المدرسة والهدف

المدرسة والهدف :

الكلتاوية

 عندما رحل الشيخ إلى رحاب الله كانت المدرسة في بداية عهدها، كانت الأفواج الأولى قد تخرجت، ثم تتالت بعد ذلك مواكب الخريجين بحيث لم تتوقف مسيرة المدرسة، ولم تضعف إرادتها، وهذا ما يميز العمل العلمي عن غيره، فكل بناء يتقادم مع الزمن، وكل شيء لابد إلا أن تعتريه ملامح الشحوب والهرم، ما عدا الجهد العلمي وتكوين الأجيال، إنه يثمر باستمرار، والغصن الذي يشيخ يسقط بنفسه، لكي ينبت غصن جديد، فتي قوي، يصعد في الفضاء الفسيح وكأنه يتحدى الزمن.

في كل عام جيل جديد يأتي، ولابد إلا أن تكون مقاعده خالية، والجيل الشاب تنمو عضلاته ويشتد عوده، وينتقل من مقاعد الدراسة إلى مقاعد التدريس، يؤدي المهمة التي أُعدّ لها، إنها المهمة التي تنتظر كل طلاب العلم بعد أن يستكملوا تكوينهم.

سيفرقهم الزمن، وسوف يباعد بينهم في المكان، وقد يشغلهم ما هم فيه من أمور دنياهم وشؤون معاشهم، إلا أنهم يجب ألا ينسوا المهمة التي أعدوا لها فأمر المعاش اهتمام مشروع، إلا أنه يجب ألاّ يشغلهم ذلك الانشغال الذي ينسيهم الأمل المعقود عليهم والغاية المرجوة منهم.

وفاؤهم للشيخ هو وفاء للعهد الذي قطعوه على أنفسهم أن يسيروا على الطريق الذي رسمه لهم وربّاهم عليه، وهو أن يخلصوا النية لله تعالى وأن يكونوا المثل الأعلى الذي يقتدى به، فإنهم لن يستطيعوا أن ينافسوا الآخرين بعلمهم ولا بفصاحتهم وإنما يستطيعون أن ينافسوهم فيما اختصوا به من رعاية حقوق الله والالتزام بآداب الشريعة والتميز بحسن الخلق وطهارة باطنهم وما تنطوي عليه قلوبهم من محبة الله وإيثاره على كل شيء، وإنهم بذلك سيكونون أوفياء لشيخهم يحيون مدرسته بالفكر المتميز الذي اختصت به تلك المدرسة إذ لم تكن مدرسة الشيخ مدرسة تقليدية، ولو كانت كذلك لما تميزت عن غيرها، ولم تكن مدرسة الشيخ مدرسة جامدة منغلقة منعزلة، ولو كانت كذلك لما استطاعت أن تخاطب المجتمع وأن تنجب رجال الفكر ورموز العلم والمعرفة، وإنما هي مدرسة ذات خصوصيات متفردة، سواء على مستوى السلوك الأخلاقي أو على مستوى الوعي الإنساني الذي يتطلع إلى الكمال، ويجد في ذلك الكمال الأفق الأسمى للتربية الإسلامية.

إن العلاقة التي تقررها مدرسة الشيخ بين الإنسان والكون هي علاقة تكامل وتسخير، فقد خلق الله الإنسان لكي يكون خليفته في الأرض، يقيم فيها حكم الله الذي يدعو إلى إقامة العدل بين الإنسان وأخيه الإنسان والتراحم بين الخلق ومقاومة الظلم والطغيان والفساد عن طريق التغلب على الأهواء والميول الغريزية ومجاهدة طبائع النفس الأمارة بالسوء بالتخفيف من تعلق الإنسان بالدنيا وزينتها والتعلق بالآخرة لكي تكون هي المرغوب فيه الذي يستأثر بقلب الإنسان، ومن استأثر حب الله ـ قلبه آثره على كل ما عداه مما يحرر الإنسان من التعلقات التي تنمي فيه روح الأنانية وتدفعه لمغالبة المستضعفين في الأرض من عباد الله الذين أقر الله لهم بحقوقهم الإنسانية كاملة غير منقوصة، فمن اعتدى عـ هؤلاء المستضعفين بالقهر والإذلال والظلم فقد تحدى إرادة الله وخالف أحكامه.

ولا يمكن أن يتحقق السلام في الأرض إلا بالعدل بين البشر، ولا يتحقق العدل إلا بإصلاح فساد النفوس بالتزكية والمجاهدة، وتزكية النفوس لا تتم إلا بطهارة القلب عن الخواطر المذمومة التي تعدّ الباب الرئيسي للشرور والآثام والمطامع والأحقاد، ولا يستقيم سلوك الظاهر إلا بصلاح الباطن، فمن صلح باطنه استقام ظاهره ومن استقام ظاهره كان الخير مرجواً منه. إن طبائع التغالب والتدافع بين البشر أمر غريزي وهو حتمي، ولا يستقيم أمر البشر إلا بالتحكم في تلك الطبائع بتحرير النفوس من الغرائز والأحقاد والمطامع، وذلك بتحرير القلب من التعلق الغريزي بالدنيا ومغالبة المستضعفين في حقوقهم الإنسانية بالقهر والإذلال والتنكر لما هو مشروع من حقوقهم في الكرامة والحرية والمساواة.

لم يكن الزهد في الدنيا صفة سلبية إلا عند الجهلة الذين لا يفهمون ولا يعقلون، فالزهد قوة للزاهد وتحرير له من العبودية التي تدفعه للذل تحت تأثير الطمع والتعلق بالدنيا، فمن زهد في المال فهو الأقوى لأنه يرفض الذل الذي يدفع إليه الطمع، ومن زهد في المناصب فهو الأقوى لأنه يرفض المنصب الذي يذله، ومن زهد في الدنيا وآثر الآخرة فهو المقاتل الأقوى الذي لا يخشى الموت، ويؤثر الله على ما عداه، والشعوب التي تزهد في الحياة هي شعوب لا تستسلم أبداً، لأن الاستسلام مبعثه الحرص على الحياة، والذل مبعثه الحرص على الدنيا، فيقبل الذل طمعاً بالمال أو المنصب أو الجاه.

والتاجر الزاهد هو الأعز بتجارته، لأنه لا يدفعه الطمع لإذلال نفسه والسياسي الزاهد تأتيه المناصب طائعة مستذلة لأنه معرض عنها إذا أذلته والمقاتل الزاهد في الحياة هو الأكثر شجاعة وإقداماً، والزهاد لا يقبلون الذل لأنهم غير طامعين، ولا يرضخون لباطل لأنهم ليسوا خائفين. وكان الشيخ يقول إننا بحاجة إلى مزيد من الفهم أكثر من حاجتنا إلى مزيد من العلم، والفقه هو الفهم، ومن لم يفهم حقائق الأمور فقد جهل الكثير. وأخشى ما أخشاه ألا يفهم كلام الشيخ على حقيقته فيحتج بظاهر كلامه على ما يخالف روح أقواله، والأقوال لا تفهم إلا من خلال النظرة الشمولية التي تجسد الرؤية الإنسانية العميقة، فما يخاطب به العامة يختلف كلياً عما يخاطب به العلماء، ومن الضروري فهم الأقوال والأفعال في إطارها الزمني الذي يتحكم فيها، فالكلمة تقال لكي تفهم، ولا تفهم ما لم تستوعب طبيعة المخاطبين وتراعي خصائصهم في إطار القيم الاجتماعية السائدة.

( الزيارات : 757 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *