المدرسة والمستقبل

المدرسة والمستقبل

الكلتاوية

أنشأ الشيخ المدرسة لتحقيق أهداف محددة، وهي تكوين العلماء القادرين على أداء دورهم الثقافي والتربوي في المجتمع لتمكين القيم الإسلامية في النفوس والارتقاء بمستوى السلوك الإنساني وتصحيح المفاهيم الإسلامية الخاطئة وإعطاء العلماء دوراً في تأصيل العادات الاجتماعية وتصحيحها عن طريق المناهج العلمية السليمة، فالجهل لا يقاوم إلا بالعلم والثقافة وأمية المجتمع لا يمكن التغلب عليها إلا بإعادة الاعتبار لدور الثقافة والفكر في تصحيح العادات والسلوكيات والقيم السائدة.

ليست الغاية من بناء مؤسسات العلم الشرعي تكوين خطباء وواعظين وأئمة ومفتين، وإنما الغاية تكوين الإنسان المؤهل للقيام بهذه المهمات، والإنسان هو المنطلق لكل إصلاح فالتخلف في المجتمع ليس وليد نقص أعداد العلماء والخطباء وإنما هو وليد تخلف الإنسان الذي توكل إليه مهمات التكوين والتربية، فالإنسان هو الذي يرتقي وينحدر فإما أن يرتقي بإدراكه السليم لمعنى العلم وإما أن ينحدر بعلمه، فيستخدمه في غير المهمة التي جاء العلم لتحقيقها وهي تعزيز القيم الإنسانية في المجتمع ومقاومة العادات والسلوكيات الخاطئة وتحرير المجتمع من قبضة الجمود والتخلف والجهل، فليست الأمية هي الجهل بالقراءة والكتابة وإنما الأمية هي الجهل بأهمية دور الفكر والثقافة في نهضة المجتمع من القيم الجاهلية وتتمثل جاهلية هذا العصر في رفض التصحيح والتنوير والتغيير، والمعرفة هي الخطوة الأولى في التصحيح ولا تصحيح بغير معرفة، والعلماء هم المؤهلون لدور التصحيح والتنوير، فإذا كرس العالم القيم الفاسدة ودافع عنها فقد قام بدور التجهيل وليس التنوير، والتصحيح يحتاج إلى إرادة ويتطلب التضحية ولابد إلا أن يقاوم لأنه يتصدى لعادات راسخة وقيم متحكمة في المجتمع.

وتميز الإنسان عن الحيوان بما خصه الله به من أسباب التميز الفكري والإدراك وقابلياته غير المحدودة لتمييز الأشياء النافعة والضارة والصالحة والفاسدة، ومعرفة الحق والباطل والأصل في العالم أنه الأقدر على الفهم والإدراك والتمييز لأن العلم الذي اكتسبه ينير له الطريق ويمكنه من اكتساب المعارف الجديدة.

فالعقل الغريزي يملكه الأطفال والكبار والجهال والعلماء والحكماء والسفهاء، أما العقل المستنير القادر على التمييز فيختص بالعلماء والحكماء، ولذلك تميزوا به عن غيرهم فهم في مواقف الغضب حكماء وفي مواقف الطمع نزهاء لا يحقدون إذا حقد الجهلاء، ولا ينحدرون في سلوكهم إلى مستوى السفهاء، يدافعون عن الحق في المواقف الصعبة ويتحالفون مع المستضعفين ممن أذلهم الظلم وأدمت القوة الطاغية قلوبهم.

ليس العالم من تحالف مع الأقوياء ضد الضعفاء وليس العالم من استخدم خصائصه للدفاع عن الباطل، أو استخدم قلمه وبيانه لتبرير المواقف الخاطئة، وإنما العالم هو الذي يدفعه علمه للدفاع عن الحق والعدالة والحرية والمساواة لكي تكون حقوق الإنسان محترمة ومقدسة ومحصَّنه، فلا إنسانية لمن لا كرامة له، ولا كرامة لمن لا حرية له، ولا حرية للمستذلين بسبب الفقر والحاجة ولا يمكن للعالم أن يقول كلمة الحق التي يؤمن بها إلا أن يتحرر أولاً من ذلك القلق المذموم بالدنيا وزينتها، فلا يطمع في مال أو منصب أو جاه، فإذا تحرر من هذه القيود زال الخوف من قلبه، فالخوف مصدره الطمع، ومن تحرر من طمعه فلا يخاف مما يمكن له أن يفقده، وعندئذ يتحيز العالم لمحور المستضعفين والمستذلين ويدافع عن حقوقهم في الكرامة والحرية، وما جاءت الدعوة إلى العلم إلا لمقاومة الجهل في المجتمع، والعلم الذي لا يقاوم الجهل ليس علماً، والعالم الذي لا يقاوم الجهل ليس عالماً، والعالم الذي لا يؤدي رسالته العلمية في التنوير والتصحيح لا يعدّ عالماً، ومن أهم وسائل التنوير أن يفرق المجتمع بين الصادقين وغير الصادقين من العلماء، فمن عامل الله تعالى من غير تطلع لمصلحة ذاتية فهو صادق، ومن عمل لنفسه لتحقيق منفعة شخصية فهو غير صادق، ولا يجوز لمؤسسات العلم أن تنعزل عن المجتمع وأن تعيش في أبراجها العالية المقفلة، فالجندي الذي لا يقف في ساحة المواجهة لا يؤدي مهمته التي أُعِدَّ لها، والطبيب الذي لا يعالج المرضى لا يقوم بعمله، والعامل الذي لا يقف ـ مصنعه كل صباح لا يؤدي مهمته والأم التي لا ترعى أطفالها لا تقوم برسالتها، وكذلك المؤسسات العلمية لابد أن تقوم بدور التعريف والتنوير ومقاومة الجهالة في المجتمع ولا شيء يسيء إلى الإسلام كجهل المسلمين بحقيقة دينهم فالإسلام رسالة إنسانية ذات قيم عالية تستهدف عمارة الأرض بأسباب الحياة سواء ما تعلق بها بالجهد والعمل وإحياء الأرض المَوَات واستخراج ثرواتها وكنوزها وما تعلق منها بنظام الحياة في هذه الأرض وإقامة العدل بين الخلق واحترام حقوق الإنسان في الحياة والكرامة.

والدين ليس مجرد عبادة يؤديها العبد لربه، وإنما هي صلة روحية تحقق مشاعر الإيمان في النفس لكي ترتقي النفوس في مستوى وعيها الإنساني، فتكون أكثر رحمة وأكثر أدباً، وتحب الخير وتتعلق بالفضائل، وتتكافل الإنسانية لإقامة العدل بين البشر وتتعاهد على مقاومة الظلم والعدوان.

هذا هو مفهوم الدين وهذا هو دوره في التربية والتكوين ويأتي العلم كي ترتقي مدارك الإنسان واختيار السبيل الصحيح لتحقيق هذه الأهداف الإنسانية، والعلم الذي لا يحقق هذه المعرفة ليس علماً ولابد من تصحيح مفهوم العلم لكي يؤتي الثمر أُكَله الذي ينفع الإنسان وينهض بأمره.

وأهم هدف لمؤسسات العلم أن ترسخ القيم المرتبطة بحقوق الإنسان، فلن ينهض مجتمعنا الإسلامي إلا بالإنسان، ولن ينهض الإنسان إلا عندما يشعر بحريته وكرامته، والثقافة التي لا ترسخ قيم الحرية والكرامة ليست ثقافة وإنما هي جهالة ولا جهل أخطر على الإنسان من الجهل بحقوقه الإنسانية، فكرامة الإنسان هي امتداد لوجوده الإنساني، ولا وجود مادي مع انعدام الوجود الإنساني بأبعاده المرتبطة بالكرامة والحرية.

وعندما تصبح مؤسسات العلم الإسلامية معاقل إنسانية تدافع عن الإنسان وتحمي حريته وتوفر له كرامته ستكون جديرة بالرسالة المنوطة بها، وستكون عندئذ مصدراً للتنوير تضيء ما حولها، هذه هي رسالة المؤسسات العلمية في إخراج الناس من الظلمات إلى النور ومن عبادة الطاغوت إلى عبادة الله ومن مذموم الصفات إلى محمودها ومن سيطرة الأهواء والشهوات إلى تزكية النفوس ومن الأنانية إلى الإيثار ومن العجب والكبر إلى الألفة والتواضع، ومن الأحقاد والأطماع إلى السماحة والنزاهة والعفة.

ويجب أن تكون مؤسسات العلم في قلب المجتمع تحركه وتوجهه وتقوده، تشعر بآلامه ومشاكله وتقف إلى جانبه لتمسح دموع البؤساء بالعدل الاجتماعي والتوزيع العادل فتعيد البسمة إلى وجوه المستذلين والمستضعفين بالانتصار لهم ومقاومة الظالمين.

وبفضل هذا يكون العلم رسالة عظمى، غايتها تكوين إنسانية متكافلة متناصرة، تحمي الضعفاء وتؤازرهم وتقاوم رموز الشر في المجتمع الإنساني، ومنابر العلم هي منابر للحق والعدل والفضيلة فما رفعت إلا لأن الله رفع مكانة العلماء في القلوب بشرف رسالتهم، والعلم الذي لا يحقق هذه الغاية لا يختلف عن الجهل في شيء فليس العلم مجرد معرفة بالحق وإنما هو عمل بما تقتضيه تلك المعرفة، فمن لم يعمل بما يعلم فلا فائدة من علمه، بل علمه حجة عليه، ويعذر الجاهل بالتقليد ولا يعذر العالم.

ومدرسة الشيخ في الكلتاوية بين خيارين : إما أن تكون مدرسة مثل بقية المدارس الشرعية وهي كثيرة، تكتفي بدور تقليدي من التعليم والتكوين وتحافظ على تراث الشيخ كما كان، لكي تبقى أثراً من آثاره، وإما أن تختار دوراً أكثر أهمية وتتميز عن غيرها بمنهجية رائدة تجسد من خلالها طموح الشيخ وآفاق فكره في شموليته واتساع رؤيته، وهذا خيار شاق وصعب، لأنه يحتاج إلى إرادة جادة وسعة في الرؤية والأفق وانفتاح على الفكر والثقافة ويحتاج هذا لجهد مضاعف في تلمس الطريق وتحقيق المطامح.

لعل الخيار الثاني هو الخيار الوحيد للاستمرار المفيد، كي تتميز هذه المدرسة بخصوصيتها حتى تكون مركز إشعاع ثقافي، فمؤسسات العلم تبقى باستمرار بأداء دورها في المجتمع، وتغني عندما تنطفىء شعلة العطاء فيها، فلا تجد من يستظل بنورها عندما يجد أن نورها خافت لا ينير ما حوله.

ما زال الأمل قائماً في أن تجد هذه المدرسة طريقها إلى الغد لتطل معه على واقعها ومحيطها، ولابد إلا أن تفتح النوافذ المغلقة لكي يطل أبناء المدرسة على الحقول الخضراء المحيطة بها، ففي تلك الحقول أزهار وورود ونسمات مساء عليلة والنفوس وإن تطلعت إلى الكمال فهي تستلذ ما تأنس به النفوس من جماليات الربيع الحسناء، ونفحاته الدافئة.

لا ينبغي أن نخاف من الهواء العليل أن يحمل معه بقايا غبار الحقول، فالصدور التي تعتاد على مقاومة الغبار لا تخشى من أخطاره، ويكمن الخطر في الصدور التي لم تعزز مقاومتها باللقاحات المعتادة لها ولمحيطها الخارجي وهو خيار صعب لأجل البقاء والاستمرار.

 التجديد في المناهج والتفتح على الأفكار والثقافات، والفهم العميق لرسالة العلم في إغناء المعرفة الإنسانية تلك هي مقومات الحياة، فالحياة نمو دائم وتطلع مستمر إلى الكمال، لأن الحياة مستمرة، ولابد من التجدد والانفتاح مع الثبات والعزيمة لأجل استمرار الحياة. 

( الزيارات : 741 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *