راي السيد النبهان فى الدنيا

رأيه في الدنيا:

يراد بالدنيا ما هو قريب، وهي من الدنو وهو القرب، ويقابلها الآخرة وهو المتأخر، وهو ما بعد الموت، فما قبل الموت قريب هو الدنيا، ومابعد الموت بعيد وهو الآخرة والدنيا والاخرة مرحلتان متكاملتان، فلا دنيا بغير آخرة ولا آخرة بدون دنيا، والموت هو لحظة الانتقال والعبور بين عالمين، عالم الشهادة وعالم الغيب.

وفي رحلة الإنسان من الحياة الدنيا إلى الآخرة، هناك ما يمكن اصطحابه في هذه الرحلة، وهناك ما لا يمكن اصطحابه فما يمكن اصطحابه هو العلم الصالح، ولا يكون العمل الصالح إلا بصحبة العلم، فالعلم يثمر العمل، فمن علم بما عمل ولا فائدة في علم لا يثمر عملاً، والعلم المفيد هو الذي يثمر ما يمكن حمله في رحلة الانتقال من الدنيا إلى الآخرة، لأنه يحتاج إليه.

وهناك ما لا يمكن اصطحابه من حظوظ الدنيا، وقد يحمله معه ويكون عبئاً ثقيلاً عليه، فيحاول أن يتخلص منه فلا يستطيع، فيحاسب على كل ما حمله معه مما ارتبط بحقوق الله وحقوق العباد، أما حقوق الله فتتمثل في مخالفته لأوامر الله تعالى، فهو مكلف ومخاطب، فإذا لم يقم بما كلف به فهو مقصر، ولابد من محاسبته على ذلك التقصير.

والدنيا ليست مذمومة بذاتها، لأنها مزرعة ضرورية يثمر العلم فيها عملاً، فإن كان العمل صالحاً كان رصيداً لصاحبه في الآخرة يجزى به، وإن كان العمل سيئاً كان عبئاً على صاحبه في الآخرة يحاسب عليه.

كان الشيخ يردد في مجالسه:

كل من تلقاه يشكو دهره.. ليت شعري هذه الدنيا لمن…

فيجيب: هذه الدنيا لمن أعرض عنها.

مفهـوم الأعـراض عن الدنيـا:

والأعراض عنها ليس بالهروب منها، فلا سبيل إلى ذلك الهروب، وإنما التزود بما يفيد من عمل الصالحات، ولا يكون العمل الصالح إلا بالتحرر من التعلق بالدنيا بالزهد فيها والتحرر من قيودها.

وما يأخذه العبد من الدنيا لا يتجاوز حدود ما يحتاج إليه، من الطعام والشراب والملبس وما هو ضروري لاستمرار الحياة، واللذات ليست مرتبطة بالشهوات فقط، وإنما هي مرتبطة بالحصول على الشيء الذي يجد الإنسان لذته فيه، والذي يتشوق إليه، وتنبعث النفس للحصول عليه.

واللذات الدنيوية ثلاث:

لذة عقلية وروحية، وهي اللذة التي ينفرد بها الإنسان عن الحيوان، فالحيوان لا يدرك اللذة العقلية، وهي مختصة بالإنسان وهذه اللذة هي أشرف اللذات لأنها مرتبطة بأشرف ما في الإنسان وهو العقل، فمن وجد لذته في المعرفة فقد دل ذلك على سمو تكوينه.

لذة جسدية، وهي اللذة التي يحصل عليها الإنسان من الشهوات المرتبطة بالأبدان كالمآكل والمشرب والملبس والمنكح، وما هو مرئي من أنواع الجمال وما هو مسموع من أنواع السماع والطرب، وهذه اللذة يشترك فيها كل من الحيوان والإنسان.

لذة الغلبة والرياسة، وهذ لذة مرتبطة بالغريزة، وتوجد لدى الحيوان والإنسان، وإذا تحكمت في الإنسان سيطرت عليه وجعلته متطلعاً للتغلب والعدوان.

وكلما ارتقى الإنسان في مستوى إدراكاته بتأثير التربية والتكوين ارتقت مستوى لذاته من لذات حسية إلى لذات فكرية وعقلية، فيجد لذته في المعرفة العقلية وفي المعرفة الروحية، ويشتاق لأسباب هذه اللذة ويأخذ بأسبابها وتسعده مجالسها، فيصبح تعلقه بالطعام والشراب والملبس أقل، ويتحكم في شهواته وتكون علاقته بأسباب هذه اللذات أضعف، فيقل طمعه في المال واقتناء الأشياء، ويضعف لديه النهم المذموم الذي يعبر عن تعلقه بالدنيا، فيصبح أكثر اعتدالاً في طعامه وشرابه وملبسه، ويكون شوقه للشهوات واللذات الدنيوية شوقاً فطرياً لا يتجاوز حدود الاعتدال.

ولا أحد ينكر جمال الدنيا وما فيها من متع ولذات، فهو أمر فطري والنفس البشرية تألف ذلك وتشتاقه، إلا أن المذموم هو ذلك التعلق المبالغ فيه والذي يهبط بمستوى اهتمامات الإنسان، فينمو في النفس حب اللذات الحسية والجسدية وتنقص اللذات المعنوية والروحية التي يتميز بها الإنسان عن غيره من المخلوقات.

ولم يحرم الإسلام الاستمتاع بالدنيا فتلك زينة الحياة الدنيا، وإنما حرم الاستمتاع بالشهوات الضارة التي لا تليق بالإنسان لأنها تنافي الكمال، والكمال أمر مرجو في الإنسان، والسلوكية التي تنزع إلى الكمال هي أسمى وأعلى وهي التي تليق بالإنسان الذي خلق الله لكي يكون خليفته في الأرض في تطلعه للكمالات، وتعلقه بالفضائل.

والمقتنيات الدنيوية من مال وطعام وملبس أما أن تكون علاقتها بالبدن لتحقيق أسباب وجوده وتلبية حاجاته الضرورية وإما أن تكون علاقاتها بالقلب، فتشغله عن معرفته، فإذا انشغل القلب وتعلق بها وأحبها كانت هذه العلاقة مذمومة لآثارها السلبية، وإذا بقيت علاقة هذه المقتنيات بالبدن فهذه علاقة طبيعية، ولا خطر منها، ولابد من تزويد البدن بحاجاته الدنيوية التي خلقت لتحقيق كماله البدني.

هذه هي نظرة الشيخ إلى الدنيا، نظرة الإنسان إلى ما هو مسخر له، وهي نظرة من الأعلى إلى الأسفل، من الإنسان إلى الدنيا، والإنسان هو السيد والدنيا هي المتاع وهي الزينة، وإذا تحكم المتاع بالإنسان فذلك هو المذموم.

والمراد بالإعراض عن الدنيا هو التفات القلب عن الدنيا إلى مرغوب أسمى وأعلى يليق بالإنسان ويصلح له زاداً له في رحلته من الحياة الدنيا إلى الحياة الأخرى، ولابد إلا أن يكون الزاد مفيداً ونافعاً في هذه الرحلة، وزاد التقوى هو خير، أما المقتنيات التي لا تحمل مع الإنسان فتظل في هذه الدنيا يحمل العبد أعباءها ويحاسب عليها.

التحرر من الدنيا:

والمتحررون من التعلق بالدنيا أكثر قدرة على الاستمتاع بالملذات، لأنهم لا يخافون من سيطرتها عليهم، فينامون وهم سعداء بما يأكلون ويشربون، فإذا زالت الدنيا عنهم فلا يشقيهم زوالها، أما الذين يزداد تعلقهم فهم خائفون وجلون من غدهم المجهول، أن تذهب الدنيا عنهم، فيشقون بمجرد هذه الخواطر، ويخافون من الغد، وكأنه كابوس يتجدد في كل لحظة يلوح لهم بالفقر ويخيفهم بأشباح تؤرق ليلهم، فلا يستمتعون بلذة خوفاً من زوالها، إذا أعرضت الدنيا عنهم ولو بالقليل أعرضت السعادة عنهم، وعاشوا في تعاسة وشقاء.

فالدنيا مسخرة للإنسان بطعامها ومتاعها ولذائذها لكي يستقيم أمر الحياة، وليست هي الغاية والهدف، والدنيا وسيلة لغاية، فمن شغل بالوسائل عن الغايات فهذا دليل على الجهل.

( الزيارات : 779 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *