مختارات من الحكم العطائية وبعض معانيها (1)

مختارات من الحكم العطائية وبعض معانيها (1)

AL7EKAM

‏تناولت الحكم العطائية موضوعات شتى ، وليس هناك رابط يربط بين هذه الحكم من حيث تسلسلها وترتيبها ، وكان (ابن عطاء الله) يسجل الحكمة كوحدة فكرية متكاملة ، يخاطب بها السالك  وينصحه ويعرفه بمراتب السلوك : العمل  ، والهمة ، والتدبير ، والإخلاص  ، والرضا عن النفس . .

ويمكننا أن نختار بعض هذه الحكم  ونعرف بمعانيها المستفادة :

‏الحكمة الأولى : ((من علامة الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل )).

‏والاعتماد : حصر القوة في الشيء ، وهو باعث النفس لما تريد تحصيله  ، والناس في مجال الاعتماد ثلاثة أصناف(1) :

‏الصنف الأول : معتمد على عمله ، وموقفه التقصير ،  وهذا مقام الإسلام ،وعلا‏مته نقصان الرجاء في حالات الزلل .

‏الصنف الثاني : معتمد على فضل الله ، وموقفه شهود المنة من الله  ، وهذا موقف الإيمان  ، وعلامة هذا الصنف الرجوع إلى الله وإظهار الفاقة والفقر إليه .

‏الصنف الثالث : معتمد على سابق القسمة وماضي الحكم ، وموقفه شهود التعريف ، وهذا مقام الإحسان ،  ( قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون ) (2).

‏ونقل الشيخ زروق، عن بعض المحققين قو له :

(( من بلغ إلى حقيقة الإسلام لم يقدر أن يفتر عن العمل  ، ومن بلغ إلى حقيقة الإيمان لم يقدر أن يلتفت إلى العمل ، ومن بلغ إلى حقيقة الإحسان لم ‏يقدر أن يلتفت إلى أحد سوى الله تعالى )) (3) .

‏وهذه الحكمة تفرق بين العارف وغيره  ، فالعارف إذا عمل عملاً شهد تصريف الله وجريان قضائه ، وهؤلاء لا يشهدون أنفسهم في الطاعة ولا يرون لأنفسهم حولاً ولا قوة ، وقلوبهم دائماً مطمئنة راضية لأن أنوار الحق تلوح لهم  ، ويشعرون أن الله تعالى هو المتولي لأمرهم  ، ولا ينسبون فعل الطاعة لذاتهم  وإنما يرون فضل الله عليهم فيما يقومون به من الطاعات .

‏أما الفريق الثاني الذي يعتمد على عمله ،  ويرى ذاته في الطاعات وينسب الأشياء إلى نفسه  لإرضاء حظ النفس  فإن رجاءه ينقص في حالات الزلل لأنه محجوب بعمله عن الحق سبحانه وتعالى(4)

‏الحكمة الثانية : (( إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية ، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلة )) .

‏المراد بالأسباب ما يتوصل به إلى ما ينال في الدنيا  كالتجارة سبب للربح  ، والمراد بالتجريد عدم الانشغال بالأسباب (5) وهذا خاص بمقام التوكل والتسليم والناس على مرتبتين :

‏الفريق الأول _ مقام بالأسباب : وعليه أن يأخذ بالأسباب التي أمر بها ، وأن يستقيم في اختيار تلك الأسباب لأن هذا هو مراد الله  منه ولا يمكنه أن يتطلع إلى مقام التجريد وذلك من الشهوة الخفية .

‏الفريق الثاني _ مقام بالتجريد : ومن واجبه الشكر على ذلك وقيامه بحق التجريد والأدب مع الله فإن تطلع إلى الأسباب فهذا انحطاط في الهمة وسوء ‏أدب مع الله لأن الأدب يقتضي أن يكون حيث أقامه الحق سبحانه وتعالى وألا يخرج نفسه من حال أقامه الله فيه إلى مقام آخر أعلى أو أدنى فالتطلع إلى الأعلى من الشهوة الخفية المنافية لمقتضى الأدب والتطلع إلى الأدنى انحطاط عن الهمة التي يجب أن يأخذ بها السالك . .(5)  والسالك يجب أن يلتزم بالمقام الذي أراده الله فيه ولا يستطيع الخروج عنه وإن أراد  لأنه مشدود إلى مقامه فإن تولى الله إخراجه هيأه إلى المقام الجديد وأزال ما به من خواطر وأعانه على ما هوفيه .

‏الحكمة الثا لثة : (( أرح نفسك من التدبير فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك ))

‏هذه الحكمة تلخص فكر (ابن عطاء الله) الذي يقوم على أساس إسقاط التدبير ، ونجد هذا المعنى في كل ما كتبه ابن عطاء الله سواء في الحكم أو في المصنفات الأخرى ، وكتب كتاباً مستقلاً سماه (التنوير في إسقاط التدبير) وقال في مقدمة كتابه : (( وأهم ما ينبغي تركه والخروج عنه والتطهر منه وجود التدبير ومنازعة المقادير)) . (6)

‏ثم لخص الأسباب التي تدعو العبد لإسقاط التدبير وأهمها :

‏((علمك بسابق تدبير الله فيك وذلك أن تعلم أن الله كان لك قبل أن تكون لنفسك فكما كان مدبراً قبل أن تكون ولا شيء من تدبيرك معه ، كذلك هو سبحانه وتعالى مدبر لك بعد وجودك )) . (7)

‏وقال بعد ذلك :

‏((اعلم أن الحق سبحانه وتعالى تولاك بتدبيره على جميع أطوارك وقام لك في كل ذلك بوجود إبرازك فقام لك بحسن التدبير يوم المقادير)) (8) .

‏ولم ينفرد (ابن عطاء الله) بفكرة إسقاط التدبير  فالفكر الصوفي كله ينطلق ‏من هذا المنطلق لأن التدبير في نظرهم يشغل القلوب عن الله ، وتلتفت إلى ما خلق لها ، وهنا تتكدر تلك القلوب بما انصرفت إليه من شؤون الرزق أو من شؤون الدنيا ، والسالك يجب أن يريح نفسه من التدبير لأن الله تعالى تولى ذلك عنه .

‏وتوضح هذا المعنى الحكمة العطائية التي تقول :

(( اجتهادك فيما ضمن لك ، وتقصيرك فيما طلب منك دليل على انطماس البصيرة منك )) والرزق هو المضمون للعبد لأن الله تعالى تكفل به ، وكلمة (اجتهادك فيما ضمن لك ) إشارة إلى انصراف القلب إلى طلب الرزق وليس مجرد السعي ، فالسعي أمر مطلوب ومأمور به ولا يجوز القصور عنه لأنه سبب الرزق والأسباب ضرورية ، ولا بد منها إلا أن الاجتهاد في طلب الرزق هو الانهماك في ذلك والالتفات الكلي إلى ما هو مضمون للعبد فمن انصرف بكليته إلى الأسباب كان انصرافه حجاباً له . ولا خلاف في وجوب الأخذ بالأسباب لأن ذلك لا ينافي التسليم .

‏وبعض ذوي النظر السطحي من الصوفية لا يأخذون بالأسباب ويسقطون تلك الأسباب ، ويعتبرون ذلك فضيلة ، وهذا جهل بحقيقة التدبير ، فمن أقامه الله في مقام الأسباب فعليه أن يأخذ بالأسباب وألا يتطلع إلى مقام التجريد .

‏الحكمة الرابعة : (( لا يكن تأخر أمر العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجباً ليأسك فهو ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك لا فيما تختاره لنفسك ، وفي الوقت الذي يريد ، لا في الوقت الذي تريد ))  .

‏المراد بالإلحاح بالدعاء هو تكرار الدعاء ، ويشترط في الدعاء أن يكون صادقاً وصادراً من القلب ، والدعاء في لحظة الاضطرار مضمون الإجابة لأنه يتضمن الصدق أولاً ، ويتضمن معنى الافتقار إلى الله تعالى ثانياً ، قال تعالى : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه )  سورة النمل الآية : 62 ‏.

‏وقال بعض العارفين : إذا أراد الله أن يستجيب دعاء عبده رزقه الاضطرار في الدعاء ء والاضطرار يستدعي التسليم لله تعالى.

‏والإجابة مرتبطة بحكمة الله وإرادته ، ولا يجوز للعبد أن يطلب الإجابة في الوقت الذي يريد ، فالابتلاء له حكمة وله غاية وعلى العبد أن يدرك الحكمة من الابتلاء وأن يترك التدبير لله ) .(10)

‏الحكمة الخامسة : (لا يشككنك في الوعد عدم وقوع الموعود وإن تعين زمنه ، لئلا يكون ذلك قدحاً في بصيرتك وإخماداً لنور سريرتك )) .

‏الشك دليل عدم الإيمان ، وهو علامة الغفلة عن الله تعالى ، وصاحب البصيرة لا يتطرق الشك إلى قلبه أبداً ، لأنه يدرك الحكمة ويقف موقف التأدب مع الله والاطمئنان إلى وعده ، وعلى العبد أن يدرك عظمة الربوبية وأن يطمئن قلبه إلى تدبير الله واختياره لأن الأشياء مرتبطة بحكم وأسباب ، وقد استأثر الله بعلم ذلك فلا يمكن للعبد القاصر أن يكون وصياً على إرادة الله ، وما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يحكم عقله القاصر فيما استأثر الله به لنفسه من العلم .

‏الحكمة السادسة : ((إذا فتح لك وجهة من التعرف فلا تبال معها وإن قل عملك فإنه ما فتحها لك إلا وهو يريد أن يتعرف إليك ، ألم تعلم أن التعرف هو مورده عليك ، والأعمال أنت مهديها إليه ، وأين ما تهديه إليه مما هو مورده عليك )) .

‏هده الحكمة عظيمة المعنى ، رائعة المبنى ، مبشرة لمن اختصهم الله برحمته ، وهذا يلتقي مع ما قاله الإمام الغزالي في معرض حديثه عن المعرفة  بأن المعرفة إما أن تكون عن طريق الجود الإلهي أو عن طريق المجاهدات ، وأهل الجود الإلهي هم أهل العناية الذين أكرمهم الله برعايته فكانوا في موطن الرحمة ، وهذا يفسر ما أقره الفكر الصوفي في بيان التفريق بين المقامات ‏والأحوال بأن المقامات تحتاج إلى مجاهدات أما الأحوال فهي مواهب ، وتأتي كالبروق ، تظهر وتختفي ، ويظهر أثرها في السلوك الخارجي للجوارح .

‏وهذه الحكمة تؤيد مذهب (ابن عطاء الله) في التدبير فالله هو المدبر وهو المحرك ، وهو الذي يجعل السكينة في قلوب المؤمنين لأنه يعلم نقاء قلوبهم وصفاء نفوسهم ، والله تعالى يطهر قلوب من يحبهم بالابتلاءات المتوالية  والشدائد القاسية لكي يعيدهم إليه تعالى ، ولكي يتحققوا بمقام العبودية ، ولكي يطهرهم من خصالهم السيئة  ولكي يخرجهم من مقام وجودهم إلى مقام شهوده سبحانه وتعالى ، وعندئذ تخشع قلوبهم لذكر الله  فإذا شعر العبد بفضل الله عليه فعليه عندئذ ألا يكترث بما فاته من أعمال البر ، وأن يؤدي ما عليه بالكيفية التي أمر بها فليس طريق الوصول إلى الله هو حجم العبادة ، وإنما هو الإخلاص في أداء العبادة والأدب مع الله شيء أثناء العبادة .

‏الحكمة السابعة : (الأعمال صور قائمة وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها) .

‏الإخلاص تصفية الأعمال من كل الشوائب ، بحيث يكون العمل لله تعالى ولا يمازجه شيء من الرياء والرغبة في الظهور ، والتزين والتجمل لدى الناس .

‏والإخلاص على درجات(11) :

‏الدرجة الأولى : إخراج رؤية العمل من العمل ، والخلا‏ص من طلب العوض على العمل ، والنزول عن الرضا بالعمل ، والمراد بهذا ألا يفتخر بعمله ، ولا يطالب بثوابه ، لأنه من فضل الله عليه ، وهو عبد لله ، والعبد مأمور بالطاعة ولا يطالب بالأجر والجزاء .

‏الدرجة الثانية : الخجل من العمل مع بذل المجهود ، وتوفير الجهد بالاحتماء من الشهود ، ورؤية العمل من الجود الإلهي الذي يمن الله به على ‏العباد ، فلا ينسب العمل لنفسه ، لأنه يراه من الله ، وبذلك ينفي عن نفسه ذلك العمل .

‏الدرجة الثالثة : إخلاص العمل بالخلاص من العمل ، والالتفات إلى الله ، وأن ترى فضل الله عليك فيما قمت به من العمل ، والانشغال بالعبودية لله تعالى ‏عن التطلع للثواب والجزاء .

‏قال الرندي : (( إخلاص كل عبد في أعماله على حسب رتبته ومقامه ، فأما من كان منهم من الأبرار فمنتهى درجة إخلاصه أن تكون أعماله سالمة من الرياء الجلي والخفي ، وقصد موافقة أهواء النفس طلباً لما وعد الله به المخلصين من جزيل الثواب ، وحسن المآب ) . (12)

‏والغاية المطلوبة إخراج الخلق عن نظره في أعمال البر ، بحيث يجد فضل الله عليه ، فلا ينسب الأشياء لذاته ، ولا يبحث عن الخلق وهو يؤدي تلك الأعمال ، وأهل القرب لا يكتفون بهذا المعنى وإنما يرون الإخلاص في شهود انفراد الحق بتحريكه ولا يرى لنفسه حولاً ولا طولاً .

‏قال بعض العلماء : ((صحح عملك بالإخلاص ، وصحح إخلاصك بالتبري من الحول ‏والقوة )) .

‏والإخلا‏ص نقيض الرياء فالمرائي يفعل البر لأجل أن يراه الناس لكي ترتفع مكانته في نفوسهم ، والمخلص يخرج الخلق من اعتباره ويعمل لله ، وحصن الإخلاص الخمول ، والمراد بالخمول تغييب الأسباب التي يذكر بها ‏العبد .

‏الحكمة الثامنة : (( ادفن وجودك في أرض الخمول فما نبت مما لم يدفن لا يتم نتاجه ))

يقوم الفكر الصوفي على أساس مجاهدة النفس ومقاومة حظوظها الشهوانية ، لأنها ضارة بها ، كالشهرة وانتشار الصيت والجاه والرفعة ، لأن هذه الصفات منافية للعبودية ، ولابد من تغييب النفس للتخلص من الرياء الظاهر والخفي عن طريق الإخلاص ، والسالك لا يبحث عن الظهور أو الخفاء ، فمن بحث عن الظهور فهو عبد الظهور ، ومن بحث عن الخفاء فهو عبد الخفاء ، والسالك عبد لله سواء أظهره أو أخفاه ، ومن أحب أن يعرف أو يشتهر فلا خير فيه ، وهذا ينافي الإخلا‏ص .

‏وبقدر تحقق العبد السالك بصفة الخمول _ وهو تغييب ذاته _ يتحقق له مقام الإخلاص ، حتى يتخلص من رؤية إخلاصه .

‏ومن ألزم نفسه بالخمول وغاب عن رؤية نفسه ورؤية الخلق حتى أصبح ذلك خلقاً له تزكّت نفسه ، واستنار قلبه ، ووصل إلى أعلى درجات الخصوصية ) . (13)

‏الحكمة التاسعة : ((ما ترك من الجهل شيئاً من أراد أن يحدث في الوقت غير ما أظهره الله فيه )) .

‏من الأدب أن يلتزم العبد السالك بالمقام الذي أقامه الله فيه إلى أن ينقله الله تعالى إلى مقام آخر ، وهذا من أدب العبودية ، فمن تشوق لغير المقام الذي أقامه الله فيه فقد جهل وأساء الأدب ، ولفظة الوقت في المصطلح الصوفي تفيد ما يقتضيه الحق ويجريه على العبد في الزمان المحدد ، فلا يخرج العبد عما أقامه الله فيه .

‏الحكمة العاشرة : ((لا تطلب منه أن يخرجك من حالة ليستعملك فيما سواها فلو أرادك لاستعملك من غير إخراج )) .

‏وهذه الحكمة تنسجم مع الحكم السابقة التي تدعو إلى الأدب مع الله ، والتسليم لأمره والرضا باختياره ، والغاية من هذه الحكمة القيام بحق العبودية ، وإسقاط التدبير ، والرضا بما اختاره الله ، والتسليم يريح العبد ، فلو أخرجه من حالة إلى أخرى بناء على طلبه فإنه لا يكون سعيداً بما هو فيه ، ولا يجد الراحة فيما تطلع إليه ، وعلى العبد أن يؤثر إرادة الله فيه ، فلا يتطلع إلى ما ليس مهيأ له ، ولو أراد الله إخراجه من مقامه لأخرجه بحسب ما تقتضيه الحكمة .

‏الحكمة الحادية عشر : (( ما توقف مطلب أنت طالبه بربك ، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك )) .

والمراد بهذه الحكمة أن ما اختاره الله لك أعانك عليه ، وما اخترته لنفسك موكول إليك أمره ، ومن علائم الطلب الصادر من النفس الاعتماد على الأسباب ، والرغبة في تحقيق المراد ، وانعدام الاستقامة في أسلوب الطلب ، والإلحاح والنهم في الرغبة ، وهذه الأوصاف تدعو لكي يكون الأمر المطلوب عسيراً ، ولا يحقق الراحة والسعادة ، وغالباً ما يسلط الأمر على صاحبه ويضره ويفسد حياته لوجود النهم في الطلب والإلحاح فيه وهذا من أسباب التعسير ، بخلاف الطلب الذي تستند فيه إلى ربك فإن الله بيسر أمره ، ويجعل الخير فيه ، ومن علاماته التفويض في المراد ، والتوكل في الأسباب والاستقامة في الأسلوب .

‏وهذا المعنى يظهر في الحكمتين اللا‏حقتين :

‏. من علامة النجح في النهايات الرجوع إلى الله في البدايات

. من أشرقت بدايته أشرقت نهايته .

الحكمة الثاية عشر : (( شتان بين من يستدل به أو يستدل عليه ، المستدل به عرف الحق ، وأثبت الأمر ، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه ، وإلا فمتى غاب حتى يُستدلّ عليه ، ومتى بعد حتى تكون الآثار هي الموصلة إليه )) .

‏الاستدلال على الشيء يدل على غيبة ذلك الشيء وخفائه ، فمن طلب ‏الحق فإنما يحتاج إلى دليل ، ومن شهد الحق فلا يحتاج إلى دليل ، لأنه في حالة شهود ، فالسالكون يحتاجون إلى دليل ، لأن الحق محجوب عنهم ،

وهم محجوبون عن الحق برؤية الأ غيار والآثار والأكوان ، أما أهل الجذب وهم مرادون وليسوا مريدين ، فإن الله تعالى اجتباهم وخصهم بعنايته وفضله ، وتعرف إليهم قبل أن يعرفوه ، فعرفوه وشهدوه ، وهؤلاء يستدلون به ولا يستدلون عليه ، والمحجوبون عن الحق يحتاجون إلى دليل ، لأنهم ارتبطوا بالأسباب .

‏قال صاحب لطائف المنن : ‏(( اعلم أن الدليل إنما نصب لمن يطلب الحق لا لمن يشهده  لأن الشاهد غني بوضوح الشهود عن أن يحتاج إلى دليل )).

‏ولا يمكن للمخلوق أن يكون دليلاً على الخالق ، ولا يجوز أن يستدل بالأكوان على المكون ، وإنما يستدل بالمكون على الأكوان ، لأن المكون هو الغني بذاته ، وأهل المجاهدات يتوصلون بعباداتهم إلى الله ، وأهل العناية يوجههم الله إليه وتشرق قلوبهم بذلك ، ومن يعتمد في معرفته على المجاهدات فإنه عبد لتلك المجاهدات لحاجته إليها .

‏وهذا ما أكده ابن عطاء الله في حكمته اللاحقة : (( اهتدى الراحلون إليه بأنوار التوجه ، والواصلون لهم أنوار المواجهة ، فالأولون للأنوار ، وهؤلاء الأنوار لهم ، لأنهم لله لا لشيء دونه )) .

الحكمة الثا لثة عشرة : (( لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك ، فكيف يرفع غيره ما كان له واضعاً  ، من لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه فكيف يستطيع أن يكون لها عن غيره رافعاً )).

‏وهذه الحكمة تفيد أن الله تعالى هو الغني وهو القادر والمدبر ، وأنه هو الذي أورد عليك الحاجة ، ويستحيل على غيره أن يرفع عنك ما وضعه الله ، ولا يجوز للعبد أن يطلب حاجته من غير الله ، فمن وضع آماله في غير الله أذله الله وأبعده عنه وحجبه عن معرفته ، لأن العبد يجب عليه أن يحسن ظنه بالله تعالى لأن الله تعالى عود العبد على الإحسان إليه ، ومن علائم ذلك أن يطمئن قلبه لحكم الله وقدره ، لأن الله تعالى لا يصدر منه إلا ما هو جميل ورحيم ، وعندما يحسن العبد ظنه بالله تعالى لسابق إحسانه إليه فإن الله تعالى ‏يتولاه بفضله ويحيطه بعنايته ورعايته وجوده(14).

‏الحكمة الرابعة عشرة : (( من علامات موت القلب عدم الحزن على ما فاتك من الموافقات وترك الندم على ما فعلته من الزلات )) .

‏القلب عندما يموت لا يحس بما يرد عليه من الآلام والأحزان الناتجة عن المعاصي والزلات ، والقلب الحي يتألم ويندم ، ويفرح ويبتهج ، فإذا وفق الله العبد للطاعات فإنه يفرح لأن ذلك دليل على الإيمان فإذا لم يشعر بالفرحة فهذا دليل على موت القلب .

‏الحكمة الخا مسة عشرة : (( لا يعظم الذنب عندك عظمة تصدك عن حسن الظن بالله ، فإن من عرف ربه ، استصغر في جنب كرمه ذنبه ، لا صغيرة إذا قابلك عدله ، ولا كبيرة إذا واجهك فضله )) .

‏وهذه الحكمة تفتح باب الرجاء للغافلين والمخطئين ، فالذنب مهما عظم لا يجوز أن يبعدك عن حسن الظن بالله ، وهذا الذنب إما أن تراه عظيماً فيدفعك ذلك إلى التوبة ، وإما أن تراه عظيماً فيدفعك ذلك إلى اليأس والقنوط .

‏ومن عرف ربه بفضله ومنته وإحسانه استصغر ما ارتكبه من ذنوب بشرط ألا يدفعه ذلك إلى التساهل واستسهال الذنوب .

 

انتهى من كتاب الفكر الصوفي تأليف الدكتور محمد فاروق النبهان

 

الهامش :

 

‏( 1 ‏) انظر : شرح الحكم للشيخ زروق ، ص ا 3 ‏.

( 2 ‏) سورة الأنعام الآية : 91 ‏.

‏( 3 ‏) انظر : شرح الحكم للشيخ زروق  ص 32 ‏.

( 4 ‏) انظر : شرح الرندي على الحكم ، ص 4 ‏. 

( 5 ‏) ‏انظر : شرح الرندي على الحكم ، ص 5 ‏.

( 7 ‏) انظر : التنوير  ص 3 ‏.

‏( 8 ‏) انظر : المصدر السابق نفسه ، ص ا ا .

 ( 9 ‏) انظر : المصدر السابق نفسه .

‏( 10 ) انظر : شرح الرندي على الحكم ص8

‏( ا1 ) انظر : منازل السائرين إلى الحق المبين لأبي إسماعيل الهروي المتوفى ( 481 هــ) : ا ا 83 ‏ا _ 81 ‏ا » طبعة دار التركي للنشر .

‏( 12 ) انظر : شرح الرندي على الحكم ، ص 0 ‏ا

(13) انظر : شرح الرندي على الحكم ص 12

(14) انظر : شرح زروق على الحكم ، ص 110

( الزيارات : 4٬860 )

One thought on “مختارات من الحكم العطائية وبعض معانيها (1)

  1. حكم ابن عطاء الله
    ما شاء الله ما شاء الله
    أنعم بها و أكرم، حياها الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *