العلم او التجارة .. خيار صعب.

ذاكرة الايام..العلم او التجارة .. اختيار صعب .

مازلت اذكر ذلك اليوم الذى اردت فيه ان اختار التجارة بدلا من طريق العلم , كنت فى الخامسة عشرة من عمرى , ووقفت حائرا مترددا اتساءل :

 اي الطريقين خير..

طريق العلم الذى كنت قد شرعت فيه ام طريق التجارة وهو اكثر بهجة واقل مشقة , وغالبت نفسي وانا اقاوم هذه الرغية , لم يعجبنى ماكنت فيه , وضقت ذرعا به , واشتدت الرغبة والالحاح  , واستجمعت كل طاقتى ودخلت على السيد النبهان طيب الله ثراه , وقلت له , اريد ان اترك العلم واريد ان اتعلم التجارة .قرار صعب لم ادرك اثره .

 قال لي :  هل فكرت فى الامر , قلت له: لقد فكرت جيدا واخترت , توقعت ان يعاتبنى او يوبخنى او يقنعنى بخلاف ذلك , لكنه لم يفعل ابدا ..

منهج فريد فى التربية ..

 

اتصل بالحاج احمد الصغير وكان من ابرز التجار شهرة واكثرهم معرفة باصول التجارة , وكان يملك محلا كبيرا فى خان الجمرك بحلب , وكانت له خبرات متنوعة فى عالم التجارة وفنونها , واخبره  اننى اريد ان اعمل فى التجارة وان اتعلم فنونها , وكانت تربطنى صلة محبة ومودة به وكان من كرام الرجال خلقا واستقامة ,  وكنت اعرف محبته لى , وفى اليوم التالى كنت فى خان الجمرك امارس مهنة التجارة , لاول مرة اختلط برجال مختلفين عما اعهده , عالم مختلف كل الاختلاف , اكثر واقعية وحياة عالم بلا توقف  , وكنت اذهب كل صباح الى مكتب يعرف بمكتب اسبير امام باب القلعة  , كان رجلا كبيرا وكانت مهمته ان يشرح لنا كيف نمارس التجارة ونعرف الحسابات ونمسك الدفاتر التجارية , وكيف نتوصل الى معرفة الارباح والخسائر  , هناك عدة دفاتر لا بد منها اهمها كتاب الذمم وكتاب الصوافى ودفاتر اخرى لضبط الحسابات اربع دفاتر ضرورية ومصطلحات جديدة وغريبة , تعلمت سريعا ما كان يسمى بعلم الدوبيا , كنت اسأل نفسي هل يمكن ان تكون مهمتنا فى الحياة ان نشتري سلعا  ثم نبيعها لاخرين  بقصد الحصول على الربح وهو الفرق بين السعرين  , كنت اتعامل مع اناس من المشترين ليسوا من طبيعة واحدة منهم .. ومنهم .ز , هناك اخلاقية مختلفة عما عهدته فى مجالس العلم والعلماء , الاهتمامات مختلفة  , رحلة استمرت تلاتة اشهر , تعلمت الكثير فى هذه الفترة الوجيزة , كان ذلك العالم الجديد يصغر فى كل يوم , لم اكن سعيدا بما انا فيه , كنت اشعر بغربة تتزايد فى داخلى , كان الحوار الداخلى مستمرا وكانت الحيرة والتامل ..تجربة مثيرة .ز لن اتوقف سريعا ..

 كنت اقول هامسا : مالهذا خلقت ..

بدات التصدعات الداخلية تعلو ملامحي ..

كنت اسمع همسا فى كل مكان من اساتذة عرفونى او اصدقاء الامس  , ما لهذا خلقت ..

عندما رآنى الشيخ الكبير ابو الخير زين العابدين  وكانت تربطنى به صلة خاصة وكنت احبه ويحبنى , وكان كثير الزيارة للسيد فى الكلتاوية.ز

 قال لى  :

 لست انت من يترك العلم , التجارة ليست مهنتك , وذهب الى السيد وتحدثا طويلا فى الامر ..

  لم تعد الرغبة كما كانت , كانت الحصون فى داخلى  تتساقط واحدا بعد الاخر , ذات يوم جاءنى الى البيت وامسك بيدى وسرنا حول القلعة , تحدثنا طويلا , قال لى : العلم هو الخيار الوحيد , ساراك كما عهدتك فى مكانك.. كان محبا وشعرت بصدقه .

دخلت الى السيد وقلت له :

 انتهت الرحلة , ساعود الى العلم ..كان فرحا , كنت انتظرك ان تعود . كان الكل يخاطينى بشانك .لم اره فرحا كما رايته فى هذ اليوم .

عندما عدت كانت الفرحة لدى كل الاصدقاء والمحبين ..لم اندم على تلك الخطوة كانت ضرورية , ..

                          …..

بعد ثلاثين سنة من ذلك اليوم اخذت اتصفح مقدمة ابن خلدون , وما ذا كتب فيها عن التجارة والتجار , واهم ما لفت نظرى ان ابن خلدون بعد ان شرح دور التجارة فى نقل السلعة للحصول على الربح قال :

التاجر لا يمكنه ان يحصل على الربح الا بامرين : الاول خلق المكايسة والثانى الجاه ..

وتساءلت عن خلق المكايسة كما ذكرها ابن خلدون , وعلل ذلك ان المصلحة بين البائع والمشترى متناقضة وكل منهما يحاول ان يؤثر فى الاخر , والبائع يجب ان يملك مؤهلات خاصة تمكنه من اقناع المشترى بسلعته , وليس كل الناس يملكون هذا الاستعداد , هناك من يملك هذا الخلق وهناك من لا يملكه , وكتب فى ذلك فى الصفحة 704ان البائع لكي يحصل على الريح يجب ان يعتمد على موهبته الشخصية واهل النصفة قليل ولا بد من الغش والتطفيف المجحف بالبضائع والمطل فى الديون والاموال والحقوق , والتاجر لا بد له لكي يحصل على الربح من ان يكون جريئا فى المخاصمة والمما حكة وان يكون قريبا من الحكام لكي يخافه العامة ويدفعون له ماله من حقوق طوعا  او كرها ..

 ما اجمل ماكتبه ابن خلدون عما سماه المماحكة وخصص فصلا مستقلا فى الصفحة 694 للحديث عن اخلاق الكسب وسماه السعادة والكسب انما يحصل غالبا لاهل الخضوع والتملق , وهناك قضايا مهمة اشار اليها ابن خلدون وهو ذلك الربط بين الربح وبين الجاه المكتسب من امرين:  السلطة اولا والمجتمع ثانيا , فالجاه الناتج عن السلطة يجعل التاجر اكثر قوة وهيبة ولا يمكنه ان يقترب من اصحاب السلطة وان يستمد منهم الجاه , وصاحب السلطة لا يمنحك الجاه باقترابك منه الا بامرين اما ان تكون له مصلحة فى ذلك ا وان تنافقه وتتملقه او بكلا الوصفين معا وهو الغالب , ..

توفقت طويلا عندما قرات هذه الكلمات من المقدمة وادركت ان ماكان  فى الماضى هو نفسه الذى يمكننا ان نراه فى عصرنا وفى كل عصر , وكان ابن خلدون يصف الواقع , لعل سبب ذلك هو طبيعة النفس البشرية , مازلنا كما كنا قبل اكثر من خمسة قرون , وكنت اتساءل هل ماكان  هو اليوم كما كان , متى يكون الكسب الانسانى هو قيمة الجهد الانسانى من غير حاجة الى ذلك الخضوع لصاحب السلطة او لصاحب القوة , متى يكون الكسب عادلا ولا يتجاوز قيمة العمل , متى نفهم الدين عدالة واستقامة والتزاما بالحقوق , السنا بحاجة اليوم لاعادة النظر فى كثير من القيم الاجتماعية , الان استطيع ان افهم اكثر كلام ابن خلدون , وان نرفع شعار اخلاقية الكسب هي العدالة والصدق والاستقامة , فمن زاد فقد تجاوز وغش وظلم ,

مازلت حتى الان اتساءل ايهما هو الافضل  العلم او التجارة , احيانا ارى التشابه كما هو عندما تنطبق شروط الكسب التجارى على الكسب باسم العلم , فى كل تخصصات العلوم المختلفة , متى يكون العلم رسالة لاجل الافضل والاكمل , اخلاقية الكسب لا بد منها وبخاصة فيما اصبح من  المهن العلمية كالطب والهندسة وكل المهن والتخصصات العلمية التى يحتاج اليها الانسان لكمال الحياة وسعادة الانسان .

( الزيارات : 1٬402 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *