تساؤلات ملحة

تساؤلات ملحة :

كان هناك سؤال يتردد على الأفواه ويعبر عما في القلوب من تساؤلات .

ماذا كان الشيخ  يريد أن يحققه عن طريق هذه المدرسة؟

هل يمكن بهذه المدرسة الصغيرة أن يصلح المجتمع وأن يتحكم في مساره…؟

ويكمن الجواب في مسلمات أولية لابد من معرفتها لفهم منهج الشيخ في الدعوة والإصلاح.

وأول هذه المسلمات ما يلي:

أولاً:

لم يكن السيد النبهان رضي الله عنه رجل سياسة يعمل لإعداد تنظيم حزبي يحقق له مطامحه في السلطة والنفوذ، لم يكن هذا وارداً في ذهنه، ولا مستحباً، هذه نظرة دنيوية ومصلحية عاجلة، كان السيد النبهان رضي الله عنه رجل دعوة وتربية، يريد أن يلقى بذور الخير في الأرض لكي تنبت، فيجني المجتمع قطوفها ويأكل من ثمرها.

 ثانياً:

لم يكن السيد النبهان رضي الله عنه يعمل وفق مخطط مدروس محكم، تنفذ مراحله بدقة، ويسهر الساهرون على تنفيذه للوصول إلى النتائج المرجوة، وإنما كان يعمل من منطلق الإيمان بأن الله تعالى هو الخالق والمدبّر، وأن الله تعالى قد «اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بان لهم الجنة»، وأن العبد لا يملك أمر نفسه، ولا يملك أمر التدبير والتخطيط، فالله هو قيوم الأرض والسماء، وتتمثل مهمة العبد بالقيام بما هو مكلف به بالأمر والنهي مما يجسد معنى العبدية لله تعالى، والتدبير ينافي التسليم لله تعالى والرضا بما يختاره للعبد، والتدبير المحمود هو الذي يشغل القلب عن ربه، فمن شغل بالتدبير عن الله تعالى فقد شغل بالدنيا وهي دار ابتلاء وامتحان ولابد في أي عمل من إغفال حظوظ النفس، لكي يكون العمل لله وليس لإرضاء النفس، لأن العبد في رعاية الله ما دام مفوضاً أمره لله تاركاً أمر التدبير لما اقتضته الحكمة الإلهية.. ذلك هو منهج السيد النبهان رضي الله عنه في أي عمل من أعماله ولا يمكن تصور أي منهج مغاير لهذا المنهج الذي كان يعبر عنه في كل موقف في مسيرته المباركة، في حياته الشخصية أو في عمله العام، لم ينسب لنفسه أي عمل أو نجاح، كان يؤمن أن الله تعالى هو المتولي لأمر مملكته بالتسيير والتدبير.

ثالثاً:

 لم يكن السيد النبهان رضي الله عنه يريد من العلم الحصول على الإجازات العلمية للتفاخر بها والتباري بقيمتها العلمية، وما يمكن أن تحققه للنفس من شعور بالفخر والتميز، وإنما كان يريد العلم لذاته، العلم الذي يقود إلى المعرفة، والمعرفة التي تثمر محبة الله وإيثاره على كل ما عداه، وعدم الانشغال بكل ما يشغل القلب عن الله، وكان يقول نحن نريد العلم لكي نحسن الأدب، والعلم الذي لا يعلم صاحبه الأدب لا ينتفع به، وقليل من الأدب خير من كثير من العلم، فلا خير في علم لا يثمر أدباً، والأدب الذي يثمره العلم يدفع صاحبه لإصلاح باطنه، فمن أصلح ظاهره ولم يصلح باطنه فهو جاهل بما يهدف إليه العلم، والعلم هو ذكرى لمن كان له قلب يستمع لكلمة الحق، وأول آثار العلم خشية الله، ومن صفة العلماء أنه إذا ذكر الله وجلت قلوبهم.

كان السيد النبهان رضي الله عنه يشبه العالم بالشمس تضيء ما حولها وهي مضيئة لأن ضوءها مستمد من ذاتها، بخلاف القمر فهو يضيء ما حوله وهو مظلم، فإذا انقطع النور الذي يمده أصبح مظلماً، والعالم يجب أن يكون ذا بصيرة ذاتية لكي يتمكن من تبصير غيره.

لم يكن السيد النبهان رضي الله عنه يريد زعامة أو رئاسة أو شهرة، بل كان زاهداً في كل ذلك، حيث لم يشغله الزهد في هذه الأشياء، وإذا ما سمع أي حديث في هذا كان يعرض عن ذلك الحديث، وكأن الأمر لا يعنيه شيئاً، ولابد من الإعراض، والإعراض لا يتحقق إلا بالزهد الصادق، قال تعالى: {قل الله ثم ذرهم في ظغيانهم يعمهون} [الأنعام: 91].

وكبرت المدرسة واتسعت وكبر الحلم الكبير، كان السيد النبهان رضي الله عنه يرى في ملامح هؤلاء الطلاب السواعد القوية التي ستحمل المسؤولية يوماً لإعلاء كلمة الحق، كان يرعاهم ويأخذ بيدهم، إذا ضاقت السبل كانوا يجدون في صدره ذلك الحب الذي يعيد إليهم الابتسامة والفرحة وأصبحت الكلتاوية هي المدرسة بكل الآمال المعقودة عليها.

وبدأت مواكب الخريجين من أبناء المدرسة تملأ رحاب الكلتاوية تجمعهم ألفة ومحبة ومودة، فأصبحوا هم العمود الفقري للكلتاوية بل صاروا امتدادها التربوي والروحي خارج نطاق موقعها الجغرافي، لغتهم واحدة، فقد يختلفون في الاستعدادات والقابليات والاهتمامات إلا أن من اليسير أن يدرك الملاحظ اللغة التي تجمعهم وتوحدهم.

تخرجت الأفواج الأولى من المدرسة في حياة السيد النبهان رضي الله عنه، كانت سعادته بهم كبيرة، أرهقه المرض في أواخر حياته، ولكن لم يمنعه من لقاء أبنائه من طلاب العلم الذين كانوا بالنسبة له الشعلة التي ستظل مضيئة وسوف يزداد توهجها، ومن الطبيعي أنهم سيتفرقون، إلا أن قلوبهم سوف تبقى مشدودة إلى الكلتاوية وسوف يظل وفاؤهم كما كان، يحنون إلى ذلك الصدر الذي كان يضمهم ويرعاهم.

كلمات السيد النبهان رضي الله عنه ما زالت في صدورهم، إنها البذور في الأرض لا تموت أبداً وستخرج كل بذرة غرسها في موعده، فما زالوا يذكرون في مجالسهم ذكريات الأمس ويقرؤون كتب السيد النبهان رضي الله عنه المخزونة في قلوبهم والمستودعة في ذاكرتهم، إذ كل فرد منهم يحتفظ بما سمعه وبما رآه، ذلك هو كتاب الشيخ…

وهذا هو فكره وتلك آراؤه… وكل منهم يفسرها كما فهمها، فمنهم من يرى فيها ظاهر دلالتها اللفظية، ويتمسك بما سمعه من أقوال وما شاهده من أفعال، ومنهم من يرى فيها روحها ومقاصدها ودلالاتها فيتمسك بما فهمه وما وصل إليه من معان ودلالات، وكل على حق فيما أخذه واستنتجه، وكل مصيب فيما نقله ورواه والسيد النبهان رضي الله عنه هو هذا وهذا، وكل قد أخذ منه ما فهمه، وليس من حق أحد أن يدعي أنه يمتلك الحق وحده دون غيره، فذلك تقييد وتحديد وتضييق، ولا تدرك الحقيقة إلا بالإحاطة بكل أطرافها .

( الزيارات : 1٬411 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *