راي السيد النبهان فى العقل

رأيه في العقل:

العقل لفظ مشترك يطلق على معاني عدة، ويراد به النور الذي تدرك به الأشياء، وهو مصدر العلم والمعرفة والإدراك والتمييز،  قال تعالى: {{ع94س6ش221ن1/س6ش221ن221} [الأنعام: 122].

وهناك أحاديث كثيرة تحدثت عن العقل وأنَّ أول ما خلق الله العقل، قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، وهذا الحديث ضعيف الإسناد ورواه بعضهم في الأحاديث الموضوعة، وروى أنس قال: أثنى قوم على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى بالغوا، فقال: كيف عقل الرجل، فقالوا نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله، فقال: إن الحمق يعيب بصاحبه أكثر من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غداً في الدرجات الزلفى من ربهم على قدر عقولهم أخرجه الترمذي مختصراً.

وروت عائشة قالت: قلت يا رسول الله، بم يتفاضل الناس في الدنيا قال: بالعقل، قلت: وفي الآخرة، قال: بالعقل، قلت: أليس إنما يجزون بأعمالهم، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم عزَّ وجل من العقل، فبقدر ما أعطوا من العقل كانت أعمالهم، وبقدر ما عملوا يجزون» الحديث أخرجه الترمذي في النوادر.

دلالة العقل:

ووصف الإمام الغزالي العقل بأنه يدل على أربعة معاني:

أولها: الوصف الذي يفارق به الإنسان سائر البهائم وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفية الفكرية ووصفه الحارث المحاسبي بأنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية وكأنه نور يقذف في القلب به يستعد لإدراك الأشياء، والغافل والنائم يسميان عاقلين باعتبار وجود هذه الغريزة فيهما.

ثانيهما: العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات واستحالة المستحيلات والعلم بأنَّ الاثنين أكثر من الواحد والشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد.

ثالثهما: العلوم التي تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال، فيوصف صاحب التجربة التي تعلم منها بالعاقل، ويوصف عديم التجربة بالغبي والجاهل.

رابعها: العلم بعواقب الأمور، والسيطرة على الغرائز الداعية إلى الشهوات واللذات العاجلة، والعاقل يدرك أخطار تلك الشهوات والأهواء، فيقمعها ويسيطر عليها، لئلا تقوده إلى الهلاك، فيقدم ويحجم بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب، وهذه الخاصة من خواص العقل الذي يدرك به الإنسان خصائص الأشياء.

كان الشيخ يصف العقل بأنه قد يكون محموداً وقد يكون مذموماً ولا يُذم العقل لذاته، ولكن لما يؤدي إليه أحياناً من غفلة وضلال، فقد يهدي صاحبه وقد يضلّه، وكثيرون أضلهم عقلهم وحجبهم عن إدراك الحقيقة، ومنهم الفلاسفة الذين أضلتهم عقولهم عن المعرفة فكان العقل حجاباً، ولابد للعقل من نور يبصر به وبصيرة يعرف بها حقيقة ذلك النور، والفلاسفة حُجبوا بعقولهم الكثيفة عن المعرفة، ولو استنارت قلوبهم لاستنارت عقولهم، ولو كانت لديهم البصيرة النافذة الصادقة الملهمة لما ضلوا الطريق.

والعقل لا يوصف بالذم لذاته، فهو نور، وإنما يذم إذا حجب صاحبه عن المعرفة الحقة، والعقل هو أداة المعرفة وهو بهذا المفهوم يعني القلب التي تدرك به الأشياء، فإذا أظلم العقل بسبب حجابه الكثيف فلا يدرك الحقيقة والعقل النوراني يدرك بالنور الإلهي الذي تجسده البصيرة المعارف والعلوم على حقيقتها، ويكون هذا العقل هو منبع الإيمان واليقين، وقد يحجب العقل إذا اقتصر على معاييره الغريزية، فالعقل الغريزي تدرك به العلوم البديهية المرتبطة بالحواس ولا تدرك به ما تدركه الفطرة النقية من أنواع المعارف الإشراقية.

فالعقل الذي لا يقود صاحبه إلى حب الكمال والتعلق بالفضائل هو عقل قاصر ومحجوب وتسيطر عليه الظلمة، والعقل الذي لا يقود صاحبه إلى الإيمان بالله هو عقل محجوب تحكمه مدركات الحواس.

والعقل النوراني لا يحب المجادلة والمخاصمة بل ينصاع للحق ويبحث عنه، ويستجيب لدعوة الحق، ويكره الأهواء والشهوات ويميز بين القبيح واـميل من الأفعال، ويضيق بالأخلاق المذمومة لأنه يكره ما ينافي الاستقامة.

العقل:

والأصل في لفظة العقل أنها تدل على القيد، يقال عَقَلَ البعير أي جمع قوائمه والعاقل هو الذي يحبس نفسه عن هواها، وسميَّ العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، ويقال فلان له قلب عقول أي قلب يتصف بصفة الفهم، والعقال هو الرباط الذي يربط به.

والعقل هو الذي يمسك صاحبه عن ارتكاب السلوكيات المنحرفة والاستجابة للغرائز الشهوانية، فمن دفعه عقله إلى طريق الاستقامة فهو عاقل، ومن قاده عقله إلى النور والهدي فهو عاقل، أما الذين لا يمسكهم عقلهم عن الاستجابة لهواهم فهم ليسوا عقلاء، لأن العقل له ثمرة واضحة وهي الاستقامة، فمن لم يلتزم بالاستقامة فلا يوصف بالعاقل.

ولهذا جاء الخطاب القرآني للعقلاء يستعين بعقولهم عن التماس صحة العقيدة والتوصل إلى الإيمان، والاستنتاج العاقل، والجهلة لا يعقلون، تأتيهم الآيات والعبر لعلهم يعقلون.

والقرآن الكريم عندما يقرر حكماً من الأحكام المتعلقة بالعقيدة والإيمان يستعين بالعقل لكي يدرك الحقيقة، انطلاقاً من قدرة العقل على حسن التدبر وجودة الفهم في كل ما يتعلق بالمعقولات، وكل معقول يدرك بالعقل، كما أن كل محسوس يدرك بالحواس، فالبصر يرى المرئيات ويدركها، ولا يرى ما هو خارج عن نطاق هذه المرئيات، والقرآن يدعو إلى التأمل والنظر في الأشياء المدركة بالعقل.

العقل النوراني:

والعقل هاد للمعرفة ويقود إلى الحق، وهو كالرسل فهم هداة للحق ودعاة إلى الله، يعرِّفون الإنسان بربهم، ولا يمكن الانتفاع بالرسل إلا بواسطة العقل، لأنه المخاطب بالدعوة، فهو الذي يعقل دعوة الأنبياء، فإذا لم يعقل هذه الدعوة فلا مجال لقبول دعوة الرسل.

والعقول المحجوبة عن الحق لا تنير الحق ولا تهدي إلى الله لأن العقل نور، فإذا حجب النور لم يدرك الإنسان الحقيقة، ومما يتميز به الإنسان عن البهائم هو ذلك العقل الذي يهديه والذي يمكنه من التمييز بين الحق والباطل، كما يميز أصحاب البصر بين الليل والنهار، فإذا حجبت العين لم تبصر ولم تميز.

والإنسان يستعد للرؤية ببصره ويستعد للتمييز بعقله ويستعد للفهم بقلبه، ويستعد لشهواته بغريزته الفطرية، فإذا انعدمت هذه القوى تعطَّل استعدادها للبصر والتمييز والفهم.

والعقل هو مصدر كل المعارف الإنسانية سواء ما ارتبط من هذه المعارف بالعلوم العقلية والاستدلالية التي لا تحتاج إلى البراهين، والعقل بالنسبة لهذه المعرفة يراد به القلب وهو الحقيقة الإنسانية، ولا يراد به مجرد أداة التمييز، والعقل النوراني تشرق المعرفة فيه، فيكون معنى القلب الذي يعتبر مصدر المعرفة بالله، ولا تدرك الحكمة إلا بالعقل المستنير.

والصوفية لا يذمون العقل المؤهل للمعرفة، فهذا عقل محمود، وإنما يذمون العقل الذي يستخدمه صاحبه للجدال والمخاصمة، ولا خير في الجدال لأنه يطفىء نور القلب، وقد ذمَّ القرآن الكريم الذين يجادلون في الله بغير علم في قوله تعالى:

{{ع94س22ش8ن1/س22ش8ن331} [الحج: 8].

وهذا الجدال غير محمود، وبخاصة الجدل المؤدي إلى التفرقة بين الأمة، وتحكيم العقل فيما هو خارج عن نطاق المعقولات المرتبطة بالحواس المدركة، والجدل في أصول العقيدة مما يؤدي إلى التبديع والتكفير وإشاعة المعتقدات الفاسدة.

قال ابن عطاء الله الاسكندري في حكمه:

العقل آلة للعبودية لا للإشراف على الربوبية.

ونقل عن أحد الصوفية قوله:

من لحقته العقول فهو مقهور من جهة الإثبات، ولولا أنه تعرف إليها بالالطاف لما أدركته من جهة الإثبات.

كان الشيخ يتحدث عن العقل النوراني الذي يفهم الأشياء ويعقلها، لا بقوته الذاتية وإنما بالنور الإلهي الذي يشرق فيه، وهو في المعنى مرادف للقلب ومعظم العقول محجوبة بموازينها وقوالبها المرتبطة بالمشاهدات الحسية، وعندما يصف أحداً بأنه من أصحاب العقول كان يقصد بذلك الإشارة إلى التوقف عند حدود ما تدركه الحواس، وعدم إدراك المعاني الإشراقية، ويطلق هذا المعنى على الفلاسفة الذين أدركوا ظاهر الأمور وحجبوا عن الحقيقة والعقل كالبصر يدرك المدركات الحسية، ولابد للمعرفة من بصيرة هادية إليها، وأصحاب العقول هم الذين وقفوا عند حدود المدركات الحسية ورفضوا ما عداها، ولذلك كانوا في موطن الذم بسبب حجابهم عن الحق والعقل، ولا يدرك الحقيقة وإنما يدركها بالنور الذي يشرق فيه، وكذلك العين لا تبصر إلا بالنور الذي ينير ما حولها، فإذا انطفأ السراج توقفت العين عن الإبصار.

( الزيارات : 888 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *