فقه يتجدد بجهد العقول..

 كلمات مضيئة..فقه يتجدد بجهد العقول.ز

يعتبر علم الفقه من اهم العلوم الاسلامية لانه العلم الذى تعرف به احكام الله تعالى المتعلقة باحكام المكلفين من حيث الوجوب اوالتحريم او الندب او الكراهة او الاباحة,  ويستدل على تلك الاحكام بما ورد فى القران والسنة , ولكن هذا الفهم يحتاج الى ملكة فقهية راسخة بالاضافة الى علم بتلك الادلة من حيث الثبوت او الدلالة , فالفقه هو الفهم والعلماء ليسوا سواء فى ذلك الفهم , فالملكة تحتاج الى عاملين اثنين هما الموهبة اولا وحسن التكوين والتعليم ثانيا , التعليم وحده لا يكفى والموهبة ايضا لا تكفى ولا بد من توافر الشرطين , هناك علوم تعتمد على الحفظ  والرواية كعلم الحديث , وهناك علم يحتاج  الى دقة الاستدلال , ومن الطبيعى ان تتعدد مدارس الفقه وتختلف اراؤها , واهم اسباب ذلك الاختلاف هو ذلك التطور الكبير فى المجتمعات الاسلامية , ولكل مجتمع خصائصه وحاجاته , وهناك سبب اخر وهو اختلاف خصائص العقول فى مدى استعدادها الفطرى , فهناك من يترجح له ان ياخذ بظاهر النص كما هو ويلتزم به,وهناك من يترجح له التوسع فى الراي والاجتهاد مستعملا الاقيسة والحاق الفروع بالاصول , وهذا منهج يحتاج الى تلك الملكة الفقهية التى تمكن اصحابها من حسن فهم العلل التى بني عليها الاصل والحاق الفرع بذلك الاصل , هذا جهد علمي لا يحسنه الا من اوتي سعة من الفهم , وليس كل العلماء سواء , وكل عالم هو وليد مجتمعه ويتأثر بما فيه من الاعراف والقيم وبخاصة فى مجال المعاملات , وذلك امر لا يمكن انكاره او تجاهله , اذن هناك عاملان الاول هو شخصية الفقيه وعوامل مؤثرة فيه من الاستعدادات والمحيط الاجتماعى , لا يمكننا القول بان احد الرأيين هو اولى بالحق , فالكل باحث عن الحق والصواب , وعندما يكون الفقيه تقيا وورعا وملتزما بمعايير الموضوعية ويعتمد على ادلة راجحة فيجب ان يحترم رأيه , فلا مجال للاهواء في اختيارات الفقهاء , ومن هنا نشات مدرستان الأولى هي مدرسة الحديث فى الحجاز ومن ابرز علمائها الامام مالك فى المدينة وتاثرت بلاد المغرب والاندلس بفقهه وعكفوا على خدمة الفقه المالكى تعريفا به وشرحا لارائه وظهر اعلام كبار عكفوا على التصنيف فى هذا الفقه , ولعل اهم سبب لانتشار المذهب المالكى فى الغرب الاسلامى هو الرحلة المغربية والاندلسية  الى الحج وتاثر العلماء بما كانوا يروونه بما كانوا  سمعوه  وحفظوه من الامام مالك , وكان العالم يفخر بما كان يحمله معه من الروايات التى سمعها من امام المدينة , ومن ابرز الذين حملوا الكثير من فقه مالك هو بقي بن مخلد علامة الاندلس , شيخ الحديث فى الاندلس , وقد اعد الدكتور نورى معمر كتابا عنه , وهو مطبوع وكتبت له مقدمة ,  ثم تتالت جهود العلماء فى خدمة فقه الامام مالك , وقد سعدت بالاطلاع على جهود  كثير من ائمة المالكية ومصنفاتهم , وعلل ابن خلدون سبب انتشار الفقه المالكى فى الاندلس والمغرب  بوجود تقارب بين الحجار والمغرب من حيث البداوة والحضارة , وقد ناقشت هذه الفكرة في بعض كتبى العلمىة  ورجحت ان تكون الرحلة الى الحجاز هي السبب الاقرب للصحة , وهناك المدرسة الفقهية الاخرى الاكبر شهرة فى بلاد المشرق وهي مدرسة الرأي او مدرسة العراق كما اشتهرت بذلك , ونسبت هذه المدرسة الى الامام ابى حنيفة , وتوسعت هذه المدرسة فى الاخذ بالراي واعتمدت القياس وسعة الاستدلال , والحاق الفروع بالاصول , وتأثرت هذه المنهجية بمحيطها الاجتماعى والجعرافى , وبخاصة فى النصف الاول من القرن الثانى الذى  كثرت فيه الاضطرابات السياسية  اثر سقوط الدولة الاموية وقيام الدولة العباسية , وازدهرت فى هذه الفترة ظاهرة الوضع فى الحديث ولم يعد بالامكان الثقة بالمرويات وسميت بلاد العراق ببلاد الضرب ويراد به الكذب فى الرواية ,  وكبرت شهرة ابى حنيفة نظرا لقدرته وتميزه بهذا المنهج القياسى ,  وينسب المذهب اليه بالرغم من ان تلاميذه كانوا اكثر منه شهرة وتصنيفا وتولوا اكبر المناصب القضائية فى عصر الدولة العباسية , كان ابوحنيفة يعتمد مجلس الحوار الفقهى والاستدلال , وكان من ابرز تلاميذه ابو يوسف قاضى القضاة ومحمد بن الحسن الشيبانى صاحب اهم الكتب فى المذهب الحنفى والذى تأثر به الامام الشافعى واخذ عنه فقهه ومنهجه , كان ابو حنيفة متأثرا بمجتمعه وما فيه من اعراف وقيم ومصالح , لم يكن الحديث مدونا ولم تكن هناك مدونات حديثية , وكان التدوين فى بدايته , لم يكن علم مصطلح الحديث قد ظهر ولم يكن علم الجرح والتعديل قد  اعتمد كمنهج للترجيح والتوثيق , وقد اتسع الفقه الحنفى بفضل كبار ائمته , وظهرت كتب اولى صنفها الامام محمد سميت بالكتب السته التى كانت الاصول الاولى لما كتب فيما بعد من امثال كتاب السرخسى , وظهرت كتب فيما بعد كانت من اهم كتب الفقه ومن اشهرها كتاب بداثع الصنائع للامام الكاسانى , انه الكتاب الاكثر شهرة والادق عبارة والاجمل تعليلا , وانتشر المذهب فى كثير من البلاد الاسلامية , وكان المذهب الرسمى للدولة العثمانية فيما بعد , هناك الكثير ممن ينتقد الفقه الحنفى ويعتبره اكثر  تساهلا فى المعاملات ويسرا , وليس الامر كذلك ابدا وانما هي مناهج استدلالية للبحث عن الحق ولعل الفقه الحنفى اكثر واقعية وفهما لطبيعة المعاملات ومن لا يحسن فهم المعاملات والمبايعات فلا يمكنه الفهم فيها , ولا يمكن الثقة الا باهل الاختصاص الذين يحسنون فهم ما يجتهدون فيه  , ما زالت بلاد الشام حتى اليوم تلتزم المذهب الحنفى فى الافتاء الرسمى , ويدرس الفقه الحنفى فى المعاهد والجامعات الى جانب الفقه الشافعى , وكان مما يؤلمنى فى دراستى الاولى  ان ارى  الطلاب كانوا ينقسمون الى فريقين ولكل فريق كتابه واستاذه , واحيانا يشتد التنافس بينهما والتعصب الجاهل فى امر يتطلب حسن الفهم للبحث عن الحق  , كنت اتساءل عن السر فى ذلك التباعد  النفسي فى مادة الفقه , وما زال التعصب يباعد ويفرق  ويكبر ويكون بين الشعوب والطوائف , لقد تراجع التعصب اليوم عما كان عليه ولكنه قد يستيقظ من جديد لكي يؤدى مهمته فى تفريق الامة واضعافها لكي يكون باسها فيما بينها شديدا  , ونامل ان نجد الزمن الذى يكون الفقه الاسلامى كما كان واحدا متكاملا يعبر عن مجتماته واجياله ومصالح محتمعه  ولو تعددت مناهجه لتلبى حاجات اجتماعية  , ومن الطبيعى ان تظهر المدرسة الفقهية الثالثة التى  ارسى دعائمها الامام الشافعى تلميذ الامام مالك , الذى انتقل الى العراق والتقى بالامام محمد تلميذ ابى حنيفة واخذ عنه علمه واقترب منه وسجل ما ترسح له من الاراء الفهية التى تلافى فيها ما اخذ على مدرسة العراق من تجاهل للرواية , واشتهر الشافعي باهم كتاب صنفه فى علم الاصول وهو كتاب الرسالة التى تعتبر الكتاب الاول فى التدوين الاصولى وضبط قواعد  الاجتهاد , كان الشافعى وليد منهجين فقهيين منهج مالك ومنهج ابى حنيفة , التزم الشافعى بثوابت مالك فى الرواية ووسع دائرة الرأى والقياس , ولما انتقل الشافعى من العراق الى مصر تراجع عن كثير من اجتهاداته الفقهية,  وكان له فقه جديد لا يختلف فى ثوابته عن اصوله , تراجع الشافعى عن كثير من ارائه , وهذا منهج فى الفهم جدير بان يقتدى به , فليس هناك مالا يقبل التغيير من جهد العقول , وجهد العقول يتجدد باستمرار لكي يعبر عن المصالح المرادة , من تبين له انه على خطا فيما قال به فيجب عليه وجوبا ان يرجع عما كان عليه من قبل لان المجتهد مؤتمن على الحق , ويجب عليه ان يرجع الى الحق اذا تبين له ذلك , هذا هو منهج الفقهاء الصادقين الذين يبحثون عن الحق , انتشر المذهب الشافعى فى مصر وفى كثير من بلاد الشام , الفقه هو حسن الفهم لما يريده الله من الاحكام فلا احد يمكنه ان يتجاوز ما ترجح له انه الحق والمراد,  فمن فعل  غير ذلك  فقد خان الامانة , مهمة المجتهد ان يحسن الفهم وليس كل من ادعى الفقه يحسن الفهم , وفى موطن مدرسة الراى فى العراق يبرز عالم الحديث وناصره الامام احمد بن حنيل ليؤدى دوره فى الاعتماد على الحديث فى بيان الاحكام الفقهية , كل هذا كان فى مرحلة تاريخية اقل من مائة عام , وفى عصر شهد ذلك التحول الكبير فى حياة المجتمعات الاسلامية , فى هذه المرحلة لم تكن هناك كتب مدونة ولا موسوعات فقهية , كانت هي البداية لعصر التدوين الفقهي الذى اتسع بسرعة معتمدا على جهد هذا الجيل من الائمة الكبار , وابتدا عصر التقليد,  وكأن الحياة قد تو قفت , وكل جيل كان يدرس كتب السابقين كما هي لا يخرج عنها , وكان الفقه هو فهم لما يريده النص  واصبح هو الغاية ولا تجاوز لها  وابتعدوا عن الاصل , واصبح النص الفقهي هو ما يجب الاهتمام به والعكوف عليه فهما لدقائقه وخفاياه  , كان التقليد هو منهج العصور التى رافقت تراجع الحركة العلمية , الفقه ما كان من قبل وما سيكون  فى المستقبل , حركة الفهم لا تتوقف ما دامت الحياة مستمرة , ولكل عصر فقهه وقضاياه , كان كل جيل يفخر باسهامه العلمى فى نهضة مجتمعه واصبحنا نفخر بجهد اسلافنا ونكتفى بذلك الجهد ونحاول ان نعاصره لكي نستظل به تبريرا لواقع نعيشه ,  و ما الذى يمنع جيلنا من ان يؤدى دوره فى اثراء المعرفة الانسانية , نريد فكرا يعبر عن ملامحنا ونريد فقيها يخاطبنا بما نحتاج اليه , نريد قضاء يثرى فكرنا بحاجات مجتمعنا , جيل الاسلاف احسنوا الفهم واسهموا فى خدمة مجتمعهم , ونحن مطالبون ان نتحمل مسؤوليتنا فى الفهم العميق لما نحتاجه , ما زلنا نردد ما حفظناه , ولا نضيف شيئا ونعتقد ان ذلك هو الوفاء , ليس هذا هو الوفاء , الوفاء للاسلاف ان نضيف الجديد من جهدنا لهم لكي نكون اوفياء لهم ..   

( الزيارات : 830 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *