خلافة السيد النبهان

خلافة الشيخ:

واجتمع الإخوان كلهم والمحبون من كل مكان في اليوم الثالث عند الصباح، في الكلتاويّة، وكلهم يبكي ذلك الرمز الكبير الذي أحبوه، كانت جلسة خشوع وحزن، وجلست أمامهم أهدِّىء من روعهم، وأحاط بي الإخوان من كل جانب.

وفجأة وعلى غير توقُّع وإعداد نهض الشيخ محمد الشامي وفوجئت به وهو يأخذ الكلمة، ويتكلَّم عن وفاة الشيخ وعن الأثر الذي تركه في النفوس، ثم أخذ يتكلم عن الحفيد وعن العناية التي كان الشيخ يخصُّه بها منذ طفولته المبكِّرة، وأعلن مبايعته لحفيد الشيخ لكي يكون الرمز لاستمرار مسيرة الشيخ ونهجه، وأحضر ملابس الشيخ البيضاء التي اعتاد أن يلبسها، العمامة والجبة، وألبَسَها لذلك الحفيد الذي انهمرت دموعه بشدة، وساد ذلك اللقاء شعور عارم من المشاعر الفيّاضة، لم يكن الحفيد هناك فحسب وإنما كان الشيخ بروحه وكأنه يرعى ذلك اللقاء.

ثم انتقل الحفيد إلى دار الشيخ وكان غاصَّاً بالنساء من إخوان الشيخ، وما أن رأوا الحفيد بملابس جده وهو يدخل عليهم حتى انتابتهم مشاعر فيَّاضة من التأثر والخشوع والبكاء..

مرَّ ذلك الصباح وكأنه وميض يريق أضاء الكون من حوله وأنار ظلمات ذلك الفضاء الفسيح، ثم توقَّف وغاب، وترك أثره في النفوس أملاً ونوراً.

وما زال السراج مضيئاً بفضل ذلك الزيت الذي ينبع من أعماق ذلك السراج، فتزداد شعلته مع مرور الأيام توهُّجاً تضيء ما حولها وتنير، وتنشر الدفء في القلوب، وكأنها فجر يتجدَّد كل صباح ويبشِّر بيوم جديد.

لم يكن من اليسير على أي أحد أن يَخلُفَ الشيخ رحمه الله، فقد كان متميزاً بخصوصيات فريدة، كان قمة في خصاله الأخلاقية، ولا يمكن لأحد أن يجلس في مكانه، فقد كانت المهمة شاقَّة وعسيرة، ولها ثمن غال من التضحيات والاستعداد للعطاء المتواصل، ولابدَّ أولاً من التغلُّب على كل النزعات الفردية والتحرر من كل الغرائز الأنانية ونسيان الذات لأجل الآخرين.

الذين يظنون أنَّ المهمة يسيرة مخطئون، والذين يحسبون الأمر متعة وجاهاً جاهلون، فليست المشيخة زعامة ولا جاهاً، وإنما هي رسالة وتضحية، فمن أرادها فعليه أن يستعد لها بكل طاقته ووجهته وأن يتخلق أولاً بأخلاقها، وأن يكون مستعداً للتضحية بكل شيء في سبيلها.

لقد اختار الشيخ هذا الطريق، وشرح الله صدره له، واستعدَّ له، وأدَّى الأمانة، وكان المثل الأعلى الذي يُحتذى به، لم يتكلف هذا الطريق، ولم يختره بنفسه، وإنما شرح الله صدره له، وهيأ له من أسبابه ما يجعله قادراً على هذه المسؤولية، فالدعوة ليست كلمة تقال، وليست نصيحة توجه وليست كتاباً يؤلف، وليست خطبة تلقى، وإنما هي حال لابدَّ له من الصدق مع الله والتحرر من كل الارتباطات الدنيوية، والزهد في كل الأشياء المرغوبة لدى النفس، وهذه حال لا تنال بالرغبة النفسية، ولا بتكلف هذا الطريق، وإنما تنال بما يلقيه الله تعالى في قلوب أوليائه وأحبائه من نور يضيء دروبهم، ويحررهم من الغرائز الفطرية، ويشدهم إلى محبة الله ويدفعهم إلى معرفته.

( الزيارات : 1٬168 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *