راي السيد النبهان فى المعرفة

أولاً: رأيه في المعرفة:

المعرفة هي الغاية المرجوة في التربية الصوفية، وكثيراً ما تستعمل لفظة المعرفة في المصطلحات الصوفية، ويوصف المرشد بالعارف، والمراد بالمعرفة هي معرفة الله، والمعرفة بالله هي صفة من عرف الحق سبحانه بأسمائه وصفاته.

وعرَّف الإمام القُشيري المعرفة بقوله:

«هي صفة من عرَفَ الحق سبحانه بأسمائه وصفاته، ثم صَدَقَ الله في معاملاته ثم تنقَّى عن أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم طال بالباب وقوفه، ودام بالقلب اعتكافه، فحظي من الله بجميل إقباله، وصدق الله تعالى في جميع أحواله وانقطع عن هواجس نفسه، ولم يصغ بقلبه إلى خاطر يدعوه إلى غيره، فإذا صار من الخلق أجنبياً ومن آفات نفسه برياً، ومن المساكنات والملاحظات تقياً، ودام في السر مع الله مناجاته، وحق في كل لحظة إليه رجوعه وصار محدَّثاً من قبل الحق سبحانه بتعريف أسراره، فيما يجريه من تصاريف أقداره، يسمى عند ذلك عارفاً وتسمى حالته معرفة».

وتختلف المعرفة عن العلم، وأحياناً تأتي المعرفة ويراد بها العلم، والعلم هو إدراك الشيء على حقيقته وعلى ما به، والمراد به حصول صور المعلومات في الذهن كما هي في حقيقتها، وتطلق لفظة العلم على المعلومات التي تدرك بذاتها من غير حاجة إلى تدبر فيها، وتدرك على وجه اليقين من غير حاجة إلى تفكير فيها، ولذلك يوصف الله تعالى بالعلم لأنه يعلم الأشياء بحقيقتها وكما هي في تكوينها، بخلاف المعرفة فلا تدل على العلم الحقيقي بالأشياء، فلا يوصف الله تعالى بالمعرفة، لأن المعرفة تحتاج إلى دراية وإلى تفكر وإلى تدبر، فالعلم يقابله الجهل أما المعرفة فهي العلم الذي يتولد في الذهن من خلال الدراية القاصرة بالأشياء، ولهذا تتعدد المعرفة ولا يتعدد العلم، وتوصف المعرفة بالله بالعرفان، فلا يقال فلان عالم بالله، وإنما يقال فلان عارف بالله، أما صفة العلم فهي من صفات الله تعالى.

والعقل هو أداة المعرفة، وهو الأساس في اكتساب المعارف وتحتاج المعرفة العقلية إلى مقومات وهي الذكاء والفطنة والنظر والتدبر، إلا أن العقل يمكن له إدراك المحسوسات، ولا يمكن إدراك حقائق الأشياء الإيمانية مهما ارتقت قدراته، فالذكاء العقلي لا يوصل إلى المعرفة اليقينية بالله، إلا بقدر من الظن والارتياب، ولهذا احتاجت هذه المعرفة إلى النور الإلهي الذي ينبثق في أعماق الذات، والذي هو معرفة لا ريب فيها لقوله تعالى: {{ع94س94ش51ن1/س94ش51ن22)ع94س94ش51ن3/س94ش51ن99} [الحجرات: 15]، والنور الإلهي الذي هو مصدر المعرفة بالله ينبثق في القلب بعد طهارته وإزالة الحجب المانعة من انبثاق ذلك النور فيه، ولهذا لابد للوصول للمعرفة من تزكية النفوس والارتقاء بها، لكي تكون مرآة صادقة للحقائق المتعلقة بمعرفة الله تعالى، والعقل مهما ارتقت مداركه فهو عاجز عن إدراك تلك المعرفة إلا بمقدار، ولذلك كانت الحاجة إلى الأنبياء لإكمال دور العقل في المعرفة، وتتمثل مهمة الأنبياء في التربية والتكوين والتهذيب لكي يكون الباطن مستعداً لفكرة الإيمان، تترسخ في أعماق الذات الإنسانية.

كان الشيخ يركز على هذه المعرفة، وفي دعوته إلى تزكية النفوس إنما كان يحرص على نقاء ذلك الباطن المتمثل في الفطرة الإنسانية التي خلقها الله صافية نظيفة نقية لا تقبل الزيغ والضلال فإذا زاغت وضلت فهذا بتأثير التربية والغفلة، والغفلة هي أداة قسوة القلوب وانحرافها عن الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها.

ومن آثار المعرفة حصول الهيبة مع الله تعالى، فمن ازدادت معرفته بالله ازدادت هيبته منه، إلى أن تظهر آثار هذه الهيبة في سلوكه، فيكون أكثر أُنساً به، وأكثر ذكْراً له، يطيعه حباً فيه، وشكراً له على نعمه، وعندئذ يزداد قرباً من ربه، ويرتفع من قلبه الخوف من البشر مهما كبر طغيانهم، ويتحرر من التعلق بالدنيا، ويشعر بالسعادة والسكون النفسي.

المحبة ثمرة المعرفة:

من عرف الله أحبه، ومن أحبه زادت معرفته به، فالحب هو الطريق إلى تعميق المعرفة، وهو الباعث الذي يقود إلى معرفة الله، وتبتدىء المحبة بذلك الميل الذي لا يدرك العبد سببه، ولا تأتي المحبة بالتكلف، وإنما هي عطاء إلهي وهبي يشعر العبد به، فيندفع بغير إرادة منه نحو ذلك المحبوب الذي ملك عليه قلبه ويتحول ذلك الميل الداخلي إلى حب، ويجسد ذلك الحب الإيثار، وهو أن يؤثر المحب محبوبه بكل عواطفه وتفكيره، فينساق وراءه باحثاً عنه، باذلاً في سبيل ذلك المال والنفس والحياة، ولا يجد سعادته إلا في ذلك الإيثار، إرضاءً لصوت خفي يهمس في كيانه يناديه في كل لحظة، ويستجيب بغير تردد لذلك النداء.

ما أروع ذلك الشعور العميق في أعماق الذات الإنسانية.. ما أروع أن يجد الإنسان ذاته وسعادته واستقراره، إنه ذلك النور الذي يشرق في أعمال النفس فيجد الإنسان دفء السعادة وسكون الحياة… إنه الأفق الجميل الذي يشرق في أعماق القلب.

العلاقة بين المحبة والمعرفة:

كان الشيخ يشرح العلاقة بين المحبة والمعرفة، هل المحبة تثمر المعرفة، أو أن المعرفة تثمر المحبة، وهي معادلة صعبة، لعل الأمر يختلف بحسب السالكين، أهل العناية وأهل المجاهدة، أليس الحب هو عناية ورعاية.. إذا وقعت المحبة بدأ الالتفات… والالتفات هو بداية المعرفة… إذا أحبَّ بدأ الإيثار، ثم كانت المعرفة.

ومن أحب غير الله فذلك دليل على قلة معرفته بالله، فمن أحب الله أحب كل محبوب  لله، وأحب كل من يوصله إلى ذلك المحبوب، أحب رسول الله لأنه محبوب لله، وأحب كل من أحب الله من عباده، وأبغض كل من عصى الله، وهذا هو مفهوم الحب في الله والبغض في الله.

ومحبة الله هي تعبير عن محبة العبد لذاته، فالإنسان يحب ذاته، ويحب كل من يحسن لتلك الذات، والله هو الخالق المتفضل بالإيجاد ولا وجود للذات إلا بالله، فمن أحب ذاته أحب مُوجِدَه، وخالقه والمحسن إليه، ولا قوام له في الوجود إلا بالله، والله هو المنعم ولا حدود لِنِعَم الله، ونِعَم الله لا تحصى، والعبد محب لمن أحسن إليه وأكرمه، فمن عرف ذلك أحب الله، لإحسانه إليه.

ومعرفة الله هي أسمى غاية وأعظم هدف، ولا حدود لما يشعر به العبد من لذة المعرفة، وكلما شرفت المعرفة ازدادت لذاتها، وكلما تعلقت همم العبد بالمعالي زادت لذته بالحصول على تلك المعالي ومعرفة الله هي أسمى المعالي وأرقاها، فإذا عرف العبد ربه شعر بلذة لا تدانيها لذة، لشرف تلك المعرفة.

كان الشيخ يتحدث عن المعرفة، وأول طريق المعرفة أن يعرف العبد ذاته، ويتحقق بعبديته لله تعالى وأن يدرك أنه لم يخلق عبثاً وإنما خلقه الله للاختبار في الأمر والنهي والطاعة والمعصية وأن يدرك منذ البداية عيوب نفسه وأن يسعى في إصلاحها بالتزكية والمحاسبة، وفي الطاعة والامتثال لما أمر به، ولابد من التقوى لبلوغ المعرفة، والتقوى ثمرة الورع.

والمعرفة الذوقية هي أساس اليقين، ولا يقين عن طريق المعرفة الاستدلالية، لأن العقول متفاوتة في قدراتها ومداركها، فقد يقود العقل إلى الهداية أو إلى الضلال، والدليل على الله هو الله ذاته، ويستدل به على الأشياء، ولا يستدل بالأشياء عليه، ولهذا فإن المعرفة موطنها الفطرة النقية غير الملوثة بالمؤثرات الخارجية، وشتان بين من يستدل به ومن يستدل عليه، والعارفون لا يحتاجون إلى الاستدلال، والمحجوبون يطلبون الدليل، لأنَّ النور الإلهي لم يشرق في قلوبهم، ولو أشرق النور في قلوبهم لاستدلوا به على آثاره، وعرفوا به أسرار خلقه، ولهذا لابد من محبة الله، فالمحبة تكشف للسالك كمال المحبوب وهو الله، وتعرفه بذلك الكمال.

والمعرفة الذوقية موطنها القلب، ومن ذاق عرَف، ومن عَرِفَ لَزِمْ، ولا شيء يضعف هذه المعرفة، لأنها أشرقت في القلب، وذاق العبد حلاوتها، وأخذ يشتاق إليها ويصورها في مخيلته وتتردد ملامحها في نفسه، وكلما زاد حبه لها زاد شوقه، إلى أن تملك عليه كل قلبه، فلا يفكر إلا فيها.

وجاءت آيات القرآن الكريم مؤكدة لمحبة الله للخلق، قال تعالى: {{ع94س3ش13ن1/س3ش13ن111} [آل عمران: 31] {{ع94س2ش222ن22/س2ش222ن772} [البقرة: 222].

كان الشيخ يرى أن محبة الله للعبد تتمثل في إشعاره بالأنس بالله والشعور بالوحشة من الخلق، وهذا لا يتحقق إلا بتسليط الابتلاء عليه، لكي ينصرف إلى ربه، فلا يجد غيره، فإذا التفت إلى ربه بقلبه وكليته وأعرض عما سواه تولى الله أمره بالتدبر والتسيير، فجعل باطنه مطمئناً وبذلك يكون الله أنيسه في وحدته، فتكون عبادته مناجاة لله تعالى، خلوته مؤنسة، يشعر فيها بأن الله تعالى هو وليه الذي يدبر شؤونه بحكمته.

ومن أهم ثمرات الابتلاء في نظر الشيخ التحقق بصفة العبدية لله، فلا يبق في القلب إلا الله، لأن الابتلاء هو تسليط الآخر على العبد، فلا يجد أمامه إلا اللجوء إلى الله، لدفع ذلك الابتلاء.

وهذه مراتب ذوقية من الصعب على أصحاب العقول قبولها، لأنهم مرتبطون بالأسباب والوسائط وهذا عالم مختلف له قوانينته وموازينه ومفاهيمه، ويجب أن يترك أمره لأهله.

( الزيارات : 801 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *