جمعية النهضة الخيرية الإسلامية

جمعية النهضة الخيرية الإسلامية

جمعية النهضة

البعد الإنساني لدى الشيخ :

أهم ماتميزت به شخصية الشيخ رحمه الله هو ذلك البعد الإنساني الذي كان يدفعه دائماً لحب الخير للآخرين ، والشعور بآلامهم وأحزانهم فقد كان صدره رحباً بكل الضعفاء والفقراء والأيتام والمسنين والعجزة والأطفال ، وكان يفكر فيهم ويسعى بكل جهده لكي يمسح قلوبهم بالكلمة الطيبة  ،وكان يفكر فيهم ويسعى بكل جهده لكي يمسح قلوبهم بالكلمة الطيبة والمساعدة المادية والصدر الرحب الذي كان يستقبلهم به .

اشتهر الشيخ بهذه الخصوصية ، وكان يخصص الجزء الأكبر من وقته لهؤلاء المحتاجين ، لايردهم عن بابه وإن أثقلوا عليه ، ولم يكن في ذلك متكلفاً ، لم يكتف بالعطاء المادي ، وإنما يسألهم عن أحوالهم ، ويقف معهم حتى النهاية ، وكأن قضيتهم هي قضيته ، فمن كان مريضاً أشرف على مرضه وتابع أمره ، ومن كان فقيراً بحث له عن عمل يكسب منه رزقه ، ومن كان يريد قرضاً أقرضه ، ومن كان فقيراً بحث له عن عمل يكسب منه رزقه ، ومن كان يريد قرضاً أقرضه ، ومن كان في خلاف مع الآخرين بسبب مال تحمل من الأعباء مايدفع ذلك الخلاف .

كان يحب الناس ، من أحسن إليه ومن أساء ، من كان قريباً منه ومن كان بعيداً عنه إذ لم يحمل في قلبه حقداً قط على آخر ولو أساء إليه ، ولم يتكلم بسوء عن أحد ، وكأنه كان يلتمس العذر للناس فيماهم فيه .

ويقول فيمن خاصموه وأظهروا له العداء ، لو عرفوني لما خاصموني ، إنما يخاصمون من يتصورون فيه السوء ، وهم يعادون ذلك الشيء السيء الذي اعتقدوه ، ومن واجبنا أن نفتح قلوبنا لهم لكي يكتشفوا الحقيقة ، وعندئذ سوف ينتقل عداؤهم إلى صداقة ومحبة .

‏وكان يحب أن يكسبه أعداءه بالإحسان إليهم والترفق بهم لكي يزيل ما في نفوسهم من كدورة وأوهام ، حتى يصبحوا إلى أصدقاء ومحبين ، ويردد في مجالسه أن القلوب الطاهرة والصافية يجب أن تصدر عنها الأفعال المحمودة ، ‏ولا تصدر عنها إلا ما هو موجود فيها ، فإن كانت صافية أخرجت الحب والمودة ، وإن كانت مملوءة بالأوساخ أخرجت الروائح الكريهة .

‏ولم تكن الفضائل في نظره مجرد سلوك فردي في إطار علاقة الإنسان بذاته ، وإنما هو سلوك اجتماعي يتمثل في إطار علاقة الإنسان بمجتمعه

‏فالفضائل تظهر في إطار الاجتماع الإنساني وتتمثل في محبة الآخرين والتعاطف الفعلي معهم ومعاونتهم على التغلب على آلامهم .

‏وفعل الخير يجب أن يكون محركه حب الخير ، ولأجل الخير ، وليس لما ينتج عنه لصاحبه من مصلحة أو لذة ، فإذا كان الخير لأجل مصالح تعود على فاعل الخير فهذا لا يختص به الأخيار من الناس ، وإنما يشارك فيه الأ خيار والأشرار لوجود النفع الذي يعود منه على فاعل الخير ، أما فعل الخير لمحبة الخير فهذا فعل لا يقوم به إلا الأ خيار ، لأنهم يعبرون به عن طبيعة الخير في نفوسهم ، فهم لا يألفون غير الخير ولا يصدر عنهم إلا ما يليق باستعدادهم للخير ، فليس النفع هو مسبب الخير ، وإنما الخير لأجل الخير ، وهذه درجة أخلاقية عالية يختص بها من أشرق نور الله في قلبه فحبب إليه الخير ووجهه إليه ، وجعله مطية للأعمال الصالحة .

‏والخير مطلوب لذاته لأنه محبوب للفطرة ويستجيب لما في النفس من استعداد لفعل الخيرات ، فمن صدر عنه الخير بتكلف فلا يوصف بالخيرية الذاتية ، ومثله في ذلك كمثل السخي الذي يتكلف السخاء والثجاع الذي يتكلف الشجاعة والعفيف الذي يتكلف العفة فهؤلاء ليسوا من أصحاب

الفضائل لوجود التكلف فيما يصدر عنهم ، والفضيلة صفة راسخة في النفس تصدر الأفعال عنها بعفوية غير متصنعة .

والأخيار من الناس هم الذين يحبون الخير لأجل الخير ولا يتكلفونه ، لوجود صفة الخير في نفوسهم بطريقة راسخة وحب الخير عطاء إلهي تستلذه النفوس المحبة للكمال .

‏هكذا كان الشيخ محباً للخير من غير تكلف ، يصادق ولا يعادي ، يعطف على المحتاجين ، ويعامل الجميع بالمحبة والمودة ، يواسي كل فرد بما يسعده ، لا يمن إذا أعطى ، يحافظ على كرامة الأخوين ، يقبل أعذارهم ولو كانوا غير صادقين .

بداية فكرة الجمعية

‏لم يكن العمل الخيري منفصلاً عن الدعوة والتربية في نظر الشيخ ، كان عمل الخير سلوكاً يومياً مألوفاً ، ولم يكن بإمكان الشيخ أن يرد من جاء إليه يطلب مساعدته في أمر سواء في مساعدة مالية أو علاج أو دين أو البحث عن عمل.

‏كان يعد نفسه مسؤولاً عن كل هؤلاء ، فإذا كان قادراً على المساعدة بنفسه قام بذلك ، وإذا كان غير قادر أبلغ المعني بالأمر بأنه لا يقدر.

‏هناك أشياء كان يمكن للشيخ أن يقوم بها وبخاصة ما كان يتعلق بعلاج المرضى وشراء المؤونة للأسر الضعيفة ، وهذا أمر يومي ومتواصل .

‏ولاحظ إخوان الشيخ أن بعض هؤلاء الذين يدعون الحاجة والفقر ليسوا صادقين ، ويستغلون حب الشيخ للخير لأخذ مساعدات لا يستحقونها ، وبخاصة وأن أعداد المحتاجين بدأ يتزايد ، ولم يكن بالإمكان تلبية هذه الرغبات ، فضلاً عن وجود أسر فقيرة هي أولى بالمساعدة .

‏وكلف الشيخ أحد إخوانه أن يتكلف بالبحث عن هؤلاء الذين يطلبون المساعدة ، فإذا تبين أنهم صادقون فيما يدعون من الحاجة تقدم لهم المساعدة الممكنة من علاج وسفر وتعليم ومؤونة ، وإذا تبين أنهم غير صادقين فلا يستجاب لهم ، وبفضل هذا الأسلوب من البحث والتحري أمكن تنظيم عمليات المساعدة ، وتخفيف العب ء عن الشيخ الذي كان يتحمل معظم المساعدات من ماله الخاص .

‏ثم تطررت الفكرة من عمل فردي يرتبط بشخصية الشيخ إلى عمل جماعي منظم ، تتم بموجبه مساعدة الأسر الفقيرة على مستوى مدينة حلب وأحيائها النائية ، ويسهم الأغنياء في تمويل هذا المشروع الخيري الواسع ، بحيث يخفف العبء على الأسر الفقيرة ويساعدها على توفير حاجاتها الضرورية .

‏إنشاء الجمعية

هذه هي البداية ..

أشرف الشيخ على إنشاء جمعية النهضة الخيرية التي كانت تعمل تحت توجيه الشيخ ، ويشرف عليها عدد من إخوانه المقربين الذين كانوا يديرون هذه الجمعية ويشكلون مجلس إدارتها واللجان العاملة فيها ، وكان معظمهم من التجار الذين خصصوا جزءاً من وقتهم لخدمة العمل الخيري الذي كلفهم الشيخ به لخدمة المحتاجين من الأسر الفقيرة في الأحياء النائية التي لايعلم بمأساتها أحد ، فكانت الجمعية من خلال لجانها المختلفة تزور تلك الأحياء وترى بنفسها مأساة هؤلاء الذين يعيشون في كهوف كالقبور المظلمة ، تفترش الأرض الجرداء ولا يأكل أطفالها إلا بقايا الطعام الهزيل ، يمرضون فلا يجدون الطعام ، ويختارون الجهل والأمية لأنهم لايجدون مصاريف الدراسة ، ويبحثون عن العمل فلا يجدون مايعملون .

بدأت الجمعية خطواتها الأولى على طريق العمل الإنساني الذي يوفر أسباب الكرامة للفقراء ، وكان الشيخ سعيداً بهذه الخطوة التي سرعان مااتسعت الآمال المعقودة عليها ، وتولى إخوان الشيخ القيام بهذه الجمعية يدفعهم شعورهم بأنهم يعملون في سبيل الله .

اختيار الإدارة لهذه الجمعية :

اختار الشيخ مجموعة من إخوانه لكي يكونوا الهيئة التأسيسية والمجلس الإداري لهذه الجمعية ، ومن أبرزهم : الحاج فوزي شمسي والحاج محمد عجم والحاج ناصر الناصر والشيخ محمد الشامي والحاج محمد محمود بادنجكي والحاج أحمد الصغير والحاج عبد اللطيف أبودان والحاج محمود الناشد والسيد حسان فرفوطي ، واجتمعت هذه الهيئة في أول اجتماع لها تحت إشراف  الشيخ الذي كلف الحاج فوزي شمسي برئاسة الجمعية ، واختارت الجمعية الكلتاوية مقراًً لها لكي تكون قريبة من الشيخ ، ووضعت قانونها الأساسي الذي حدد مهمات الجمعية واختصاصاتها ، والغايات المرجوة من إنشائها .

‏كانت الجمعية كما يدل على ذلك نظامها التأسيسي تهدف إلى تحقيق نهضة اجتماعية وعلمية وثقافية واسعة على مستوى مدينة حلب والمنطقة الشمالية من ‏سوريا ، حيث لا تتوقف عند حدود إنشاء مؤسسات التأهيل المهني للفقراء ومراكز الأيتام ودور العجزة والمستوصفات الصحية ومساعدة الأسر الفقيرة بالمواد الغذائية والأدوية ومصاريف التعليم ، وإنما كانت تطمح لإحداث مدارس علمية ومراكز ثقافية ورياض الأطفال لتربية الأجيال على أساس الإيمان بالله والاعتزاز بالثقافة الإسلامية والتمسك بالقيم الروحية والأخلاقية لتحقيق النهضة الاجتماعية المرجوة .

‏بدأت الجمعية أعمالها عام 1960 في مقرها بجامع الكلتاوية ، كان الشيخ سعيداً بهذا الإنجاز الكبير ، وسعيداً بجهود إخوانه الذين اندفعوا بحماس لا نظير له لكي تكون هذه الجمعية هي أول ثمار الكلتاوية بعد اكتمال بنائها الجديد الذي أصبح يتسع لخطوات جديدة .

‏وصاياه للإدارة في أول اجتماع :

‏في أول اجتماع لمجلس إدارة الجمعية أوصاهم الشيخ بأمور ثلاثة :

‏الأمر الأول : نية الطاعة لله تعالى ، فمن نوى في عمله طاعة الله تعالى سدد الله خطاه وأثابه على عمله وشرح القلوب له ، ومن نوى في عمله الجاه والرياسة والسمعة حرم من ثواب الطاعة ، وانقبضت القلوب عن قبوله .

‏الأمر الثاني : الإخلاص لله تعالى ، وذلك ألا يعكر صفوه ونقاءه شيء يناقض قصده وهو أن يكون العمل لله تعالى ، وليس لهدف آخر ، فما كان لله كان صاحبه مخلصاً والفعل خالصاً ، وما كان لغير الله انتفت صفة الإخلاص فيه ، فمن أراد العمل لله والتقرب إليه فهذا هو سبيل ذلك ، ومن أراد غير ذلك فقد خرج عن دائرة الإخلاص .

‏الأمر الثالث : صدق العزم في العمل ، والعزم ثمرة الصدق ، فالصادق في نيته وعمله لابد إلا أن يحقق النجاح ، لوجود العزم الذي يولده الصدق

‏والصادقون موفقون ، لأن صدقهم يؤثر في الآخرين فتنشرح الصدور لهم وبدأت مسيرة الجمعية قوية ، وانشرحت القلوب لأعمالها ، وحظيت بثقة واسعة ، فقد كان القائمون عليها من الرجال الذين اشتهروا بالنزاهة والاستقامة ‏وحسن السيرة ، وكانوا الأوائل في تمويل الجمعية ، وعمل الخير تنشرح له القلوب ، بشرط أن يقوم به أهل النزاهة والاستقامة ، لكي تكون الثقة بهم

‏كان الشيخ ينصح إخوانه القائمين على هذه الجمعية أن يأخذوا بالأسباب ، والله هو المتولي لأمور الفقراء والأيتام وأعمال الخير ، ولابد إلا أن يصل الرزق المقسوم لأصحابه حيثما كانوا ، وعلى العبد أن يأخذ بالسبب ، والله يشرح القلوب لأعمال الصادقين والمخلصين. . .

‏وكان يحذرهم من الالتفات إلى حظوظ النفس في عمل الخير ، فالنفس التي ترى في نفسها الإخلاص سرعان ما يشغلها الالتفات إلى الإخلاص عن

‏الإخلاص ، فتجد ذاتها فيما تفعل ، وتمن على الآخرين بما تقوم به من جهد وهذه من الآفات الضارة بصاحبها التي تحرمه من لذة العمل لله ، فالإخلاص في العمل يولد في النفس شعوراً بالغبطة والسعادة ، ولا يمكن أن يدرك هذه السعادة إلا من أكرمه الله بصفة الإخلاص ، وهو خلوص العمل لله تعالى فلا ‏تكون فيه أية شائبة تعكر صفوه . . .

‏ولا شيء يفسد العمل الصالح كالرياء ، فالرياء نقيض الإخلاص ، فمن يعمل العمل الصالح للتقرب من قلوب الخلق فهو من الرياء المذموم ، فإن كان دافعه لعمل الخير هو مجرد السمعة والجاه والمكانة حرم من الثواب ، وهو أمر ‏ممقوت ، لأن الباعث على فعل الخير ليس هو طاعة الله ، ومن خصائص الرياء أن له شؤماً في أعمال الخير سرعان ما يتضح هذا الشؤم في انقباض القلوب عنها .

‏كان الشيخ يعلل انشراح القلوب وانقباضها بالصدق والإخلاص ، فالصدق يحمل صاحبه ويحميه ويدفعه ويوفر له أسباب النصرة والاستمرار ،

‏والإخلاص يشرح القلوب ، لأن الإخلاص هو الصفاء والنقاء والعمل لله .

‏حققت الجمعية نجاحاً كبيراً في أداء عملها ، وكان أعضاؤها يخصصون الجزء الأكبر من تفكيرهم وعملهم لكي تحقق هذه الجمعية الهدف الاجتماعي والإنساني المطلوب منها ، إذ كانت لجنة البحث والتحري تذهب إلى الأحياء ‏الفقيرة لكي تكشف عن أحوال المحتاجين وتدرس متطلباتهم وتتأكد من حاجتهم للمعونة التي كانت تخصص للفقراء ، فإذا تأكدت من وجود الحاجة فكانت تكتب تقريراً لمجلس الإدارة توصي فيه بتقديم الدعم المطلوب للأسر الفقيرة سواء كانت إعانة مادية أومخصصات عذائية شهرية أو علاج مريض ‏أو مساعدة تعليم أو تكوين أولادهم من الناحية المهنية لكي تتمكن الأسرة من مواجهة ظروفها القاسية .

‏لم ينفصل الدين في نظر الشيخ عن الثمرة المرجوة منه ، ولا يمكن الاكتفاء بمجرد العبادة للوصول إلى الله ، فالعبادة لها ثمرة مرجوة وهي تزكية النفوس أولاً لكي تكون مهيأة للعمل الصالح الذي يخدم الناس ، ومن فهم أن الدين هو مجرد عبادة قاصرة لا علاقة لها بالعمل فقد أساء فهم الدين ، ولابد من العمل ‏الصالح ، فكل ما يخدم خلق الله فهو من الصالحات ، ولا يفعل العبد العمل الصالح إلا أن يحب الآخرين ، فمن أحب الله أحب خلقه ومن أحب الخلق ‏سعى في إسعادهم بكل الوسائل ، فالكلمة الطيبة عبادة والصدقة عبادة والأخذ بيد محتاج عبادة ومعالجة المرضى عبادة .

‏وهكذا تحيى الأرض بأودية الخير التي تسيل في الأرض الجافة العطشى إلى أسباب الحياة ، فالدين هو مصدر الحياة بأبعادها الإنسانية ، وهو أداة التواصل ‏بين الإنسان وأخيه الإنسان ، في رحلة الحياة الشاقة ، ولابد من التكافل والتناصر بحيث يحمل القوي الضعيف ، ويخفف عنه آلامه ، وهذا هو الدور ‏الحقيقي للدين في تحقيق ذلك التواصل ، لكي تستمر المسيرة في رحلتها عبر الجبال والوديان ، والدين الذي لا ينمي قيم التكافل في المجتمع سرعان ‏ما ينقد قداسته في النفوس ويستغني الناس عنه ، والإسلام هو رسالة إنسانية غايتها تحقيق ذلك البعد الإنساني في نفسية المؤمنين به عن طريق ربط السلوكيات الصالحة بالعبادة ، فالعمل الصالح هو عبادة ، والعبادة تثمر العمل الصالح وهو الغاية المرجوة .

‏كان الشيخ يريد لجمعية النهضة أن تجسد ذلك البعد الإنساني في عملها ، في نصرة المستضعفين وتوفير أسباب الحياة للفقراء والعناية بالأيتام والمشردين والعجزة والمسنين وتكوين أبنائهم العلمي والثقافي والمهني ، لكي ينهضوا بأسرهم .

‏لم يفكر الشيخ بنفسه ، وإنما كان يفكر في أولئك الذين يحتاجون إلى المساعدة والمناصرة ، كان يقوم بهذه المهمة بقدر طاقته ، لم يدخر لنفسه

‏شيئاً ، ولم يفكر في ذلك ، ثم كانت الجمعية التي امتد عطاؤها إلى تلك الأسر الفقيرة التي لا يعلم بمأساتها أحد ، ويمنعها التعفف من أن تمد يدها

‏وعندما كان يسأل عن مقدار الصدقة يقول : هو الفضل ، والفضل ما فضل عن الحاجة ، ويردد في مجالسه : نحن لا نملك شيئاً ، نحن وما نملك لله ‏تعالى ، والمال مال الله والعبد مسخر فيما يملك ومؤتمن عليه أن يعطيه لمستحقيه من المحتاجين ، ويضيق بمن يقول : هذا مالي ، فلا يليق بالعبد أن ‏يدعي ملكية شيء مؤتمن عليه .

‏وبفضل توجيهات الشيخ استطاعت جمعية النهضة أن تحقق الكثير من الأعمال الاجتماعية في مجال العناية بالفقراء ، أو في مجال العناية بالصحة ‏وتوفير الدواء والعلاج للمرضى ، أو في مجال توفير المواد الغذائية .

‏وأشارت إحصائيات الجمعية إلى أن عدد المستفيدين في مجال الإعانات الشهرية تجاوز خمسة آلاف مستفيد ، وأكثر من ألف وخمسمائة أسرة فقيرة ، ‏كانت الجمعية توزع عليهم المواد الغذائية وتشرف على علاجهم وتقدم لهم اللحوم من مشروع الأضاحي الذي تبنته الجمعية .

‏وبالإضافة إلى هذا العمل فقد أنشأت الجمعية معهداً للتدريب المهني ‏للإناث لكي تتعلم بنات هذه الأسر الفقيرة المهنة التي تمكنهن من العمل بما يتلاءم معهن ، واستطاع هذا المعهد أن يسهم في تكون المئات من البنات الفقيرات ، وأن يوفر لهن العمل الملائم الذي يشعرهن بالكرامة .

‏وحظيت هذه الجمعية بثقة المجتمع الحلبي الذي أمدها بالدعم المادي السخي الذي ضمن لها النجاح والاستمرار ، وعمل الخير إذا قام به المخلصو ن ، والصادقون تنشرح له المقلوب ويتولاه الله بالرعاية وضمن له النجاح .

‏كان الشيخ يتابع أعمال الجمعية بفرحة وغبطة ، يجتمع بإخوانه القائمين على أمرها ويحثهم على مضاعفة جهدهم ، وكانوا عند حسن ظنه جنوداً في معركة جهاد لأجل الفقراء والمستضعفين ، وهذا هو الجهاد الحق الذي يتمثل في حمل النفس على التضحية في سبيل الخير والفضيلة ، وهذا هو الإحسان الذي أمر الله تعالى المؤمنين به .

‏والإحسان هو الفريضة الدينية التي هي من دعائم الإسلام ، بل هي من الفروض العينية الواجبة على كل مكلف ، كل بحسبه طاقته واستعداده ، ويتمثل الإحسان بكل أنواع العطاء للآخرين ، عطاء الكلمة وعطاء السماحة ‏وعطاء الأخوة وعطاء التواصل الإنساني وعطاء الرفق بالضعفاء والمسنين وعطاء المحبة والإيثار وعطاء التواضع وعطاء التضحية ، ولا حدود للعطاء ، فكل جهد يبذل لأجل الآخر فهو عطاء ، وكل عطاء فهو إحسان ، والمحسنون هم رموز الخير في المجتمع ، ولا يقوم بالإحسان إلا من تأدب بأدب الإسلام وتخلق بخلق القرآن .

‏والإحسان هو ثمرة المحبة ، فمن أحب الخلق أحسن إليهم ، فإذا قست القلوب لم تحسن ، وإذا توقف الإحسان في مجتمع سرعان ما عمت الكراهية فيه ، والكراهية هي مصدر الشرور في المجتمع ، لأنها تولد الأحقاد والحقد ‏هو العامل الأهم في الجرائم والحروب والعواطف الغاضبة هي التي تقوض المجتمعات وتسعى في خرابها .

‏لا يمكن لمجتمع أن يعيش بسلام وأمن ما لم يشعر الجميع بكرامته وحريته ، ولا تتحقق الكرامة إلا بتوفير الكفاية وعدم الإذلال ، والفقر مذل لأصحابه والإذلال هو مصدر الحقد ، والإحسان ليس مجرد التصدق على الفقير ، وإنما هو أعم من ذلك ، ويشمل كل السلوكيات التي يتمثل العطاء فيها ، فعطاء الكلمة الطيبة لا يقل أهمية عن عطاء الصدقة ، وعطاء التواصل بين الأقرباء والجيران والأصدقاء هو الذي يوجد المحبة المتبادلة ، ويحقق الطمأنينة والسكون.

عمل الخير

‏وكثيراً ما كان الشيخ يتحدث عن الثمرة المرجوة من كل عمل من أعمال العباد وتعرف فضيلة العمل بشرف ثمرته ، وما لا ثمرة له من الأعمال لا فضيلة ‏له ، فالعبادة لها ثمرة ، وثمرتها أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر في السلوك ، والمجاهدة لها ثمرة وهي تزكية النفوس والارتقاء بها ، والعلم له ثمرة ، وثمرته المعرفة ، والعلم الذي لا يثمر المعرفة لا فضيلة له ، والتربية لها ثمرة وأول ثمارها حسن الخلق .

‏والإيمان له ثمرة ، وثمرته العمل الصالح الذي يسعد الناس ، ويخفف من ‏آلامهم ، فمن أكرمه الله بالإيمان فعليه أن يوجه طاقته لمساعدة المستضعفين ، ‏وهذا هو مفهوم الشكر لله ، فالله قد أنعم على الخلق بنعم كثيرة ، والله هو المنعم والعبد هو المنعم عليه ، والشكر نسبة النعمة إلى المنعم وهو الله ، ومن تمام الشكر لله تعالى أن توجه النعمة التي أنعم الله بها عليك فيما يحبه الله ، فإذا أنعم عليك بالصحة فعليك أن توجه هذه النعمة لخدمة خلق الله ، وإذا أنعم عليك بالجاه والرياسة فعليك أن تستخدم هذا الجاه لما يحبه الله منك ، فمن استخدم قوته البدنية وهي نعمة من الله لما يكرهه الله من الاعتداء على الآخرين وإذلالهم فقد كفر بنعمة الله ، ومن استخدم ماله ورياسته في غير ما أمره الله به من إشباع شهواته فقد كفر بنعمة الله ، وعلى العبد المنعم عليه أن يثبت أنه أهل للنعمة بتوجيه هذه النعمة لما يرضي المنعم وهو الله.

‏فالعمل الصالح هو تعبير عن شكر المنعم عليه للمنعم وهو الله تعالى ، فمن عمل صالحاً في هذه الدنيا بإدخال السرور على الآخرين من خلق الله فقد فعل ما يحبه الله منه ، وهذا مؤذن بدوام النعمة واستمرارها ، ولا تدوم النعمة إلا أن ‏يدوم الشكر عليها بأداء حقوق الله في هذه النعم ، لكي يسعد العبد بنعم الله عليه.

‏ومن نوى أنه يفعل الخير لإرضاء الله وقياماً بشكره فإنه يقبل على فعل الخير بحماس ونشاط فلا يتثاقل ولا يتكلف ولا يضيق بالصعاب والمشاق .

‏وانطلاقاً من هذا الفهم العميق لقيام العبد بأعمال الخير ينبعث العزم في النفس لفعل ذلك الخير ، ويجد في ذلك الجهد متعته وسعادته ، فلا يضيق بجهد ولايتكلف السماحة في صدره ولايبخل بالكلمة الطيبة ولاييأس بسبب جهد ضائع ، فمايكلف به العبد هو القيام بالأسباب ، والله يتولى الأمور بالتوفيق والسداد .

وعمل الخير يدفع البلايا أو يخفف منها ، ولابد له من ثمرة مرجوة ، فمن سعى في خدمة الضعفاء تولى الله أمره ، ومن الجهل ألا يدرك العبد أثر ذلك في صحته وماله وأسرته فيظن أن ما هو مبذول له من صحة ومال وبنين ليس من ‏النعم التي تستحق الشكر لأنها مبذولة لمعظم الخلق فلا يراها خاصة به ولا يشعر بفضل الله عليه فيها ، فيدفعه الجهل إلى الاستخفاف بهذه النعم ، فإذا زالت عنه أدرك فضل الله عليه فيها ، فالنعمة ليست مبذولة على الدوام لكل الخلق ، ولو كانت مبذولة للجميع لما كان هناك فقير أو يتيم أو مشرد أو عاجز، وكم من نعمة كانت مبذولة لعبد ثم أزيلت عنه ، وأصبح فقيراً بعد غنى ومريضاً بعد صحة ومستذلاً بعد عز ، مما يدل على أن النعم لا تدوم ‏لصاحبها ، وكأن القلوب خيم الجهل عليها فجعلها لا تفقه ولا تفهم ، وكأن أقفالاً قد حجبتها عن المعرفة الحقة فقست وزالت الرحمة منها ، ولابد من التغلب على غفلة القلوب بالتذكير المستمر بفضل الله ونعمه وبيان حقوق الله على العبد ، والذكرى تنفع المؤمنين ، الذين ما زالت شعلة الإيمان تتوهج في قلوبهم ، فإذا انطفأت تلك الشعلة بالإعراض عن ذكر الله انطفأت معه شعلة الخير وأصبحت القلوب أكثر قسوة وأشد ظلاماً .

مدارس الجمعية

‏أسهمت الجمعية بتأسيس مدارس ومعاهد متعددة ، وأهمها (مدرسة دار النهضة الإسلامية ) التي أنشئت بالكلتاوية ، وكانت الجمعية تشرف عليها من الناحية الإدراية ، وتوفر لها إمكانيات الاستمرار ، كما أشرفت الجمعية على عدد من المدارس التربوية والمهنية .

‏ولما رحل الشيخ عام 1974 ‏استمرت الجمعية لمدة عشر سنوات في أداء رسالتها الثقافية والاجتماعية ، وكانت لها مشروعات طموحة في مجال العمل الإنساني والخيري ، ونأمل أن تعود من جديد وفاء لمؤسسها .

‏وما زالت مدينة حلب تذكر هذه الجمعية التي حظيت بالثقة واشتهرت بالصدق والإخلاص وعرف القائمون عليها بالورع والنزاهة .

‏ولابد من قيام المجتمع المدني بواجباته الاجتماعية في دعم المؤسسات الخيرية  سواء في مجال الصحة العامة أو في مجال التوعية الثقافية أو في مجال العمل الاجتماعي فالمجتمع المدني يتحمل مسؤولية المشاركة في تطوير المجتمع من خلال إسهاماته الخيرية في المجالات العامة .

‏وإرادة الخير موجودة في المجتمع ، والشعور الديني هو العامل الأهم في تغذية هذه المعاني الطيبة ، لتخفيف المعاناة التي يعاني منها الفقراء ولا يمكن أن يتحقق السلام الاجتماعي إلا بتوفير أسباب الكرامة لكل الأفراد وتيسير الحصول على الكفاية ، والفقراء محتاجون للمساعدة لكي يتمكنوا من مقاومة ظروفهم القاسية .

( الزيارات : 1٬591 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *