رحلة الموت فى نظر السيد النبهان

رأيه في الموت:

الموت انتقال من عالم الكثافة إلى عالم اللطافة، وهو نهاية الحياة الدنيا، وبداية لحياة أخرى، وهو رحلة لابد منها، ومن تعلق بالدنيا وأحبها وذاق لذاتها ثقل عليه أن يغادرها ويترك ما بناه فيها، ولا سبيل للبقاء في الدنيا، وكمال ازداد التعلق بالدنيا ازداد الخوف من فراقها والحزن عليها.

كان الشيخ يدعو إلى الاستعداد للموت بالإعداد له، واليقظة الدائمة، فما يحمله العبد معه هو عمل الصالحات، ومن كان زاده كثيراً لا يخاف من رحلته هذه.

وكلما زاد تعلقه بهذه الدنيا زادت الخشية من الموت، لأن الإنسان لا يحب مفارقة ما يحب، ولذلك يكره الغافلون المستأنسون بالدنيا المستمتعون بلذائذها ذكر الموت، ولذلك يفرون منه، بالإعراض عن ذكره وكراهية الحديث عنه.

قال تعالى:

{{ع94س26ش8ن1/س26ش8ن881} [الجمعة: 8].

والإنسان لا يكره الموت لذاته، وإنما يكره ما يشعر في نفسه من تقصير بحقوق الله فيخاف من لقاء ربه لأنه مقصر في ذلك، أما من استعد لذلك بعمل الصالحات فإنه يشتاق للقار ربه، وكلما كان الإيمان أعمق وأصدق كان الشوق أكبر إلى لقاء الله.

وذكر الموت فضيلة، لأنه يذكر العبد بربه، ويعيد للعبد شعوره بعبديته لله، فمن غفل عن الموت زادت غفلته عن ربه، وأخذ بأسباب الشهوات إلى أن يفاجئه الموت على غير استعداده منه.

والذاكرون للموت هم أكثر استعداداً له وأوفر مؤونة، وهي رحلة لابد منها، ومن ذكر الآخرة أعد نفسه لها بذكر الموت.

ومن أسباب الغفلة عن الموت طول الأمل، فالإنسان يحب أن يعيش طويلاً ويعمل لما يفكر فيه ولما يعتقده من طول الحياة واستمرارها، فيتبعد عن ذكر الله، ويغفل عن ربه، ويزداد تعلقه بالدنيا ويأنس بها، وهذا هو الجهل بعينه.

وانطلاقاً من منهجية الشيخ في ايقاظ القلوب من غفلتها، وإحياء معاني القرب من الله، والتحكم في الشهوات والملذات فقد كان يتحدث عن الموت، لإيقاظ القلوب، ويدعو أصحابه لزيارة المقابر للعبرة والتغلب على قسوة القلوب، فلا شيء يضر الإنسان ويبعده عن إنسانيته مثل القسوة التي تجعل القلوب معرضة عن الحق.

والناس يطمعون في الحياة ويأنسون بها، وكلما ذكورا الموت حزنوا وخافوا، ولا سبيل إلى نسيان الموت، فهو قريب، في يوم أو ساعة أو دقيقة، يقبل من غير مقدمات.

ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره ذلك كره الله لقاءه، كما جاء في حديث عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالوا: كلنا يكره الموت قال: ليس ذاك بذاك، إن المؤمن إذا خرج له عما هو قادم عليه أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه» متفق عليه.

كان الشيخ يحض على كل عمل يذكّر بالله، كالموت وزيارة القبور، وزيارة المستشفيات ورؤية المرضى وزيارة دور العجزة والأيتام، لكي يستيقظ القلب من غفلته، ويخفف من قسوته، ويكون أكثر رحمة بالخلق، فهذا هو الطريق إلى الله.

والغاية من زيارة القبور هي يقظة القلوب والعبرة، ولذلك لابد من التزام الأدب مع هذه الزيارة، ليس مع الميت وإنما مع الموت والعبرة والاستفادة.

الروح والموت:

والموت يرتبط سره بالروح، وأمر الروح لا يدرك، ولا أحد يمكنه الحديث عن أمر الروح، لأنها تدخل في عالم الغيب والملكوت، والروح لا تتوقف مع الموت، وإن اعتقد البعض ذلك، وإنما يتوقف أمر البدن، ويفني بالموت، وتبقى الروح قائمة ومخاطبة، وتسمع ما تخاطب به وهي التي تثاب، وتعاقب، إلا أن علاقتها بالبدن تنقطع بالموت، وتفارقه، والروح هي التي تحرك الأعضاء والحواس فإذا مات العبد انقطعت صلة الروح بالبدن، وتوقفت الأعضاء عن أداة عملها، وخصوصية الموت أن انقطاع صلة الروح بالبدن يحررها فينكشف لها من أمر الغيب ما تكون عاجزة عنه في الحياة، فالبدن قيد للروح، فإذا تحررت انطلقت الروح في عالم الملكوت، وتكشفت الأسرار، وأضيئت الأنوار، وهنا تبحث الروح عن زادها في الدنيا من خير أو شر، وتدرك ما كان خافياً عليها من أمر الخير والشر، وتعرف الحق من الباطل.

ويؤكد هذا ما رواه عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خاطب كبار مشركي قريش بعد غزوة بدر، وناداهم فقال: يا فلان يا فلان قد وجدت ما وعدني ربي حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فقيل يا رسول الله: أتناديهم وهم أموات، فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، أنهم لأسمع لهذا الكلام منكم إلا أنهم لا يقدرون على الجواب. رواه مسلم.

وبعد الموت ينكشف لقلب المؤمن الطائع من الأنوار والمعارف ما يعرف به حقيقة نفسه وحقيقة ما وعده الله به من أنواع الشعور بالسعادة والطمأنينة ويكتشف أن الدنيا ما هي إلا كالسجن المظلم الذي تحبس في الروح فلا تحلق في الفضاء الفسيح من ملكوت الله.

والذين يتعلقون بالحياة الدنيا ويأنسون بها إما لأنهم يائسون من الآخرة بسبب ما اقترفوه من سيء الأعمال فيخشون منها وإما لأنهم متعلقون بالدنيا وبمتاعها وشهواتها ومقتنياتها، وإما لأنهم جاهلون بحقيقة الآخرة، فلا يعرفون من أمرها ما يدفعهم للشوق إليها، ولهذا يستقبل الرجل الصالح الطائع الموت مستبشراً سعيداً غير خائف ولا وجل.

والنفس التي تزكت تشتاق للموت، وتستقبل بالرضى انطلاقاً من حسن الظن بالله، وما يُضفيه الإيمان على القلوب من سكون وطمأنينة، وهذه ظاهرة مرئية في موت الصالحين الذين يستقبلون الموت بالفرحة بلقاء الله.

وما أجمل أن يودع العبد حياته الدنيا بالفرحة والابتسامة وكأنه في رحلة جميلة إلى ما هو أفضل وأكمل، ذلك شعور يريح الراحلين في لحظات وداعهم لأحبائهم.

رحلة الموت:

ما أروع ما تضفيه هذه المعاني الروحية على النفس من شعور بالسرور والسكون، ألسنا جميعاً سنرحل تلك الرحلة الحتمية، ألا نشعر بالخوف من سكرات الموت وقبل أن يتوقف نبض الحياة.

ألا يشعر من حولنا هول ذلك اليوم المخيف المرعب الذي سيفارقون فيه من يحبون من آباء وأمهات وأبناء وأخوة وأصدقاء.

روعة هذه التربية أنها تهيىء النفوس لتلك الرحلة، فلا تكون رحلة إلى المجهول المخيف.

ليست الرحلة من عالم النور إلى عالم الظلمة ومن عالم الأنس إلى عالم الكآبة.

ليست رحلة من الوجود إلى العدم لو كانت الرحلة إلى العدم والظلمة والوحشة والفناء لمّا أشرقت وجوه الراحلين بالبهجة والفرحة، ولما انبسطت أساريرهم وهم يودعون أحبائهم المقربين، رفقاء الأمس الذين عاشوا معهم وسعدوا بهم.

لو كانت الرحلة إلى القبر الموحش من غير ذلك الأمل الجميل لما احتمل الأبناء وداع آبائهم وأمهاتهم، ولما استطاع الآباء وداع أبنائهم وهم يرحلون.

لابد من العمل.. إنها النافذة المطلة على النور والضياء ويجب أن تبقى هذه النافذة مفتوحة على الدوام تبشر بالأمل لكيلا تكون الحياة كئيبة حزينة مخيفة.

موت بغير أمل… يميت البسمة في وجوه الراحلين، ويطفىء النور في قلوب المحبين والمودعين.. فلا يقوون على الصبر والتحمل.

في هذه الرحلة تبرز أهمية الاستعداد لها، فمن أنس بهذه الدنيا وتعلق بها صعب عليه ذلك اليوم الذي سيغادر فيه هذه الحياة، ومثله في ذلك كمن اعتاد أن يعيش في قرية منعزلة في بادية فإنه يصعب عليه بحكم الاعتياد أن يغادر هذه القرية إلى مدينة واسعة جميلة، لا لأنها جميلة، ولكن لاعتياده على دروبها وبيوتها وعاداتها، ولو أعد نفسه للرحيل، فلم يانس بها، ولم يألف ما فيها لما صعب عليه فراقها، ولو عرف أنه يملك الزاد الذي يكفيه لما خاف من السفر، ولما شعر بأخطار الطريق وصعوبة المقام.

وما يجب على العبد فعله أن يتذكر دائماً أن الموت آت ولابد منه، وأن الرحيل قادم ولا خيار فيه، وهذا هو الاستعداد المطلوب، ولذلك إذا وقع منه ما يؤاخذ عليه سرعان ما ندم على هذا الفعل وسارع في إصلاحه، وإذا فاته الرزق قنع بما فيه الكفاية، فلم يشغل نفسه بما لا يحمله من الزاد الذي ينفعه في الآخرة.

لم يكن الشيخ رحمه الله في دعوته إلى العبرة من الموت وعدم الانشغال بأمر الدنيا والقناعة بما رزق فيها والمسارعة في عمل الصالحات يهدف إلى التخويف والترغيب، وإلى إشاعة روح الكسل، وإنما الغاية من ذكر ذلك التذكير بما هو قادم ودعوة إلى اليقظة الدائمة وعدم استرسال النفس في الشهوات والملذات، فهناك من اللذات المعنوية ما يكون أكثر إسعاداً للإنسان، وقد ذم القرآن الكريم الذين يفرحون في الحياة الدنيا بغير الحق، والله لا يحب الفرحين الغافلين.

ولا يخلو سبب الخوف من الموت وما يخلفه في النفس من غم وحزن أن يكون بسبب فقد ما يشتهيه من الدنيا، أو بسبب معصية وإثم ارتكبها ويخشى أن يحاسب عليها أو بسبب خوفه على مصير ما يقتنيه من مال وثروة يخشى أن تفلت منه، فإذا أعد نفسه للموت قلت شهواته، واستقام سلوكه وزهد فيما يملكه.

( الزيارات : 1٬001 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *