راي السيد النبهان فى التوبة

رأيه في التوبة:

حظي موضوع التوبة باهتمام الشيخ رحمه الله، وكان يعتبر ذلك هو البداية لإصلاح النفس وهو الخطوة الأولى الدالة على إرادة العبد في الانتقال من الظلمة إلى النور ومن الضلال إلى الهدى.

والتوبة في اللغة الرجوع، والمراد بها الرجوع من طريق مذموم إلى طريق محمود والرجوع إلى حيث الاستقامة التي تنسجم مع الفطرة الأساسية للعبد، فالفطرة تحب الكمال وتميل إليه، إلا أن النفس قد تدفع العبد تحت تأثير الغريزة إلى سلوكيات خاطئة، والنفس تميل إلى الشهوات والملذات، وقد تعتادها وتأخذ بها ويصعب عليها أن ترجع عنها.

وفي الرجوع مشقة، لأن الاعتياد يوجد الألفة والتعلق، ولابد للرجوع والإقلاع من جهد مضاعف، ولذلك يحتاج الأمر إلى مجاهدة النفس، وأول خطوة في مقاومة الذنوب أن يعرف العبد حقيقة الذنب، وما يؤدي إليه من أضرار، فالعلم ركن ضروري في التوبة، ولا يتوب ألإنسان عن فعل إلا بعد اكتشاف ضرره عليه فإذا لم يقتنع بضرره فلا يقلع عنه، ولذلك تحتاج التوبة عن الذنوب إلى معرفة تلك الذنوب وما تلحقه من ضرر.

والذنوب هي مخالفات لأمر الله، ولابد من معرفة الأوامر والنواهي، وما جاء الأمر بها إلا لفائدتها، وما جاء النهي عنها إلا لضررها، ولهذا كانت المعرفة ضرورية في التوبة، فلا يقلع العبد عن صفة إلا بعد معرفته بضررها.

النفس موطن الذنوب:

والذنوب مصدرها النفس، والنفس هي موطن الغريزة، فالعقل لا يرتكب الذنب لأنه يعقل ضرره، والعقل هو القيد، إلا أن العقل لا يملك القدرة على التحكم في الحواس بتأثير الغريزة التي تتمرد على أوامر العقل وقيوده، والعقل يدرك ضرر الذنوب إلا أنه لا يستطيع كبح جموع الغريزة إلا بتوفير قوة نورانية تعينه على ذلك.

وأحياناً تقوى النفس وتطغى بتأثير ما ينمى فيها قوة الغريزة، إلى أن تصبح الغريزة كالأنياب الحادة يصعب التغلب عليها، بتأثير البيئة التي تنمى الغرائز الشهوانية والغضبية، فالسلطة تنمي الغرائز والمال كذلك والشهوة إلى أن تصبح الغريزة متمردة على كل القيود، فلا تسمع إلا ما تريد ولا ترى إلا ما يشبع تلك الغرائز، ولهذا يضعف دور العقل ويصبح أسير الغرائز، ويسعى لإشباعها، ويوظف كل طاقاته لخدمة الغرائز النفسية.

ويندفع العبد تحت تأثير الغرائز وبخاصة الغريزة الشهوانية لإشباع رغباته، لا يوقفه شرع ولا عقل، فيغرق في مستنقعات الشهوات، ويبحث عن الملذات حيثما كانت، يأكل كل ما يجد فيه لذته من طعام وشراب ويلبس كل ما يشتهيه من أنواع الملذات، ويبحث عن لذاته الجنسية حيث كانت، محمودة أو مذمومة، ولابد أنه يصطدم بحقوق الآخرين فيعتدي عليهم بقوته، وسلطانه، فإذا وقف أحد في طريقه فسرعان ما تستيقظ غريزة الغضب لديه، فينفلت زمام لسانه بالشتم والقذف وزمام يده بالاعتداء على الضعفاء الذين لا يقدرون على مقاومته.

نور التوبة:

ولابد من الرجوع إلى الحق والكف عن هذا السلوك المذموم الذي قادته إليه الغريزة الطاغية، وقلما يكون الرجوع ممكناً، إلا بقوة غالبة وبنور إلهي يجد العبد نفسه متعلقاً به، يمسك بيده وينقذه ويخرجه من ذلك البئر الموحش المظلم القذر.

ذلك النور الذي يتراءى من بعيد كشمعة مضيئة في نفق مظلم، سرعان ما يصبح كمثل المصباح أو كذلك النور في النفق المظلم، تلك هي الرعاية والعناية الإلهية، أنها تجد في قلب ذلك العبد نوراً خافتاً مغلفاً بغلاف كثيف من الغفلة الناتجة عن البيئة غير الطاهرة التي يتحكم فيها رفقاء السوء.

ذلك النور الخافت إذا سمع كلمة الحق ازداد ضياءه، فأشرفت في جنبات القلب شعلته، ذلك هو الحال الذي يعتري العبد المذنب فيصحو من رقاده، وكأنه في كابوس مخيف، ويرفع ما تراكم عليه من أثقال، ويقف على رجليه قوياً شامخاً يبحث عن سر ذلك الوهج الذي أشرق في قلبه، ويمسك به وكأنه القمر الذي وجد نفسه في مرآته، ما أروع ذلك الشعور… يقظة بعد غفلة، نور بعد ظلمة، هداية بعد ضلال، سكون نفسي يخيم عليه. ويلفه بأثواب نقية بيضاء معطرة.

إنه الدفء الجديد الذي يجده التائه بعد ضياع طويل في صحراء موحشة، دفء الإيمان واليقين، دفء الطمأنينة والسكون.. دفء الصفاء والاستقامة.

وتتحرك الأرض الخصبة وتهتز بعد أن غمرها الماء بما يحييها، وترتفع أغصان الشجرة التي زرعها العلم ورعتها المعرفة، وتظهر ثمرات تلك الشجرة عملاً صالحاً طيباً.

وأول ثمرات ذلك الشعور العميق ندم وحزن وألم، دموع تنهمر تعبر عن ذلك الشعور العميق، هذه الدموع ليست دموع حزن فقط وإنما هي دموع فرحة أيضاً بذلك النور الذي أشرق في النفس، ويطوى هذا العبد ذكريات تلك الفترة المظلمة، يريد أن ينساها لكيلا يتألم، يريد أن يعيش يومه الجميل، لا يريد أن يشغله ذنبه عن ربه، ذلك الانشغال حجاب جديد، وما بقي من العمر قصير، وينسى أيامه القديمة ويطل من النافذة على الغد، إنه عهد اليقظة والنور.

كان الشيخ يحذر من خطورة الإصرار على الذنب، فالإصرار على الذنب دليل الغفلة، وهو مؤشر على وجود الزيع، والمذنب الذي يصر على ذنبه ويبرره لنفسه لا ترجى توبته، وتكبر الذنوب بالإصرار عليها والمواظبة على فعلها، ومن استعظم ذنبه زاد ندمه عليه، ودل ذلك على نقاء قلبه وكان بذلك أقرب للتوبة والإنابة.

التوبة والعناية:

ويرى الشيخ في التوبة معنى العناية، فمن شرح الله صدره للتوبة فهذا دليل على أن الله قد أراه حقيقة الذنب فلم يجد فيه تلك الحلاوة التي يراها المذنب في الشهوات والملذات، وهذا يؤدي إلى أن يضيق صدره بهذه الذنوب، ويستحي من الله تعالى أن تصدر منه، وهذا بسبب النور الذي يشرق في القلوب، فتشعر بقربها من الله، وتشتاق إلى هذا القرب.

وهذا المعنى دقيق في مفهوم التوبة، فالتوبة هي توبة عن الآثام والمحرمات، وهذه هي توبة العوام، وهناك توبة الخواص وهي التوبة عن الغفلة، فلا يغفل المؤمن عن الله، ولا يكون في السر إلا الله.

والإصرار على الذنب إما بإنكار فعله كذباً أو بتبرير ذلك الفعل دليل على عدم الشعور بخطورة ذلك الفعل، ولو شعر بالندم عليه لما اندفع لتبريره، والتبرير دليل الإصرار عليه ووجود حلاوته في القلب، ولابد من الندم في التوبة، والندم يورث شعوراً بالألم والحزن في القلب، وكلما أحس العبد بقسوة ألم الذنب في قلبه كان عزمه أصدق في الإقلاع عنه، فالتوبة تحتاج إلى إرادة وعزم هما ثمرة الندم والألم، وعندئذ يكون ترك الذنب يسيراً والتغلب عليه ممكناً.

والذنوب أفعال مشتهاة للنفس ولذائذ عاجلة مستحبة، ولها حلاوة في النفس، والندم يزيل حلاوتها، فتكون التوبة، فإذا استمرت الحلاوة كان الامتناع عنها صعباً، لوجود الحنين إلى كل ما له حلاوة في النفس.

والشهوات سلوكيات مرغوبة في النفس، ولا يمكن الامتناع عنها إلا بوجود مرغوب أقوى، فإذا رغب العبد في شيء زهد فيما يخالفه، وإذا أحب العبد شيئاً كره ما ينافيه، ولذلك كان الشيخ رحمه الله يحض على التعلق بالكمال لكي يكون الزهد فيما هو ناقص، فمن أحب الكمال رغب فيه وزهد فيما ينافيه من أنواع السلوك، ومن أحب الله أحب طاعته فيما أمر به، وكره كل ما نهاه عنه، رغبة منه في القرب ممن يحبه وهو الله، ولذلك فلابد من العناية المتمثلة في رعاية الله لخلقه، لكي يحبوا الله ويكون أحب إليهم من كل ما عداه.

كان الشيخ يتحدث عن نور الطاعة وظلمة المعصية، فالطاعة تولد نوراً في القلب وفرحة وسعادة، والمعصية تولد في القلب ظلمة وكدراً وحزناً، ومن استنار قلبه يدرك ببصيرته نور الطاعة وظلمة المعصية، وما في الباطن يظهر أثره على الظاهر، والتائب عن الذنب أما أن تكون توبته بنور إلهي يشرق في قلبه أو مجاهدة نفسية يقاوم بها نزعات شهواته، فأهل النور الإلهي عليهم أن ينسوا ذنوبهم التي ارتكبوها لئلا تذكرهم تلك الذنوب بما يدخل الظلمة والكدر إلى نفوسهم، فهم أهل صفاء وإشراق، وتذكر الذنوب يكون حجاباً لهم وانشغالاً لقلوبهم، أما أهل المجاهدة فعليهم أن لا ينسوا ذنوبهم، لكي تعينهم ذكريات الذنوب على تجديد مشاعر الألم والندم في قلوبهم، ولكيلا يضعفوا أو يستسلموا، أما الشهوات فتكون ذكرى الذنوب مثيرة لعواطف الكراهية لها، تجدد عزمهم على استمرار الكف عن الذنوب.

والمذنبون ليسوا سواء في الاستعدادات والقابليات، وأسباب التوبة ليست واحدة بالنسبة لهم، فهناك من يتوب توبة نصوحاً لأن الله تعالى كره إليه المعاصي فأخذ يجد في قلبه ظلمتها وكآبتها وكدرها، وهناك من يتوب بسبب الخوف من الذنوب أن تنفضح، فيخشى على نفسه من أخطار الفضيحة، ولو ضمن الستر لما تاب، وهذه توبة في الظاهر، وليست توبة في الباطن، لانعدام الندم والألم القلبي، وصاحبها سرعان ما يعاودها، وهناك التائب بسبب خوف من العقاب عند الله، ولابد من تجديد الحديث عن عقوبة المذنبين، لتخويفهم من عقاب الله الذي ينتظر المذنبين الذين يفعلون المحرمات التي أمر الله باجتنابها.

( الزيارات : 1٬135 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *