منهجية السيد النبهان التربوية

أسس منهجية الشيخ التربوية

ارتبطت التربية الصوفية بالتزام الأدب في السلوك، والأدب مع الله أولاً وهو الأساس ويتمثل بأداء الواجبات والامتناع عن المحرَّمات والأدب مع الناس بالتعامل معهم بحسن الخلق والالتزام بالصفات السلوكية المحمودة والتوقف عن الصفات المذمومة، فلا تربية صوفية مع انتفاء الأدب، والصوفية إذا لم تقترن بالأدب فهي ليست صوفية، لأن التربية الصوفية تهتم بحسن الخلق لقول النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أبي هريرة إنما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق ولقوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي هريرة: «إنَّ أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً».

وخصَّص الإمام الغزالي الجزء الأول والثاني من كتابه: إحياء علوم الدين لبيان الأدب في العبادات والعادات، والأدب في العبادة أن تؤدي العبادة بالكيفية الصحيحة التي أرادها الإسلام، ليس بشكلها الظاهري المتمثِّل في الالتزام بالأركان والشروط، فهذا أمر مفروغ منه ويرتبط بالضوابط الشرعية التي شرحها الفقهاء، وإنما بحقيقة العبادة، وما يجب أن يرافق فعل الحواس من التزام بأخلاقية العبادة واحترام للفضيلة في كيفية أدائها، وأول ما يجب في العبادة الطهارة والنظافة والخشوع وحضور القلب والالتزام بالمواعيد وعدم الرياء والتظاهر بالطاعة والخشوع للتقرب إلى الناس ومراقبة الله في أداء العبادة على الوجه الأكمل، ومحاسبة النفس عن كل خاطرة مذمومة ونيَّة سيئة تفسد العبادة وتسيء لمفهومها، فلا عبادة مع انتفاء الالتزام بآدابها وأخلاقياتها وسننها وأهدافها، والعبادة التي تؤدَّى بغير الأدب المطلوب فيها لا تثمر ولا تزهر ذلك الأثر النوراني الذي أشرق في القلوب سعادة وسروراً، ولم يختلف الفقهاء في وجوب الالتزام بالأدب في أداء العبادات، في الصلاة والصوم والزكاة، والحج، فمن أدى صلاته ولم يخشع قلبه فصلاته لا تثمر ذلك الصفاء الذي تحدثه الصلاة في نفسية العبد، والزكاة التي يؤدِّيها المزكِّي، مقرونة بالمنِّ والإذلال هي تكبّر وإجحاف، والصوم الذي لا يقترن بالإمساك عن الفواحش والمعاصي والآثام ليس صوماً، وإنما هو مجرَّد إمساك عن الطعام والشراب، وهو قد يصح عند الفقهاء ولكنه غير كامل عند الصوفية لانتفاء أداء الصوم بالأدب المطلوب فيه، والحج الذي لا تقترن أداء المناسك فيه بالهيبة من الله والتقرب إليه والإحساس العميق بعظمة الكعبة والسجود القلبي في كل خطوة أمام عظمة ذلك الرمز العظيم لبيت الله الحرام لا يمكن اعتباره حجاً مكتمل المعالم محققاً الغاية المنشودة منه، ولابد من إخلاص النية لله تعالى في كل أداء نسك وعبادة والتفكر بأسرار العبادة واستشعار الذل بين يدي الله تعالى الخالق الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

أما الأدب في العادات فلا حدود له، فآداب الضيافة تُدخل البهجة على النفوس وتجعل من سلوكية الطعام خُلقاً راقياً يُشعر النفس بسموِّها الإنساني، وآداب الزواج تجعل العلاقة بين الزوجين أكثر قوة وتماسكاً، وآداب الحديث تُحدث الألفة والمحبة بين أفراد المجتمع، وآداب المعاملات التجارية تُوجِد الثقة بين المتعاملين، وتقيم الاحترام بيهم، وآداب الجوار تبني علاقات الأخوّة بين السكان، وتجعل منهم خلية متعاونة على الخير، وحسن التساكن، وآداب الأسرة تجعل منها كتلة بشرية الأسرة متحابة متماسكة متكافلة متناصرة يسعى بعضها لخدمة الآخر، وآداب السفر تجعل السفر متعة وتقيم بين المسافرين علاقة ود ومحبة وصداقة، وآداب الأمر بالمعروف تجعل الكلمة مقبولة، وتصل النصيحة إلى القلوب فتستجيب لها وتتأثر بها.

والتربية الصوفية التي لا تعلّم الأدب في السلوك ولا ترتقي بمستوى تفكير الإنسان، ولا تنهض بهمَّته، ولا تُصلح له معاييره في الفهم والسلوك ليست صوفية حقة، وإنما طقوس متوارثَة، ومجالس متعة وتسلية، لا تختلف عن المجالس الأخرى التي يعتادها الناس في حياتهم لقضاء أوقات فراغهم، وعندما تفقد الصوفية صفاءها ونقاءها تصبح عصبية مذمومة تتناصر للدفاع عن أفرادها.

ولا يمكن لمجالس الصوفية أن تكون مجالس للسماع والإنشاد تقدم فيها موائد الطعام الشهية، ولا تكون مجالس صفاء ومعرفة ورقي، والمجالس لا تجمَّل بمشاعر الفرحة الناتجة عن الغناء والطرب والطعام وإنما تجمَّل بما يحس به كل فرد من سمو روحي يحرره من قيود الغريزة ويرتقي به إلى مستويات عليا من الإحساس بقيم الخير التي تغمر كيانه، فيمتد فضاؤه الإنساني عبر المحيطات والبحار النائية، فيجد في أعماقه الإنسانية الرحبة المشبعة بمشاعر التراحم والتكافل، في رحلة إنسانية، تحرر الإنسان من مطامعه وأحقاده وترتقي به إلى ربه، فيشعر بعظمة الكون الفسيح، ويسجد قلبه لله تعالى قيّوم الأرض والسماء الذي لا تأخذه سنة ولا نوم.

والأدب هو ثمرة حسن الخلق، فمن حسنت أخلاقه كثر أدبه، والتزم بطريقة عفوية من غير تكلّف بما يوجبه الأدب عليه، من أداء واجباته على أفضل ما يكون، نحو ربه ونحو مجتمعه المحيط به.

وأول ما يبتدىء به الصوفي الحق أن يجاهد نفسه، وهو الجهاد الأكبر الذي يعجز عنه معظم الناس إلا من أنار الله قلبه بنور الإيمان وشرح صدره لِقِيَمِ الحق والفضيلة.

والأدب هو الثمرة المرجوَّة من كل ما تدعو إليه الصوفية، ومن كل مجاهداتها ورياضتها، والمعرفة التي تعتبر الغاية المرجوة لا تتحقق إلا بشرطها الأساسي وهو التزام الأدب والتحلِّي به.

التزام الأدب في السلوك:

وأول خطوة في منهج الشيخ وفي تربيته هي التزام الأدب والتمسك به، وكان يتسامح في كل شيء ما عدا «قلة الأدب» وأول كلمة قرأتها في طفولتي هي كلمة مكتوبة في لوحة معلّقة في غرفة الشيخ هي «أدب يا هو»، وما زالت اللوحة معلّقة بجانب ضريحه حتى الآن، وأظنها ستبقى في مكانها ما دام الضريح قائماً. معبرة عن مكانة الأدب في صحبة الشيخ.

هذه الكلمة الصغيرة تُلخِّص منهج الشيخ وتعبِّر عن شخصيته، وكان يطلب من إخوانه أن يكونوا كما شاؤوا في مظاهرهم، فالأدب لا يكون في المظاهر الخارجية ولا في كلمات المديح ولا في تكلّف الأدب بكيفيات متصنّعة، وإنما يتمثل الأدب في القلوب الذي تستشعر الأدب في كيانها، ولا تلتفت يمنة ويسرة، فالتفات القلب عن الحديث والمجلس بخاطرة خارجية منافٍ للأدب.

فمن أدى صلاته والتفت قلبه عن الصلاة إلى غير الصلاة فهو من قلة الأدب، وقليل الأدب محجوب عن ربه، ولو أدى الصلاة بأركانها وشروطها، والالتفات حجاب عن جميع الأحوال، سواء كان الالتفات لدنيا يصيبها أو لامرأة يحبها أو لولد يتعلق به أو لجاه يشده أو لمنصب يغريه أو لمشيخة يتطلع إليها، وهذه الحجب تحجب القلب عن الأنوار التي تعقب الطاعات.

وكلمة «انشغال القلب» كانت تتردد كثيراً في مجالس الشيخ، وكان يحذر من انشغال القلب، والانشغال هو حجاب، ولابد من التغلب على هذا الانشغال باليقظة الدائمة والصحبة الطيبة التي تشعرك بالصفاء، ولا تعكر قلبك بما يكدره وينشر فيه الظلمة.

والخُلُق هو صورة الباطن، ولا يُدركَ الباطن إلا بما يظهر على صاحبه من سلوك، إذا كان الباطن جميلاً أثمر على الظاهر سلوكيات الأدب، فكان أديباً مع الله ومع أسرته وأصدقائه وجيرانه وتلامذته كما التزم بالأدب في صلاته وزكاته وصومه وحجه.

فالأدب هو ثمرة ما يجري في الباطن، فمن حسنت سريرته حسن خلقه، وكما يحرص الإنسان على صورته الظاهرة المتمثلة بخَلْقه في ملامح جميلة، كطوله وتناسق هيئته، وكمال بدنه، فإنه يجب أن يحرص على صورته الباطنة المتمثلة فيما تنطوي عليه سريرته من مكنونات مخبوءة وخواطر قلبية داخلية وصفات محمودة وممدوحة.

ولم يعتمد الشيخ في منهجه في التأديب على الأمر والنهي، وإنما كان يعلمهم الأدب بسلوكه معهم، وأدبه في مخاطبتهم والتلطف بهم، واستمالة قلوبهم إليه بالإحسان إليهم والتجاوز عن أخطائهم وتجاهل السيء من سلوكهم وحفظ أسرارهم، والاهتمام بأمرهم، وإشعارهم بحبه لهم، فكان معهم كالأب العطوف الذي يمسح عن عيونهم دموع همومهم، ويفتح قلبه لما يثقل كاهلهم من آلام وأحزان، وكان يناديهم بأحب الأسماء إليهم، ويرعى أطفالهم الصغار إشعاراً لهم بالمحبة والرعاية، لا سيما إذا مرض أحدهم زاره في مرضه وإذا أثقله همّ شاركه في ذلك الهم، وإذا وجده حزيناً سأله عن أحواله وخفف عنه ما يحزنه.

لم ينتقد أحداً من أصحابه قط ولو ارتكب أكبر الأخطاء، وكان يكتفي بإشارة عارضة يومىء بها إليه يعقبها نصح عام يفتح أمامه باب الأمل ويبعده عن اليأس لئلا يتسبب اليأس في انقطاع ينابع الخير في كيانه، وكان يطوِّق من يستبد به الياس والقنوط بالدفء والمحبة والألفة لكي يعود إلى رحاب أسرته الروحية، فلا ينقطع عنها بسيطرة اليأس على نفسه.

وكان قلبه يتسع لكل إخوانه، محبة لهم وتعاطفاً معهم، وكانوا يتعلمون منه الأدب لا من كلماته ولكن من خلقه وأدبه، وكان يؤثرهم على نفسه، ولا يغلق بابه دونهم أبداً، فحياته ملك لهم ويعتبر أنَّ السيادة لا تتحقق إلا بالخدمة للآخرين، والتعاطف معهم.

ولم أسمعه قط في مجالسه الخاصة وفي أحاديثه الشخصية يتكلم بسوء عن أحد إخوانه، مهما صدر منه من أخطاء ولم يكن يسمح لأحد أن يتكلم عنهم بسوء في مجالسه، فإذا تطفَل أحد بكلمة ناقدة عن أحد من أصحابه أعرض عن سماع تلك الكلمة الناقدة، وكان يدعو إخوانه إلى أن يعيدوا إليه من أعرض، وإلى أن يقرِّبوا إليه من ابتعد، وأن يلتمسوا العذر لمن أساء مع الدعاء بالمغفرة لمن أخطأ، وأن لا يحكموا على ظاهر الأمور فربَّ معصية تولَد ذلاً وانكساراً ورب طاعة تولّد غروراً واستكباراً.

وكان من أشد الناس حرصاً على ستر عيوب الآخرين، وكان كل فرد يشكو إليه همومه، سواء في علاقاته بزوجته وأولاده وإخوانه أو في علاقاته مع إخوانه وأصدقائه، ويكشفون له كل أسرارهم، وما تنطوي عليه قلوبهم من خواطر واستعدادات، فكان يسمع كل ذلك، ويستر تلك الأسرار، وكأنه لم يسمع شيئاً.

وأكثر ما كان يردده في المواقف الصعبة كلمة: «يا مقلب القلوب» يرددها مرات… إلى أن يشعر بالسكون النفسي، وكانت هذه اللفظة معبّرة عن حالات التحول والقلق.

ولم يكن ينسب لنفسه الأمر ولا النهي ولا التعليم، وإنما كان يقول: أمرتنا الشريعة ونهتنا الشريعة، وأدبتنا الشريعة وعلّمتنا، لكي تصل رسالة التأديب إلى القلب صافية، وتستجيب النفس لها بدون أي عوائق، لأنَّ النفوس التي لم تصل إلى درجة الكمال قد تأبى التأديب والتوجيه، وقد لا تقبل النصح والتسديد، لأن من طبائع النفس البشرية ألا تستجيب لكلمة الحق، وقد تتدافع النفوس وتتنافر، ولابد للمربي أن يحترم مشاعر الآخرين، ويراعي طبائع النفوس.

ولا يمكن للمربي الذي لم يتخلِّق بخلق الأدب، ولم يجسّد ذلك الأدب بكلامه وسلوكه وأفعاله أن يُوصل رسالته إلى الآخرين، فالمربَي هو القدوة بالنسبة لإخوانه، فإذا التزم بآداب الشريعة التزم أصحابه بذلك، وصار لهم قدوة ومثلاً.

التمسّك بأحكام الشريعة:

يقوم الفكر الصوفي على دعامتين، الشريعة والحقيقة، والشريعة مرتبطة بالتكاليف والأوامر الشرعية التي أمر الله تعالى بها عباده، والحقيقة معبِّرة عن مشاهدة آثار الربوبية، ولا يستقيم أمر الحقيقة إلا بالانقياد لأحكام الشريعة، فإذا وقع تجاوز الشريعة في البحث عن الحقيقة أدى الأمر إلى الانحراف والضلال.

ومعظم الذين سلكوا طريق الصوفية ولم يتقيدوا بأوامر الشرع ولم يلتزموا بنواهيه، ولم يعرفوا الحلال والحرام ضلّوا طريقهم، لأن العلم يعني معرفة الشيء على ما هو به، والجهل نقيض العلم، فالعلم يثمر المعرفة والاستقامة، والجهل يثمر الضلال والانحراف.

والعلم محمود في جميع الأحوال لأنَّه يثمر المعرفة، وقد يذَّم العلم لا لذاته ولكن لصفة فيه، كالعلوم الضارة للإنسان أو التي لا تفيده في حياته، كعلم السحر وغيره من العلوم المذمومة، فغاية العلم الثمرة، وأول ثمرات العلم معرفة الله، ولذا فقد رفع الله شأن العلم والعلماء، قال تعالى: {{ع94س85ش11ن81/س85ش11ن662}.

والعلماء الراسخون في العلم هم العلماء الذين أوصلهم علمهم إلى معرفة الله، والمعرفة تولَد اليقين بأنَّ كل الأشياء من الله تعالى، هو مسبِّب الأسباب، والبشر مسخَّرون من الله، وهم وسائط تؤدي مهمتها بأمر الله، ولا يجوز أن تحل الوسائط المسخَّرة في قلب العبد، فالشكر لله والحمد لله، لأنه هو المنعم والمتفضّل.

وكل ما يجري في الوجود فهو من الله، فقد خلق الله الخَلق وأوجد لهم قدرتهم {{ع94س73ش69ن1/س73ش69ن44}.

والعبد لا يخرج عن كونه من مراد الله تعالى، فلا يجري في الكون شيء إلا بإرادة الله.

وتجب معرفة العلوم الشرعية التي يحتاج إليها العبد، وأهمها ما يتعلق بمعرفة الله تعالى وبمعرفة أحكام العبادات وأحكام الحلال والحرام في المعاملات، لأن العبد يحتاج إلى هذه العلوم، وعلى السالك أن يتمسّك بأحكام الشريعة، وألاّ يخرج عنها، لأنها تعصمه عن الخطأ، وتبيِّن له معايير الاستقامة والكمال.

كان الشيخ يدعو إخوانه للتمسك بأحكام الشريعة كما جاءت في القرآن والسنة وإجماع المسلمين ومنهج السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ولا تتحقق الاستقامة إلا بالتزام بأحكام الشريعة، والاستقامة هي الكرامة التي يكرم بها أولياءه.

ولم يكن يحب الدخول في أمور الخلاف والجدل، لا في قضايا العقيدة، ولا في الأحكام الفقهية، بل كان يكره الجدل، ويدعو إلى الانصياع للحق، والمسلم الحق هو الذي يبحث عن الحق، وهو كمن ينشد ضالة يبحث عنها فإذا وجدها أمسك بها، ولو كان الحق إلى جانب الآخر، والجدال بين الفقهاء الذي يراد به الغلبة والنصر دليل على غفلة القلب وقسوته، وهذه ظاهرة مَرَضِية يجب التغلُّب عليها بتزكية النفوس.

ويعتبر الاستكبار عن الانصياع للحق دليل ضعف، والأقوياء من الرجال يرجعون إلى الحق عندما يكتشفون أن الحق قد اتضح لديهم، وكان يكره الجدال في مجالسه، لأنَّ الجدال دليل غفلة ويأتي بالأحقاد، والنفس التي تزكَّت تبتعد عن الجدال وتدافع عن الحق.

وإذا أشكل عليه أمر فقهي يسأل العلماء من إخوانه عن آراء الفقهاء في ذلك، أو يطلب منهم تحقيق هذه المسألة، والاحتكام لرأيهم، ولم يكن يحب الأخذ بالرخص والآراء الشاذَّة في المذاهب، ويريد أن يكون مع الجماعة، وكان دوماً ينشد العزائم في الأمور كلها.

وإذا ظهر له أمر مخالف لما عليه رأي المذاهب الشافعي ألزم نفسه بما اقتنع به، ولم يأمر أصحابه باتباعه تاركاً لهم حرية ما يأخذون به، وبناءً على هذا كان لا يصلي صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة، ويأمر أمام المسجد بأن يصلي الظهر بمن أراد ذلك.

وكان يحترم رأي المذهب ولا يحب الخروج عليه ومخالفته، واذكر أنه كان يقيم صلاة الجمعة في مزرعة خارج المدينة، وكان يصلي أصحابه معه الجمعة بأركانها وشروطها، فلما أخبره أحد إخوانه العلماء أن جمهور الفقهاء يشترط العدد وإذن الإمام لإقامة الجمعة قال له: نوقف الجمعة في المزرعة ونعود إلى المسجد احتراماً لرأي جمهور الفقهاء.

ولم يكن يشجع الخروج على رأي المذهب، أو الأخذ بالرخص، ويريد الأفضل والأكمل، لكي تظل هيبة الفقهاء قائمة في قلوب اتباعه، فلا يجرؤون على مخالفة ما يقولون، ويرى التمسك بالشريعة مما يعصم عن الخطأ والانحراف، ولا يحب التأويل المخالف لما عليه جمهور المفسرين.

وكان يلتزم بالسنن والنوافل كما يلتزم بالفروض والواجبات، في الطهارة والعبادة، ولم يترك سنة مؤكدة أو غير مؤكدة قط، ويؤدي السنن وكأنها جزء هام من حياته لا يختلف من حيث الأداء عن الواجبات، ويتمسك بآداب الطهارة والعبادة من غير تكلّف.

لم يتخلَّف قط عن أداء صلواته الخمس جماعة في منزله مع أسرته أو مع إخوانه في المسجد أو في الأماكن الخاصة والعامة، ولم أره يصلي الفرض منفرداً في حضر أو سفر أو صحة أو مرض، وكان يقوم في أوقاتها ويؤم الآخرين، ولم يترك صلاة الضحى أو غسل الجمعة بتأديتها أو صلاة التراويح والوتر بل كان يؤديها كلها وكانت الصلاة تقام بكل شعائرها وآدابها في أي مكان كان فيه، وكأنها الأساس والركن الأول في حياته، ويرفع الأذان وتقام الصلاة بكامل شعائرها وأورادها وأدعيتها.

وكان من عادته أن يخصِّص صباح يوم الجمعة للإعداد لصلاة الجمعة بكل آدابها، يأتيه الحلاّق بعد صلاة الفجر إلى داره، وعند الضحى يدخل إلى الحمَّام لمدة ساعة، ثم يخرج ويرتاح لمدة نصف ساعة في سريره، ثم يصلِّي صلاة الضحى ويقلِّم أظافره، ويتناول طعامه، ثم يخرج إلى الصلاة بأجمل هيئته ويصلِّي الصلاة في مسجده المعتاد، ثم يستقبل إخوانه وأصدقاءه، وبعد ذلك يعود إلى داره.

لم يتساهل قط في أدب من آداب الشريعة، ويعتبر التمسك بآداب الشريعة كالتمسك بأحكامها، ولا تؤدى شعائر الشريعة إلا بكامل آدابها، في العبادة والنظافة والطهارة والصلاة والصوم وآداب الطعام وآداب المجالس وآداب العلاقات الاجتماعية، وآداب الحديث وآداب الدعوة وآداب التلاوة وآداب الدعاء والاستغفار وآداب السفر وآداب الصحبة والصداقة والجوار.

ويؤكِّد في مجالسه أنَّ من يترك أدباً من آداب الشريعة لا يمكنه أن يدرك معنى الشريعة، ولا يمكنه أن يصل إلى صفاء القلب، ومثله في ذلك من يدخل بيتاً بلا سراج فما يفسده بسبب جهله أكثر مما يحسنه، وأنَّ الذين أضاعوا الأصول حُرِموا من الوصول، فمن أراد الوصول إلى الله فعليه أن يعرف أصول الشريعة وفروعها، لئلا يقع في الأخطاء التي تدفعه إلى المزالق والضلالات، ولابدَّ في البناء أن يكون قائماً على دعائم ثابتة، وركائز صامدة فإذا كانت الدعائم والركائز ضعيفة فسرعان ما ينهار البناء أمام العواصف القاسية.

ولا تُفهَم أحكام الشريعة إلا بالتزام آدابها كاملة من غير أي تفريط بها أو تخطِّيها، لأنَّ تلك الآداب هي روح الشريعة، وهي الغاية منها، والذين فرّطوا في الآداب زلُّوا وسيطرت عليهم مشاعر الغرور، وانقادوا لأهوائهم ونزواتهم، ثم أخطأوا في المجاهدات فقادتهم إلى الإحباط واليأس، وأخطأوا في المقامات والأحوال فسيطرت عليهم الأفكار المنحرفة.

ولا يشترط في السالك أن يكون عالماً متمكناً في علوم الشريعة فهذا شرط غير ممكن، ولكن لابدَّ له من معرفة الأصول المرتبطة بسلامة الاعتقاد عن طريق معرفة ما يجب على الإنسان أن يؤمن به من مبادىء الإسلام، وأصوله، والاحتكام إلى الله ورسوله، والتزام الطاعة فيما أمر الله به ونهى عنه، وأن يميز بين الحلال والحرام في أنواع السلوك فلا ينطق في قوله إلا بما أقرّته الشريعة، ولا يسلك أي سلوك حرّمته الشريعة، وما انحرف منحرف إلاّ بسبب جهله بأصول الدين، وقواعد الإيمان.

فالصوفية التزام ومنهج لتحقيق الصفاء، وليست مطيَّة لتبرير العجز والكسل، وهجر آداب الشريعة، وهي طريقة للتقرب إلى الله وليست مطية للشرك به والانحراف عن مبادىء العقيدة، وهي تربية غايتها النهوض بالإنسان وليست مجرد طقوس وتقاليد تسيء للدين وتنشر في المجتمع قيم التواكل والتحاسد والتزاحم على المصالح المادية باسم القيم الروحية.

محاسبة النفس:

كان الشيخ يحضُّ إخوانه على محاسبة النفس كخطوة أولى وضرورية لتزكية النفوس وإصلاح القلوب، انطلاقاً من قوله تعالى: {{ع94س95ش81ن1/س95ش81ن444ع94س95ش81ن5/س95ش81ن001} [الحشر: 18] والمحاسبة دليل اليقظة، وعدم المحاسبة دليل الغفلة، وغاية المحاسبة معرفة الربح والخسارة، فإن وجد ربحاً استزاد من الأفعال الرابحة وإذا وجد خسارة تلافى أسبابها لئلا تتكرر خسارته.

وهناك واجبات أمَرَ الله تعالى بها ومحرَّمات نهى الله عنها، وهناك فضائل ورذائل، وهناك خير وشر، ومحاسبة النفس في كل مساء تساعد على معرفة ما فعل في يومه ذاك، من خير وشر، والعبد مسؤول عما يصدر عنه، ومحاسب، ويجب ألا يضيِّع عمره فيما يضرُّه في آخرته، وكان يطلب من إخوانه أن يحفظوا سمعهم وبصرهم، وأن يمسكوا لسانهم، فهذا هو طريق تزكية النفوس وطهارة القلوب، فمن حفظ بصره من النظر إلى المحرمات ومن حفظ سمعه من كل كلمة سوء ومن حفظ لسانه من كل كلمة سوء فقد سار في الطريق الذي يقوده إلى ربه ويوصله إلى الجنة، فالإنسان مسؤول عن فضول ما يرى وما يسمع وما يتكلم به.

كما يجب على العبد أن يحفظ بطنه من الطعام الحرام الملوَّث بحقوق الآخرين، فكل طعام من مال حرام يحجب القلب عن النور الإلهي فلا يشرق فيها، والمال الحرام هو كل مال تعلّق به حق لآخر، كمال السرقة والغصب والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل والزيادات الربوية الظالمة وأكل أموال اليتامى وأكل حقوق المستضعفين، وكل مال مشبوه أو دخلته ريبه.

وعلى العبد أن يحفظ لسانه، فلا يتكلم عن أحد بغيبة أو نميمة أو يذكره بما يكره، فمن تكلم عن الآخرين بما يؤذيهم فقد ارتكب إثماُ عظيماً، وعليه أن يعوِّد لسانه على الصدق وشهادة الحق، وأن يحمد الله ويشكره، وأن يذكره في كل وقت تعبيراً عن إحسانه لعباده بما أكرمهم به من نعم.

مراقبة الله:

إذا عرف العبد أنَّ الله تعالى يراه ويراقبه في كل أعماله ويعرف ما ينطوي عليه قلبه من خير وشر أحسَّ بأثر هذه الرقابة في سلوكه، والتزم بما أمره الله به، لأنه يستحي من الله تعالى أن يراه في مواطن المعاصي والشبهات.

والعبد عند ارتكابه للآثام يستحي أن يراه أحد في تلك الأماكن فكيف إذا شعر برقابة الله عليه، فإنَّ حياءه من الله يزداد، ويخشى الله ويهابه، والإنسان لا يخاف إلا إذا ارتكب إثماً، فما يخيف الإنسان هو الإثم.

والقلب إذا غلب عليه حب الله تعالى والتعلق به فإنه لا يلتفت إلى غيره من الخلق، اكتفاء بما شُغِلَ به، وإذا ضَعُفَ تعلّق القلب بالله تعالى فقد يلتفت القلب إلى الأهواء والملذّات الحية، وهذا القلب إذا كان نقياً وطاهراً فإنّ تذكيره برقابة الله عليه يولِّد لديه شعورين، الحياء من الله والهيبة منه، وفي كلتا الحالتين تشعره الرقابة بوجوب رعاية حقوق الله عليه.

أما القلوب القاسية والمريضة فإنها لا تشعر برقابة الله عليها وإذا ذكِّرت بذلك أعرضت عن الحق، وزاد انغماسها فيما هي فيه من الشهوات والملذّات.

وعندما يربى الطفل على الإيمان والعقيدة الصحيحة، ويعتاد منذ طفولته أن يراعي حقوق الله في سلوكه، ويستشعر في قلبه أن الله تعالى معه ويراه فإنه يشعر بأثر رقابة الله له ويستحي أن يراه الله في مواطن الإثم.

كانت هذه المعاني الراقية والسامية تثير في القلوب مشاعر روحية عجيبة، كانت توقظ النفوس من غفوتها وتسقي القلوب بمياه عذبة من القيم العالية، فيرتقي الإنسان من عالمه المدنَّس بالأوحال إلى الفضاء الأعلى الذي تتحرر فيه النفوس من عقالها وتحلِّق الأرواح في السماء فرحة سعيدة بلقاء ربها، وما أجمله من لقاء.

وإن الأرواح لتشتاق كما تشتاق الأرض، الأرض تشتاق لماء الحياة لأنها تجد فيها سبباً لعطائها، فإذا عطشت الأرض أصفرَّت وتشقَّقت وساء منظرها، متطلعة إلى ماء الرحمة من السماء يعيد إليها بهاءها ويبعث فيها إرادة الحياة، فتهتز طرباً وفرحة وسعادة، وكذلك النفوس البشرية تحنُّ إلى أمطار الرحمة المبشِّرة، التي تنهض بها إلى العوالم العلوية، حيث الفضاء الفسيح الذي لا تقيِّده العقول، ولا تحجبه نظرات قاصرة، لا تدرك من الوجود إلا حيث تمتد قدرات العيون على الإبصار.

ولنتأمل قليلاً ملامح ذلك العبد المستضعف بقدراته المحدودة وهو يرى الله تعالى ينظر إليه ويراه ويحيطه برعايته ويتوَّلاه، فيأتيه شعور غريب عجيب كالبرق السريع يدقُّ بابه، يعانقه ويهمس في أذنه سرَّاً من الأسرار، ويغادره كما جاء، ويحاول أن يمسك به فلا يستطيع ذلك، فقد سلَّمه الأمانة وهمس في سره بما جاء يحمله، فينتاب ذلك السالك شعور عجيب، لا يدري هل هو شعور الفرحة أو الحزن أم شعور الرجاء أو الخوف، أو شعرو الهيبة أو الأنس، فيصرخ أو يبكي أو يقفز من مكانه في الهواء كأنه يحاول أن يلحق بذلك الزائر الوارد، ويعود إلى بيته وهو في حالة استغراق وذهول، ويشعر في أعماق كيانه بأنس عجيب، ويطوِّق بساعديه الدنيا المحيطة وكأنها في قبضته، وتحيطه أسرته الصغيرة بالرعاية والحب، فلا يلتفت إليها، ويطوِّقه الحنين إلى ذلك الهمس العجيب الذي ملك عليه لبَّه، ويتعلَّق به، ويبقى مشدوداً إليه، وتبتدىء رحلته الجديدة من عالم قديم ألِفَ ظلماته إلى عالم جديد تشرق فيه الأنوار في قلبه، فتحيل وحشته إلى أنس بربه، ويشعر بالدفء العجيب يدعوه في كل ساعة إلى ذلك الحضن الروحي الذي يطوقه ويشد أزره.

تلك هي الأحوال التي يرتقي بها السالك سلالم السموّ إلى الله تعالى الذي ينادي عباده في كل لحظة أن يؤمنوا ولا يشركوا به أحداً، وأن يعملوا الصالحات من الأعمال وأن يتواصوا بالصبر والرحمة.

ذلك هو الخطاب الذي يوقظ القلوب من غفوتها، ويطهرِّها من كل ما هو مذموم من الصفات والخواطر، لكي يكون العبد مطية للخير، وجسراً للفضائل ويسعى في خدمة الخلق وهم عيال الله، يساعدهم ويناصرهم ويدعو للتآخي الإنساني ونبذ السلوكيات الخاطئة والأنانيات الضيقة.

وفي هذا المجتمع تُحَقِّق الإنسانية امتدادها وتَجِدُ فضاءها بعيداً عن الأقليميات الضيقة والمدافعات المذمومة والمغالبات التي تجسد تخلُّف القيم الإنسانية وتراجع المعايير الأخلاقية.

ما أروع ما كان الشيخ يقوله لأصحابه عن استشعار رقابة الله على قلوبهم وسرهم، كان يقول ذلك بكلمات هادئة صادقة لا تكلّف فيها، كل حرف يخرج بهذا الصدق والإخلاص ينبت في الأرحام ذلك الكم الهائل من المشاعر والعواطف، وتستقر الكلمات في الأعماق وتحدث في القلوب ذلك الأثر العظيم من التأثير في السلوك، إلى أن ينقلب ذلك الإنسان الأناني الجشع إلى رمز إنساني يفيض بالرقَّة والرحمة، ويرفع شعار الإخاء والإيثار من غير تكلّف، وكأن الدنيا غير الدنيا، وكأن البشرية قد استحالت إلى كتلة متراصَّة متكافلة، يحمل القوي الضعيف والغني الفقير، وتزول الحجب والحواجز، وتمتد الجسور فوق الوديان السحيقة رافعة شعار التواصل الإنساني ومبشرة بإنسانية جديدة، تقدمها التربية الإسلامية كمنهج للإصلاح الاجتماعي والإقلاع من مطارات التخلّف إلى الفضاء الإنساني في هذه القرية الكونية التي ضاقت أحياؤها المجاورة بالمجازر الحربية المخجلة والمنازلات اللاأخلاقية التي أرعبت أطفال المهاد ورفعت شعارات الحروب على الرايات، وأطلقت سهامها في كل مكان.

ولابد من العودة إلى تربية روحية، تعيد النقاء والصفاء إلى ملامح عصرنا، تهذِّب الطباع، وتطوَق الشر، وتنشر الخير، وتَعِدُ مجتمعنا المعاصر بسلام يحققه العدل، وبأمن يحميه المستضعفون في الأرض، الذين سيمكِّن الله لهم أمرهم، وسينصرهم على رموز الشر.

( الزيارات : 1٬318 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *