عزة النفس وشرف البضاعة.

 ذاكرة الايام.. .عزة النفس وشرف البضاعة

وقفت امام مكتبتى الخاصة واخذت اقلب بعض الكتب القريبة منى , ووقع نظرى على كتابى الفكر الاقتصادى عند ابن خلدون , تناولته من المكتبة واخذت اقلب بعض صفحاته فى تصفح سريع , لفت نظرى فى الفصل الاخير منه , ذلك العنوان المثير , لم يكن مبشرا ابدا لاهل العلم وللمشتغلين به , فى الفصل الخامس من الكتاب وفى الصفحة 217 منه قرات عنوانا مثيرا :  ثروة اهل العلم قليلة ..

 لم يكن العنوان منى , قد اتفق مع ما قاله ابن خلدون عن هذه الظاهرة  , لا بد من ان علماء اهل زمانه قد عانوا من ذلك , ابن خلدون هو عالم اجتماع , هو يلتقط الظاهرة الاجتماعية ويحاول ان يعللها ويبين اسبابها , لم يكن فيما كتب فى مقدمته ناقدا ولا مصلحا , كان عالم اجتماع يدرس الظاهرة الاجتماعية كما هي , ثم يبين اسبابها النفسية والاجتماعية وكان يعبر في ذلك عما هو فى عصره فى بلاد الغرب الاسلامى و المجتمعات الاندلسية والدولة المغربية الممتدة الى تونس فى عهد المرينيين , وقد عاش الصراعات والمغالبات والقبائل والعصبيات واستفاد منها والتقط من واقعه قوانينه الاجتماعية  , تحولات كبيرة شهدها ذلك العصر , كان ابن خلدون مؤرخا وحاول ان يفهم اكثر , عندما كتب مقدمته اراد بها ان يضع لنفسه بعض الثوابت والاصول  , لعل اهم قاعدة هي التى بدأ بها مقدمته وهي ان الرواية التاريخية لا تخرج عن اصول العادة وقواعد العمران , كان مصدره فيما كتبه هو تجربته الشخصية وحياته  متنقلا بين القصور والسجون , كتبت عدة كتب عن ابن خلدون , الاول عن المقدمة وفكر المقدمة  والثانى عن الفكر الاقتصادى عند ابن خلدون الذى نشرته دار التراث بحلب قبل سنوات , وهناك كتاب ثالث لم ينشر بعد عن قوانين ابن خلدون .

عندما قرات عنوان هذا الفصل الخامس من الكتاب توقفت ضاحكا عند هذا العنوان :  ثروة اهل العلم قليلة , بشرى مؤلمة ومحزنة لكل اهل العلم , وانا اتكلم عن اهل العلم ممن اهتموا بالعلم واخلصوا له , من اراد العلم مهنة فهذا يختلف امره , وعندما علل ابن خلدون ذلك ادركت ماكان يريد ان يقوله , وهناك سببان لهذه الظاهرة كما اكد عليها بنفسه :

السبب الاول هو قلة الحاجة الى بضاعتهم , ومن المعروف فى علم الاقتصاد ان الحاجة ترفع القيمة , وكل سلعة يكثر الطلب عليها ترتفع قيمتها , لوجود الحاجة او ما يسمى بالعرض والطلب فما اشتد الطلب عليه ارتفعت قيمته  , فى مجتمع جاهل لا قيمة للعلم فيه  ولا للكتاب , فى مجتمع لا يحب اهله القراءة لا يمكن ان يزدهر سوق الكتاب , من اليسير ان تجد الطلب عاليا وملحا  على  لاعبى كرة القدم وعلى المطربين والفنانين وكل الرياضيين الذين يتابع المعجبون بهم اخبارهم ويثير اهتمامهم  , العلم مهنة سوقها كاسدة , معظم العلماء الكبار فى التاريخ كانوا فقراء , لا احد يحترف مهنة العلم , العلم رسالة شريفة من اراد العلم اتجه اليه واختاره حبا به واداءا لواجب طلب العلم , المهم انه لا يطلب لذاته وقلة من يكرم العالم لعلمه  وهم الكبار ,  احيانا يراد بالعلم ان يؤدى مهمة اخرى لخدمة من يملكون المال والسلطة , وهناك الكثير ممن اصبحوا وزراء واصحاب سلطة لانهم استخدموا علمهم لما يراد لهم , الدعوة مفتوحة لمن اراد , هناك الكثير ممن استجابوا وارتقت مكانتهم سلطة ومالا وجاها , وهناك الكثير من العلماء الذين امتحنوا واضطهدوا وسجنوا , هناك قلة ممن تركوا اثرا طيبا وذكرى مشرقة , اهل التقوى والورع من العلماء لن تجدهم فى الصفوف الاولى ولا فى قصور المترفين , هناك ثمن للاستقامة والتقوى , احيانا يطلب منك ما لا تستطيع ان تدفعه , ولهذا تجد الكثير ممن اعرض وزهد في كل شيء تاركا كل شيء لمن يريد الدنيا , مجتمعنا اليوم لا يختلف عما كان من قبل , العلم لا طلب له , سلعة رخيصة الثمن وهناك قلة ممن يطلبها ..

السبب الثانى الذى ذكره ابن خلدون لفقر اهل العلم : عزة النفس وشرف البضاعة , وهذا هو العنوان الذى وقفت طويلا عنده متاملا فيه , وكتبت معلقا على كلام ابن خلدون ان عزة النفس مما تدفع الى الفقر لان المعتز بنفسه لا ينافق ولا يتملق ولا يخضع  وهؤلاء الذين لا يدفعون ثمن المال الذى يطلبون لا يمكن للمال ان ياتيهم , وكلمة عزة النفس كلمة كبيرة ومعبرة وثمنها غال وقلة من يحاول ان يدفع ثمن عزة نفسه , والكلمة الاخرى هى شرف البضاعة , فالعلم بضاعة شريفة ولا يقتنيها الا الكبار الذين يدفعون ثمنها وما اكثر ما يدفعه اعزاء النفس ثمنا لشعورهم بقدسية ما يقتنون من البضاعة , ليس كل الناس يفهمون ثمن الكرامة وعزة النفس , هناك من يعلمون الكثير من العلوم ويؤلفون الكثير من الكتب ولكنهم لا يملكون عزة النفس , فالبضاعة ولو كانت شريفة فانها تحتاج الى تاجر يحسن اقتناءها وحفظها ,

.. عندما اغلقت الكتاب تذكرت ذلك اليوم الذى كنت اكتب فيه ذلك الكتاب , قبل اكثر من ثلاثين عاما , واستحضرت الكثير من المواقف التاريخية الكبيرة التى نقلت الينا عن ذلك النموذج من العلماء الذين كانوا اعزة بعلمهم وكانوا كبارا , ومازالت الاجيال تتناقل اخبارهم , العلم مسؤولية وقدرة وهو كالسيف لا يمكن لكل احد ان يمسك به , انه يحتاج الى قبضة قوية وشجاعة لا تكلف فيها , اذا لم يكن حامل السيف كذلك فمن الصعب ان تتوقع الكثير من الصغار اذا امسكوا بسيوف حادة لا تخلف وعدها اذا امتضيت وغضبت وكانت مستعدة للنزال , رحم الله ابن خلدون , انه لم يقدم لنا ماكنا نجهله من طبائع النفوس ولكنه استطاع ان يلتقط من الواقع مانحن بحاجة الى فهمه من جديد  لكي نفهم اكثر معنى الحياة وتعدد النمازج الانسانية التى لا يخلو منها اي عصر من العصور التى  تعبر عن مدي رقي الانسان .

 

 

 

 

 

( الزيارات : 667 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *