المجالس النبهانية

وصف مجالس الشيخ:

كانت مجالس الشيخ رحمه الله هي منبره الدائم المستمر الذي يخاطب به أتباعه ويوجههم من خلاله، وهي مجالس مستمرة لا تتوقف أبداً، في نهار أو ليل، في حضر أو سفر، لا يشغله عنها شاغل ولا يتوقف عنها مهما كانت الأسباب، وكانت هذه المجالس تعرف بين أصحابه بالمذاكرة، وهي المصطلح السائد الدال على حديث الشيخ.

فإذا شرع في الحديث سرى في المكان همس سريع الانتقال يعقبه تعاقب الإخوان والمريدين على المجالس، ويجلس الجميع بأدب جم مطرقي الرؤوس وكأنَّ على رؤوسهم الطير، يسمعون كلام الشيخ، ولا تسمع أي همسة أو حركة، ولا يتوقَف الشيخ عن الحديث إلاّ لأسباب كاستقبال ضيف جديد، أو أمر طارىء أو انتهاء المجلس.

ومجالس الشيخ مهيبة يخيّم عليها الجلال، ولا يطرح أي سؤال أو استسفار من الإخوان، ويسترسل الشيخ في الحديث ويمتد المجلس لدقائق أو ساعات، ولا يلتفت أحد يمنة أو يسرة، ويجلس كل فرد في المكان الذي يختاره في مواجهة الشيخ، وغالباً ما يكون الجلوس على الأرض أو على الكراسي والكنبات بحسب جلوس الشيخ، ولا يهتم الشيخ بكيفيات الجلوس، وإنّما يهتم بالتزام الأدب وعدم التفات القلب عن المجلس والانصراف بالكلية إلى المذاكرة، ويتفاوت الأتباع في مدى أخذهم واستفادتهم، وهم يتلقُّون حديث الشيخ بقلوبهم، كما يتفاوتون في مدى تأثُّرهم، فإذا صدر من أحدهم حال من الأحوال يؤدّي به إلى حركة نظر إليه الشيخ لكي يعود إلى هدوئه، وكان يعتبر الأحوال من علائم الضعف وعدم التحمّل، إلاَّ إذا كان حال بكاء وتأثّر.

ولا يجري في هذه المجالس أي حديث خارجي أو انشغال بأمر دنيوي أو التفات إلى قادم أو مجاور، ولا ينسحب أحد من هذه المجالس إلا لعذر وبأدب كبير يستأذن به الشيخ.

وأحياناً يستفسر أحد الجالسين الشيخ عن فكرة، فيجيبه عليها، والاستفسار يدلَ على مدى استيعاب السائل للفكرة، وأحياناً يكون السائل بعيداً عن روح الفكرة فيحدث انقطاع في الحديث، إلى أن يعود المجلس إلى صفائه.

أهمية الأدب في هذه المجالس:

من أهم ما يميز مجالس الشيخ التزام الأدب فيها، ويستفيد المريد من أدبه مع الشيخ أكثر مما يستفيده من أفكاره، ويتحقّق أدب المريد بمعرفة النفس، فالنفس، هي موطن الجهالات والأهواء فمن عرف نفسه التزم بالأدب، وكان الإمام ابن المبارك يقول: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منّا إلى كثير من العلم، ومن خصائص الأدب أنه يفتح القلوب ومن تقرَب إلى الله بأدبه منحه محبة القلوب وصرف عنه العيوب.

ويحظى الأدب في الفكر الصوفي بأهميّة كبيرة، وهو أهم ما يميّز مجالس التربية الصوفية، فالأدب يجب أن يرافق كل حركة من حركات المريد، وهي الصلة بين الشيخ وإخوانه.

قال الإمام الطوسي في كتابه اللمع:

فالصوفية لهم آداب في سفرهم وآداب في أوقاتهم وأخلاقهم، وآداب في سكوتهم وحركاتهم، وهم مختصون بها عن غيرهم، ويعرفون بها عند أشكالهم وعند أبناء جنسهم، ويعرف بها تفاضل بعضهم على بعض، وبهذه الآداب تميّز بين الصادقين والكاذبين والمدَّعين والمحققين(%1).

وأكثر الناس أدباً في مجالس الشيخ هو الشيخ نفسه، فهو رمز الأدب، وهو الذي يعلمهم الأدب بفعله لا بقوله وبحاله لا بمقاله، فهو القدوة لهم، وهم له متَّبعون، فإذا صدر عنه شيء أخذوا به من باب الاتِّباع، والاتِّباع أصل من أصول التربية الصوفية.

والأدب ثمرة من ثمرات التربية، وهي دالة على حسن الخلق، فلا خلق مع انعدام الالتزام بالأدب، ولا ينحصر الأدب عند الصوفية بترك الشهوات والتغلب على الأهواء والقيام بالواجبات الشرعية والعمل بالأوامر، والابتعاد عن النواهي، فهذه واجبات أولى لابدَّ منها، وهي كطهارة الأجسام من النجاسات الظاهرة، ولا تصح الصلاة فيها، ولكن الطهارة الأسمى هي طهارة القلوب من الخواطر المذمومة والوفاء بالعهود والعقود وحسن الأدب في مواقف العبادة مع الله وعدم الالتفات إلى ما يشغل القلوب وما يعكرَ مزاجها من الصفات المذمومة والأهواء والشهوات، وهذا الأدب هو أدب أهل الخصوصيَة، وهو الأدب الذي يثمر المعرفة بالله وينير القلب بالسكون والطمأنينة.

ولا يمكن للمربّي في المنهج الصوفي أن يتصدى لمهمة التربية والإعداد إلا بعد أن يجاهد نفسه وتحقَق المجاهدة ثمرتها المرجوة في حسن الأدب، والتحكم في الغرائز والسيطرة على الأهواء.

لم يتكلّف الشيخ يوماً الأدب، كان الأدب بالنسبة له هيئة راسخة في النفس والسلوك في مجالسه الخاصّة والعامّة، مع أسرته وإخوانه ومع الآخرين، في حالتي الهدوء والغضب، فهو أديب في حديثه وأديب في عباراته وأديب في نظراته وأديب في مجالسه، لم يخرج قط عن نطاق الأدب، حتى في علاقته مع نفسه، عندما ينفرد بنفسه، وكان يتحدَث عن أدب السالك مع نفسه في خلوته لأنَ الله معه يراقب حركاته وسكناته.

ولم يعتمد في تربيته لإخوانه ومريديه على الأوراد والأذكار ولم يحدَثهم عن الأحوال والمقامات، وإنّما اعتمد على وجوب الالتزام بأحكام الشريعة كما جاءت في القرآن والسنة وإجماع الأمّة وهذه الاستقامة هي عين الكرامة، ثم اتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم في كل خُلُقٍ من أخلاقه لأنَّه يمثل الكمال الإنساني والفضائل في أروع صورها في أقواله وسلوكياته واختياراته الشخصية، وأخيراً حفظ الحواس من السمع والبصر، لئلا يؤدي ذلك إلى التفات القلب إلى ما يعكَر صفاءه، فيكون ذلك هو الحجاب الذي يحجب القلب عن النور الإلهي في القلوب النقية الصادقة المهيأة لانطباع الحقائق فيها، امتثالاً لقول الله تعالى:

ـ {{ع94س71ش91ن1/س71ش91ن221} [الإسراء: 19].

ـ {{ع94س24ش02ن1/س24ش02ن222} [الشورى: 20].

ولم يكن في مجالس الشيخ ما يكون في مجالس الطرق الصوفية من مظاهر وتقاليد، بعضها مفيد وبعضها ضار، والكثير منها ممّا يدخل ضمن البدع المذمومة التي تتنافى مع قيم الإسلام وتغيب مفاهيمه الراقية والسامية في سموّ السلوك والتطلع إلى الكمال، وبخاصة فيما يتعلق بعادات الغناء والطرب والسماع على نفحات الدفوف والمواجيد المفتعلة فقد كانت مجالسه بعيدة عن هذه المظاهر وكان ينفر منها ولا يشجِّع عليها ويعتبرها من مظاهر غفلة القلب، ولا شيء أضر على القلب من الغفلة، وكانت كلمة «الغفلة» من المصطلحات التي تتردد في أحاديثه كثيراً في موطن الذم، وكان يردد الكلمة التالية: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» ويريد بذلك التنيبه إلى خطورة الغفلة على يقظة القلب، فالقلب الغافل عن الله محجوب عن أنوار الله، وكان يخاطب إخوانه بأن يكونوا معه في قلوبهم لا بأجسادهم، ويطلب منهم أن يكونوا مع الله كيف شاؤوا فإن الله لا ينظر في صورهم وإنما ينظر في قلوبهم، فإن وجدها طاهرة نقيّة صادقة كانت موطئاً لرحمته.

وبالرغم من هيبة مجالسه وجلالها فقد كان يباسط بعض إخوانه ممن اشتهروا بالطيبة والفطرة النقية والصفاء النفسي، ويداعبهم بكلمة رقيقة ويسألهم عن أمرهم ويقرِّبهم من مجلسه ويخصُّهم بمحبته فيفرحون لذلك ويبتهجون.

واذكر رجلاً من أتباعه اسمه محمد زهرة وكان رجلاً طيباً يعمل في كروم الفستق يقلِّم أغصانها، وكان يعرف القليل من القراءة ويحمل دائماً تحت إبطه «متن الأجرومية» الكتاب المشهور في علم النحو، وكان يحاول أن يحفظه ويشتاق أن يدرس الفعل والفاعل والمفعول، فكان الشيخ إذا رآه في مجلسه دعاه إلى قربه، وأخذ يسأله عن حفظه لمتن الأجرومية فيحدِّثه عن حفظه لبعض سطورها، فيشرح له الشيخ معاني تلك الجمل، ويسمعها منه ببشاشة وتبسُّط، كما كان يباسط أحد إخوانه وهو من الصالحين الاتقياء من أهل الفطرة النقية ومن أسرة مشهود بها بالولاية وهو الشيخ عمر الملاحفجي، ويغلب عليه الصفاء والتعلق بالصالحين، فكان الشيخ يبتسم إذا رآه، ويسأله عن أحواله.

ثم يعود المجلس إلى جلاله وهيبته، الشيخ يتكلم والكل منصت يتغذى بغذاء الروح، وتمضي الساعات ـ وغالباً في الأمسيات ـ إلى النصف الثاني من الليل.

ما أروع تلك المجالس التي شهدتها في طفولتي الأولى عندما كنت في السابعة من عمري إلى سن العشرين، ولم أتخلَّف عنها قط، ولم أكن أفهم الكثير من أفكارها، ولكنني كنت أشعر بالسكون النفسي المخيِّم على تلك المجالس الروحية التي تشعُ منها أنوار الحق، فأرضع من لبانها ذلك الشهد المصفَى من القيم الإنسانية التي ما شعرت بنورها في نفسي فيما استقبلته فيما بعد في حياتي العلمية، وكأنَّ ذلك الشهد هو المداد الذي غذَّى في كياني تلك الشعلة التي أنارت لي الطرق المظلمة، وعبَّدت لي دروب العلم وطرائق التحصيل، فكنت أشتاق إلى تلك الأيام كشوق الأطفال إلى الحضن الدافىء الذي احتواهم في ليالي الشتاء الباردة.. ذلك شوق يزداد في نفسي توهُّجاً مع تقدم الأيام وتوالي السنين.

كانت الجلسة تبتدىء بعد صلاة المغرب في دار أحد الإخوان، ويحضرها عدد بين العشرين والثلاثين، وتكون غالباً في دار واسعة تضم قاعة واسعة أو على سطح دار في ليالي الصيف الحلبية ذات النسائم الجميلة حيث يفرش السطح أو الفناء الخارجي بالسجاد العجمي والأرائك المريحة، وتبتدىء مجالس المذاكرة بعد أن يستقر أمر المجلس، ثم يستعد الجميع لتلك المذاكرة الروحية بعد قضاء يوم من الأعمال الدنيوية في تجارة أو صناعة أو زراعة، وكل من في المجلس خادم ومخدوم، ويفرح بأن يخدم غيره، وأن يوفر له أسباب الراحة ولو كان أقلَّ منه منزلة، فلا تفاوت في مجالس الشيخ بين غني وفقير وقوي وضعيف وتاجر وعامل، والكل يجد في خدمة الآخر تربية وتهذيباً وتقرُّباً إلى الله، فهناك من يتفرَّغ لإعداد الشاي وتقديمه، وهناك من يتفرغ لخدمة المجلس ومساعدة رب الدار، جلسة أسرية جماعية تخيم عليها المحبة والإيثار، والتآلف وخدمة الآخر، لا تفريق بين أخ وآخر، والكل سواء، وأقربهم إلى الشيخ أكثرهم محبة لإخوانه وخدمة لهم، ويجلس العلماء في مكان قريب من الشيخ، تكريماً للعلم ورموزه، وهذه من توجيهات الشيخ وأخلاقيات التربية الصوفية، والتواضع صفة راسخةَ في هذه المجالس، فلا مجال فيها للترفُّع والتكبر والعجب، وهذه من أمراض القلوب، والقلوب المريضة محجوبة عن الحق وأنوار الحقيقة.

ويتناقل الإخوان هذه المذاكرات الروحية، ويروي الحاضر للغائب ما سمعه من الشيخ، ويتذاكرون في معانيها ومفاهيمها، ويحاسبون أنفسهم إذا حدث تقصير في سلوكهم أو تغيّر في قلوبهم، ويعين بعضهم البعض الآخر على التواصي بالحق والرحمة، فإذا غاب أحدهم عن هذه المجالس لغير عذر سارع إخوانه إليه يعينونه على أمره، ويوقظونه من غفلته، وأغلب ما يشغل المريد عن مجالس المذاكرة انصرافه إلى الدنيا وانشغاله بأمرها، طلباً للربح وطمعاً في الكسب، فيصرفه ذلك عن آخرته، والدنيا شاغلة لمن يحبُّها ومستعبدة لمن يتعلَّق بها، والويل لمن استسلم لبريقها وغرق في بحارها.

ولا شيء أحبُّ عند المريد الصادق من هذه المجالس الروحية التي تحرره من عبودية التعلق بأعراض الدنيا، ويطير في الفضاء محلِّقاً يطل من علٍ على مستنقعات الدنيا، ومنزلقاتها وما تورثه في النفس من ظلمة وكآبة وآلام وأحزان، ويتطلع إلى الشاطىء البعيد الأخضر بأشجاره وزهوره، وكأنّه يطلب الغوث والمدد يجتاز به تلك الموجات العاصفة والصحراء القاحلة.

إن هؤلاء الذين يبحثون عن المجالس الروحية والمذاكرة التي تحيي القلوب ويجدون فيها أُنسهم وسعادتهم لا يبحثون عن وهم وسراب، وليسوا من ناقصي العقل والإدراك، فهم رموز قوة في مجتمعهم، وهم أصحاب دهاء وخبرة في مجال الدنيا، لا يُشقُّ لهم غبار، ولا يمكن أن يتهموا بالقصور والعجز والكسل، فهم في النهار رجال تجارة ورواد في مجال اختصاصهم، فما يدفعهم إلى هذه المجالس الروحية هو شوق غريزي إلى الدفء الذي يحسُّون به والشعور بالتحرر من عبودية الدنيا، والتحليق في فضاء واسع يشعرهم بعظمة الكون والارتحال منه إلى خالق الأكوان.

إنَّ الشعور بالأنس والسكون والطمأنينة القلبية هو ثمرة هذه المجالس، وإذ يثمر هذا الشعور استنارة في القلب، وشعوراً بالتحرر من العلائق الدنيوية، وسيطرة مطلقة على الخوف الذي يسكن أعماق النفس الإنسانية، فلا يشعرون بالآلام الناتجة عن المحن والابتلاءات لأنهم يؤمنون أنَّ الابتلاء من الله فيزداد صبرهم ويفتح لهم باب الأمل ويغلق باب الأنس، ويعملون ولا يخشون من الفشل والخسارة، لأنَّ الرزق من الله، وقد تكفَّل الله لهم بالرزق، وضمنه لهم.

إنَّ النفسَ بطبيعتها تتطلَّع إلى الكمال، وشوق النفس إلى الكمال شوق غريزي وفطري، ولا تتحقق السعادة الكبرى إلاَّ ببلوغ النفس كمالها، وكلما حققت شيئاً من هذا الكمال شعرت بالسعادة والسرور.

وكل مخلوق في الوجود يبحث عن كماله الذاتي، لأنَّ الكمال يعني الانتقال من نقص إلى كمال، والحياة نمو والنمو لابدَّ إلاَّ أن يتَجه إلى الكمال النسبي.

والنفس في حركتها الذاتية تبحث عن أسباب كمالها المادي والمعرفي، فالغذاء سبب للكمال وتشتاق النفس إلى الغذاء، والمعرفة كمال للنفس وتشتاق النفس إلى المعارف وتجد لذّتها وسعادتها في تلك المعارف.

( الزيارات : 829 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *