها رحلة إلى الأفضل، والجهلة يرحلون من النور إلى الظلمة، وهي رحلة خاسرة، ولذلك فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً.

قال تعالى في وصف هاتين الولايتين:

{{ع94س2ش752ن1/س2ش752ن881} [البقرة: 257] وهنا تكون أداة الفهم هو القلب بكل مقوماته ومكوناته النفسية والعقلية، فإذا زكت النفوس ارتقت مدارك العقل وانتقل العقل من الصفة اللغوية الضيقة التي تدل على القيد والربط إلى عالم النور واللطافة، فأشرق النور في العقول، وأصبحت مهيأة للتمييز بين الحق والباطل والخير والشر والفضيلة والرذيلة والكمال والنقص، هذا النور يشرق في قلب الإنسان، فيجعله مستعداً للفهم ومؤهلاً للمعرفة التي لا يحجبها ظلام غفلة أو قسوة.

هذا الإنسان بنفسه التي طهرت بالتربية وبعقله الذي يميز به بين الحق والباطل وقلبه الذي جعله الله موطناً لخطابه الإلهي لأنه أداة الفهم هو الذي استخلفه الله تعالى في الأرض، لكي يعبده أولاً، ولكي يعرفه ثانياً، ولكي يعمر هذه الأرض بأسباب الحياة ثالثاً، وهذا الإنسان مكرم عند الله، والأكرم عند الله هو الأصدق في تقواه الذي يبدأ بإصلاح نفسه قبل أن يبدأ بإصلاح الآخرين، فمن أراد إصلاح غيره قبل إصلاح نفسه فهو غير صادق في دعواه، وهو أمر منهي عنه، وكبر مقتاً عند الله أن يقول المؤمنون ما لا يفعلون، وندد القرآن الكريم بمن يأمر الناس بالبر وينسى نفسه، تلك هي الغفلة عن الله، والعقلاء لا يفعلون ما يفعله الجاهلون.

وأصحاب القلوب هم المخاطبون بالقرآن الكريم، وهم المعاتبون إذا لم يفقهوا، فالقلب هو موطن الخشية وموطن الزيغ، فإذا صلح  القلب صلح أمر البدن كله، ليس في صحة أعضائه الحسية بل في صحة إدراكه لما يريده الله تعالى من الإنسان من فعل الخير وعمل الصالحات والتنافس في الأخلاق الحميدة، والتمسك بالكمالات الخلقية، فما جاء به الإسلام هو دعوة للحياة، بكل ما تحتاجه الحياة من صحة العقيدة والتزام بالعدالة والحق في مجالات والحقوق وارتقاء بمستوى السلوك إلى درجة الكمال الذي يتمثل في حب الخير.

( الزيارات : 1٬481 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *