صدق السيد النبهان فى لهجته

صدق الشيخ في مذاكراته:

أهم ما كان يؤثر في مجالس الشيخ ذلك الصدق في كلامه، والصدق دليل علوّ الهمة وإيمان الداعي بدعوته، وكان هذا الصدق يُوجد تلك الجسور المتصلة بين الشيخ وإخوانه، وذلك التناغم العجيب بين المخاطِب والمخاطَب وبين المربّي والمريد، فتزول الفواصل وتفتح الأبواب، ويمتد اشعاع الكلمة فتخترق الحجب، وتمكث في أعماق الذات، وكأنّها بذرة من رحم استقرت ثم أخذت تنمو وتكبر إلى أن تصبح ذلك الوليد الجميل الذي يحمل قسمات أبويه.

ولا حدود لذلك التواصل الروحي بين الشيخ والمريد، إنه التوحُّد المقدّس لا لأجل مصالح مادية ولا لأغراض دنيوية، ولكنه التوحُّد لرعاية حقوق الله، والارتقاء بمستوى الرؤية الإنسانية لكي تكون شاملة وعميقة وراسخة.

وأجمل مافي هذه المجالس التي تمتد من العشاء إلى منتصف الليل من غير توقف أنّ القلوب فيها لا تلتفت يمنة ولا يسرة فضلاً عن الأجسام، وتتجه بكليتها إلى الشيخ كما يتجه الطفل الرضيع في أشهره الأولى إلى ثدي أمه يمسكه بيديه يرضع لبانه ويشخص ببصره إلى وجه أمه، ولا يحسُّ بمن يرقبه من قريب أو بعيد، وكأنّ هذا الكوكب بسعته لا وجود له في كيانه وينتهي المجلس، ويعود الكل إلى داره وهو في حالة من الغيبة عن عالمه المحيط، لا يسمع صوت زوجة ولا ولد، ولا تشدّه أعراض الدنيا وملذَاتها، فقد كان في نشوة وسعادة روحية، لا تدانيها لذّة أخرى مهما كانت.

ويتساءل الإنسان عن سر ذلك، فلا يجد جواباً يغنيه، ويسأل نفسه عن مفهوم السعادة وكيف يشعر بها ؟!.

وكان الحكماء والفلاسفة يتساءلون عن سرّ السعادة، هل هي مرتبطة بالملذات الحسية أم بالملذّات المعنوية، وأكدوا أنّ الملذّات الحسية تولِّد سعادة مؤقتة تتوقف بإشباعها، ولا يبقى لها أثر، بخلاف الملذّات المعنوية العقلية والروحية فإنها قد لا تجلب السعادة في البداية، ثم سرعان ما تستجيب النفس إليها، لأنها تسوق البدن من النقص إلى الكمال ومن السقم إلى الصحة ومن الجهل إلى العلم ومن الرذيلة إلى الفضيلة.

وعلَّل ابن مسكويه سبب ذلك أنّ النفس تشتاق إلى اللذات الحسيّة وتميل إليها، وفي لحظة الشوق والميل إليها يستحسن الإنسان كل شيء فيها ولو كان قبيحاً في ذاته، ولا يرى في تلك الحالة مواطن الخطأ والزلل في تلك الملذّات، وعندما تأخذ النفس حظها منها تكتشف خطأ ما ارتكبته وقبح ما أختارته وتصاب بالندم والحسرة، فتنقلب السعادة إلى شقاء، بخلاف اللذات العقلية والمعرفية، والروحية، فإنّ النفس تضيق بها ولا تشتاقها ويختارها الإنسان كارهاً وصابراً، ثم يكتشف فيما بعد لذتها وجمالها وشوقه الفطري إليها، لأنها تمثِّل الخير والكمال والفضيلة.

والفطرة النقية الصافية الطاهرة تشتاق إلى كمالها الذي خلقت عليه، ثم صرفت عنه بتأثير التربية والبيئة، فتعتاد ما هو مخالف لنقاء الفطرة، فإذا اكتشفت طريقاً للكمال اشتاقت إليه وتعلّقت به واطمأنت له.

وقلب الإنسان هو مرآة للحقائق، فإذا اتَّسخت المرآة بسبب السلوكيات المنحرفة أصبح القلب محجوباً عن النور الإلهي والقلب المحجوب عن هذا النور لابدَّ إلا أن يكون مظلماً، كالليالي المظلمة التي يحجب عنها نور القمر.

وتتمثل مهمة الشيخ في إضاءة الشمعة في ليل مظلم، فإذا شعرت القلوب بالنور يطل من بعيد عليها ويطارد ظلامها فسرعان ما تتعلَق به، وتمسك بتلك الشعلة، وتستزيد من نورها، تطلعاً إلى الكمال الذي فطرت عليه.

وكثيراً ما كان يحذر إخوانه من الغرور والكسل والتوكل المذموم، ويدعوهم إلى أن تكون همتهم عالية، وأصحاب الهمم يقطعون الطريق بسرعة، ويتجاوزون كل المشاق، أما أصحاب الهمم الناقصة فسرعان ما يتوقفون في بداية الطريق عند أول حفرة تعترضهم أو هضبة تواجههم، فيختارون الراحة على الجهد، ويمكثون حيث هم في مواقفهم راضين بما هم فيه، لا يدفعهم طموح إلى الأفضل ولا يشدهم نور أمل يتراءى لهم من بعيد.

( الزيارات : 672 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *