الوداع الحزين

ذاكرة الايام . الوداع الحزين
– مضت ايام الطفولة الجميلة بسرعة في حلب في صحبة السيد النبهان طيب الله ثراه ، عشرسنوات من الذكريات والمواقف والمشاهدات ,وكنت اتلقى فى كل يوم وكل ساعة درسا كنت احتاجه فى مرحلة التربية والتكوين الاول , وكنت سعيدا فيها بكل ما اشتملت عليه. وما تركته في نفسي من الذكريات وكانت مدرسة حقيقية في حياتي الاولي تعلمت فيها الكثير مما احتاج اليه. من حسُن الفهم لمعني الاسلام ورسالة الاسلام. وثقافة الاسلام , واهم ماتعلمته هو التاديب بمفهومه التكوينى ,وادركت الفرق بين مهمة المؤدب ومهمة المعلم , ومهمة المؤدب ان يمسك بيده مقصا ويقطع الزائد من الطباع وينمى الضعيف منها كما يفعل من يشذب الاشجار , انه يقص كل غصن تطاول عن الفضاء المخصص له , وينمى الضعيف منها لكي يأخذ حقه من عدوان , كان التأديب قبل التعليم لانه هو الذي يعيد صياغة الشخصية بقيم تعبر عن سمو الانسان ، وما كان في الطفولة لا ينسي ، ويظل حبيس الذاكرة لا يغادرها , وفجأة يأتيك في الوقت الذي تحتاجه كناصح امين يلقي اليك بهمسة.موقظة ثم يعود الي مرقده فى مستوع الذكريات , وكانه حارس امين لا يخدعك. ابدا. ، وكنت اشعر انني بصحبة السيد النبهان اكبر مما انا فيه ف ،وتلك محنة. الصغار عندما يكبرون ويسيطر عليهم الوهم ويشعرون انهم اصبحوا كبارا بمحبة الكبار وصحبتهم ، ويصابون. في الغالب بالغرور الذي يبعدهم عن رؤية ذاتهم كما هي فِي احجامهم الطبيعية ، وكبُر هذا الشعور في داخلي , وكاد ان يلقي بي بعيدا. في مستنقع الوهم والغرور والجهل بقوانين الحياة. ، كنت صديقا لكل الكبار ممن هم حولي ممن كانوا حول السيد محبة للسيد , وليس لي. واحتراما له وليس لي ، وتوهمت في تلك. الفترة انني املك ما لا يملكه غيري ممن هم في نفس عمري من العلم والفهم. وتلك تلك محنة الغرور . ، وبعد اربعين عاما. كنت اقرا مقدمة ابن خلدون , ووجدته ا في مقدمته يتحدث عنً تلك الظاهرة النفسية ، واخذت اتامل فيما كتبه عن مرتبة سماها ابن خلدون توهم الكمال فى الذات ، وقال : كل ابناء الكبار من العلماء والشعراء واصحاب المكانة الاجتماعية يتوهمون الكمال في انفسهم ويصابون بالاحباط فيما بعد عندما يكتشفون انهم لا يملكون شيئا سوي ما اصبح. ماضيا ,وذكر ابن خلدون ذلك في الصفحة ٦٩٨ من المقدمة . وناقشت هذه الفكرة في الصفحة ٢٣٥ من كتابي عن مقدمة ابن خلدون. ، وعلل ابنً خلدون ذلك ، وقال : لانهم يقعدون عن العمل الذي يقوم به غيرهم مكتفين بما هم فيه من الجاه. ويخجلون ان يفعلوا ما يفعله غيرهم ، وذكر كل الاصناف الذين يصيبهم ذلك الوهم والغرور. ، وقال: انهم يتوهمون انهم استحقوا ذلك بقرابتهم. من ابائهم ، وقال : انهم متمسكون بالحاضر في الامر المعدوم ، واضاف : انهم تقل ارزاقهم في الغالب لا نهم لا يعملون ويخجلون. مما يعمله غيرهم. ويكتفون بما هم فيه ، ، ويتوهمون ان كل شئ سيكون لهم كما يريدون ، ولذلك يصابون بالاحباط والكآ بة وينتظرون طويلا ، واخذت اتامل فى تلك الظاهرة النفسية واتساءل : هل كنت اشعر وانا طفل بمثل هذا الشعور من. توهم الكما ل فى ذاخلى ,. ولو بدرجة صغيرة ، و كنت اري ان الامور ميسرة لي في كل شيئ ، وليس بجهدي ، وانما بصحبتي للسيد النبهان ، لقد تعلمت العلم. علي يد كبار العلماء , وما كنت اريده. يكون والذى لا اريده لا يكون ، وصحوت فجاة على صوت هامس ومنقذ من داخلى , كل ذلك لا لاجلى ولافضل لى فيه ،، لم اكن املك اية شهادة معترف بها ولو ملكت العلم كله ، حتي الشهادة الابتدائية لا املكها ، وكنت اقفز من مرحلة الي اخري , لا ادرى هل كل ذلك بجهدى , وتلقيت العلم عن كبار العلماء وحظيت بمحبتهم ، ووصلت الي نهاية المرحلة العلمية , ودرست اهم الكتب في مختلف العلوم علي يد اساتذة متخصصين اكفاء هم الافضل فى مجتمعهم ، وذهبت ذات يوم الي السيد النبهان حزينا وشاكيا ومحبطا ، وقلت له : يجب ان افكر فى المستقبل واعمل له ، ولا اجد اي امل في دراستي ولا اجد لها أي افق ، قال لي : ياولدي : لاتقل اخطط لمستقبلي ، ولست انت من يخطط لمستقبلك ، فالله هو الذي سيختار لك ما يحبه لك . وييسر لك اسبابه ويشرح القلوب له ، ادع الله ان يختار لك وان يوفقك. وما توفيقي الا بالله ثم قال : ، كن صالحا والله يتولي الصالحين ، وسوف تجد طريقك ويشرح الله قلبك ويفتح لك مالا تتوقعه من الابواب ، ثم قال لي بلهجة ايمانية : ياولدي : لقد طلبت القليل واعطاني الله الكثيرمن فضله ، كن صادقا وخذ بالاسباب ودع الامر لله تعالي وادعه ان يتولاك ، شعرت اننى استيقظت من الغفوة , ، وشعرت بقوة داخلية وكانني صحوت من غفوة عميقة. ، لن استسلم. ابدا ، لا بد من الاسباب. ، تلك هي سنة الله فى الكون ، وتلك هي عدالته. في الارض ، ذهبت الي التجارة وامضيت ثلاثة اشهرلعلى اجد نفسي فيها , ولَم اجد نفسي وفِي مجتمع التجارة. ، لا يمكن ان يكون الهدف من الحياة ان تشتري وتبيع كل يوم في جهد لا ثمرة له سوي الربح المادي. والكسب , الحياة اكبر ،. وما خلق الانسان الا لهدف اكبر ، وقلت لنفسي ، لا بد من البحث عن الطريق ، وساعمل للحصول علي الشهادة الاعدادية اولا مهما كان الثمن ، وذهبت ذلك المساء الي مدرسة الغزالي الليلية ، واخذت ادرس. برنامج الاعدادية المكثف في اربعة اشهر ، ولَم اكن قد درست اي كلمة في العلوم العصرية واللغة الاجنبية والرياضيات والفيزياء والكيمياء ، ولكن لا بد من النجاح مهما كان الثمن ، وعلي غير توقع نجحت في الحصول علي الاعدادية ، وحصلت علي شهادة الشعبانية في نفس العام ، وكان الطريق طويلة لكي احصل علي البكالوريا والقانون يشترط ثلاث سنوات . ، وكان هذا العام هو العام الاخير . للمعاهد الشرعية غير المعتمدة. كمعايير للقبول في الجامعات. ، وكان . لا بد من الخضوع. لنظام جديد. معترف به ، وفجأة. قررت كلية الشريعة في دمشق لاول مرة بطريقة استثنانية. ان تعادل شهادة. المعاهد غير المعترف بها اذا اقترنت بالاعدادية بشرط الخضوع لمباراة والنجاح فيها ، وهي الفرصة الاخيرة لهم ، ودخلت المباراة ونجحت واصبحت فجأة في الجامعة لاول مرة في عام ١٩٥٨، وابتدأت مرحلة جديدة في حياتي ، انه. المنعطف الاول. والاهم في حياتي ، كانت سوريا في تلك الفترة. تعيش اجمل ايامها. واكثرها. املا وفرحة ونشاطا. ، وهذا هو العام الذي بدأ ت فيه الوحدة بين سوريا ومصر وما تركته من اثار. ، لم تتوقف الرحلة ، بل اقول لقد بدأت الرحلة الحقيقية ، ليس من اليسير ان اقتحم العالم الجديد الذي لم اكن معتادا عليه من قبل ، انه الامتحان الصعب الاشد قسوة علي النفس ان تضحي بما انت فيه ، كنت اعيش في مجتمع دافئ بالحياة اليومية. تشعرني بذاتيتي ، وفِي صحبة ممتعة للنفس ، ومن طبيعة النفوس ان تضعف وهي تتمسك بما اعتادت عليه من العادات والاهتمامات ، كنت اري الجامعة ليست مجرد. محاضرات وكتب ، وانما هي حياة فكرية وتفاعل مع الحياة بما هي فيه. ، وهي تفاعل متجدد. لتكوين الانسان المؤتمن علي الحياة , ، علاقة الانسان مع الحياة علاقة لا تتوقف وهي رؤية متجددة ، انه. منهج. جديد يدفعك للتأمل من جديد في كل شيئ, واكتشاف المعرفة التي تعبر. عن الحياة ومن الحياة ، اشق قرار في حياة الانسان ان يغير في حياته من حال الي حال بحثا عن الافضل , التغيير يحتاج الي شجاعة ، كنت في امان وامن نفسي. ،في حلب وفِي منطقةً محصنة بالقيم والتقاليد والدفء الروحي ، وعندما تفتح النوافذ فيجب ان تتوقع التغيير ، والمهم الا تصاب بنزلات البرد القاسية عندما تفتح النوافذ. ، امضيت سنة كاملة من التأمل والتردد ، وكانت سنة طويلة. ولَم اعش حياة الجامعة ، كما هي ،. ليس المهم ان تنجح في الامتحانات. ، وانما المهم ان. تحسن السباحة وان تكتشف بنفسك الطريق نحو المعرفة الافضل لاجل كمال الحياة ، كنت أشعر ان جذوري الاولي في حلب قوية الي درجة من الصعب ان اغادرها في يوم من الايام ، بدأ النداء الخفي من داخلي ، انه النداء الهامس الذي كنت اسمعه من داخلي. كل يوم ..الرحيل الرحيل لاجل العلم , ذلك هو الجهاد الحق وكل جهاد يحتاج الى شجاعة ، انه الصوت الذي يتصاعد ولا يهدأ ، انه النداء الروحي لاجل التغيير ، الرحلة قد بدأت. ، لم اتصور يوما ان الرحلة ستطول بلا نهاية . ، عام كامل من التردد الداخلي ، لا بد من الرحيل ،. قرار الرحيل هو الاشق في حياتي ، انه النداء الاخير لاجل الحياة. ، كنت اشعر انني المعني بالامر ، كان السيد النبهان يشعرني بالمسؤولية والثقة ويترك لي حرية القرار ، وتلك هي منهجيته في التربية ،كان يثق بي بغير حدود . وكنت اشعر انه معي في كل خطوة ويرقبني من بعيد. ، كان يريدني ان اتحمل مسؤولية ما اختاره لنفسي و المهم الا اندم ، لا شيئ خارج الاسباب ، كنت اهمس واقول لنفسي : ما تريده يجب ان تذهب اليه ، وهو بانتظارك ، مالا يريده الله لا يكون ولو عملت له فلا تتعب نفسك فى الانشغال به . ، وتغلق امامك الابواب وتجد اخيرا. ذلك الثقب الصغير الذي يتسرب منه الضوء الي داخلك. كما يقول مولانا. جلال الدين الرومي مع شمس التبريزي في قواعد العشق الاربعين ، وما يريده الله ييسر اسبابه ، وتجد نفسك مندفعا اليه من غير تكلف نحو مصدر الضوء ، ما اراده الله يحمله عنك وييسر اسبابه فتكون به محمولا ، تلك اثار التربية الروحية الاولي التي تعلمتها منذ الطفولة. ، كم كنت احتاج الي تلك الكلمات التي كنت اسمعها من السيد النبهان.وكنت استعيدها باستمرار ، كانت تفسر لي الاحداث فيما بعد وتشعرني بالدفء الايماني والسكون الداخلي، تلك الكلمات كانت هي القوة الذاتية التي كنت أحتاج اليها في الازمات والمحن ، قد نبتعد كثيرا ، والمهم ان لا تغيب البوصلة والا. نضل الطريق ونحن نبحث. عن الشاطئ الآمن ، وذات يوم وجدت نفسي امام. رغبة جامحة. وارادة. حقيقية ، وحزمت امتعتي. وكانني لست انا ، ووقفت لاخر مرة. علي تلك الهضبة العالية. في مدخل حلب الغربي والتفت الي الوراء , وودعت حلب الوداع الاخير وكانت القلعة شامخة كعادتها. وخلفها تطل . مئذنة الكلتاوية والقبة الخضراء فيها وتلك الذكريات. الجميلة، التى احملها معى , وانهمرت من عيني دمعة سخية انه اليَوْمَ الاخير في المدينة الاحب الي نفسي والصحبة. الدافئة والتي شهدت اجمل لحظات الطفولة الاولي باحيائها الجميلة. وقلعتها الشامخة. وشموح تاريخها العريق. ،. وبدأ شريط الذكريات. في ذهني , وكدت ان اضعف واعود ، ولَم اشعر بالطريق الطويل وهو يمتد . من الشمال الي الجنوب ، كل من حولي كان. يلاحظ ما كنت فيه من قلق وذهول ، وفجأة وجدت نفسي علي ابواب دمشق ، لقد ودعت كل شيئ. وتركت كل ما كنت فيه ، وبدأت من جديد في حياة جديدة لم اعهدها من قبل .تختلف كليا عما اعتدت عليه , .وبدأت الرحلة. ولَم تنته بعد ، سألت السيد النبهان. فيما بعد. بعد ان انهيت دراستي : هل اعود ، قال لي : لا. ، عندما يريدك الله ان تعود ستعود بغير ارادتك وسوف تجد كل الطرق الا الطريق الذى يقودك لما اراده الله لك ، لقد. زودني السيد النبهان قبل سفري بورقة صغيرة وكنب عليها بخطه : رب يسر ولا تعسر رب تمم بالخير..
 
 
( الزيارات : 590 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *