Untitled

تزكية النفوس:

والنفس بعد تزكيتها يمكن أن تكون ممدوحة ومقربة إلى الله ومخاطبة، قال الله تعالى: {{ع94س98ش72ن1/س98ش82ن55} [الفجر: 27 ـ 28] ويمكن أن تكون أمَّارة بالسوء قبل تزكيتها، ولهذا لابد فيها من التزكية لكي تنتقل من الأمَّارة بالسوء إلى النفس اللوَّامة والمُلْهَمَة والمطمئنة، والراضية والمرضية إلى أن تبلغ درجة الكمال.

كان الشيخ يحذِّر من النفس الأمَّارة بالسوء، لأنها مصدر الرذائل والتي تقود صاحبها إلى الشهوات المحرَّمة، فإذا لم تُلجَم بالمجاهدة ويُكْبَح جماحها فمن المؤكد أنَّ صاحبها سينزلق في مهاوي الشهوات، والغفلة تشجع الإنسان على الاستجابة لداعي الشهوات والملذات الدنيوية التي تنافي الكمال.

ولا يمكن للنفس أن تأخذ بالفضائل إلا بأمرين:

أولهما:

أن ترى الجمال في الفضيلة وأن تترسخ هذه الرؤية عن طريق العقل، فمن رأى في الصدق جمالاً وفي الكذب قبحاً فسرعان ما يتعلق بذلك الجمال ويترك ذلك القبح، قناعة منه بجمالية ذلك الوصف وقبح عكسه، وعندئذ ترتبط الفضائل بسلوكيات الكمال ولا تصبح مجرد فضائل متكلفة، فالتكلف في الفضائل يضعفها ولا يجد اللذة فيها، فإن رأى الجمال في الفضائل أحبها واشتقاق إليها وتعلق بها، شوقاً إلى الكمال، فالكمال محبوب بالفطرة، والقبح مرفوض بالفطرة، فالإنسان يكره القبيح لقبحه.

ثانيهما:

أن يُعَوِّدَ نفسه على حب الفضيلة لارتباطها بالجمال والكمال، وفي الوقت ذاته أن يُعَوِّدَ نفسه على بغض الرذائل لارتباطها بالقبح، فالاعتياد وهو حمل النفس على الشيء يولِّد في نفسه حب الفضائل، فلا يجد تكلفاً في الأخذ بها والتخلق بمقتضاها.

والغاية من تزكية النفس التوصل إلى حسن الخُلق، وقد وصف الله تعالى نبيَه محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه على خلق عظيم، وحسن الخلق أن يلتزم الإنسان بالفضائل، والدين هو حسن الخلق، وما لا خلق له فلا دين له، وجاءت الأحاديث الكثيرة بالدعوة إلى حسن الخلق وأفضل المؤمنين أحسنهم خلقاً، وأحب الناس إلى رسول الله وأقربهم منه مجلساً يوم القيامة أحاسنهم أخلاقاً، ويتمثل حسن الخلق في بسط الوجه وكف الأذى عن الناس وعدم المخاصة واجتناب المحارم.

والخلق هيئة في النفس راسخة تصدر الأفعال عنها بسهولة وتلقائية وعفوية من غير تكلف ولا روية، فإن صدرت الأفعال الحسنة عن النفس فهذا حسن الخلق، وإن صدرت الأفعال القبيحة عن النفس فهذا دليل على سوء الخلق، فإن تكلفت النفس في صدور الفعل الحسن فلا يسمى خلقاً، لوجود التكلف، ومن شروط الخلق أن يكون راسخاً في النفس، فمن تكلف فعل السخاء فليس سخياً، ومن تكلف فعل الشجاعة، فليس شجاعاً، لانتفاء صفة الرسوخ في هذا الفعل، ومن لم يستطع القيام بفعل الشجاعة أو السخاء لأسباب خارجة عن إرادته فلا تنتفي الصفة فيه، لأنَّ الخلق مرتبط بهيئة النفس وليس مرتبطاً بالفعل بحد ذاته، ولو فعل السخاء مع عدم رسوخ هذه الصفة فيه فليس سخياً، فربما يفعل ذلك عن تكلف ورياء.

فالخلق هو ما تميل إليه النفس بطريقة فطرية وما هي قادرة عليه، وليس ما تفعله، فالفعل قد يرتبط بأسباب خارجية، أما الميل فهو الذي يعبر عن رسوخ الصفة في النفس.

وهنا تبرز مهمة المربي والمرشد والمؤدب، فهو الذي يقوم بمهمة التربية والتأديب، لترسيخ الصفات الحسنة، فإذا رأى صفة في النفس قبيحة كالبخل والجبن والوقاحة والتكبر والحقد والحسد والغرور والرياء والمكر والخداع والحمق فإن مهمته أن يقوم بالتأديب الذي يضعف الصفات القبيحة وينمي الصفات الجميلة، وذلك عن طريق بيان الجمال في الصفات الحسنة والقبح في الصفات السيئة، والنفس بطبيعة تكوينها تميل إلى الجمال والكمال بحسب الفطرة الأصلية وتنفر من القبح في الصفات الخلقية لابتعاد هذه الصفات عن الإعتدال الذي يمثل الفضائل، فصحة النفوس تتمثل في اعتدال أمزجتها وتعلقها بالصفات الجميلة كالشخص الذي يحب الطعام الطيب النظيف ويكره الطعام المر التي تظهر عليه آثار القذارة.

مجاهدة النفس:

ومجاهة النفس هي مقاومة الغرائز الشهوانية والأهواء والعادات السيئة في السلوك والتي يدفع إليها الاعتياد عليها والاستمتاع بها، إلى أن تصبح صفة راسخة في النفس، وتكون هي الحجاب الذي يحجب النفوس عن النور الذي يشرق في النفوس الصافية، والمجاهدة هي حمل النفس على فعل الصفات المحمودة، ومقاومة الصفات المذمومة، ولابد في المجاهدة من المشقة، والمجاهدة مشتقة من الجهد، ولابد من بذل الجهد لحمل النفس على ترك ما تستلذه من الشهوات، فالشهوات مستلذة في الطبع، وتحبها النفس وتميل إليها، لأنها ممنوعة أولاً وكل ممنوع مرغوب فيه، ولأن النفوس تميل بحكم الغريزة إلى الشهوات ثانياً، وأحياناً تعتادها النفس بسبب قرناء السوء الذين يزينون للنفس تلك الملذات ويشجعونه عليها.

كان الشيخ رحمه الله  واسع المعرفة بطرق المجاهدة ومسالكها وقد عاش هذه المجاهدة لمدة عشر سنوات، قضاها في رياضات نفسية متواصلة، كان يتحدث عن مجاهداته لنفسه في كل ما كانت نفسه تحبه وتشتاق إليه وتطلبه، في الطعام واللباس وفي التحكم في غرائزه وفي حمل نفسه على ترك الصفات المذمومة والتحلي بالصفات المحمودة، وأهمها الزهد والتواضع والإيثار والسخاء والاحتمال والحلم وكظم الغيظ والقناعة والورع والسماحة والالتزام بالآداب الإسلامية في العبادات والمعاملات والعادات اليومية في الطعام والشراب وأدب الحديث وأدب المجالس وأدب الصداقة.

وقد اشتهر الشيخ بخصاله الرفيعة وأدبه المتميز واحترامه لأصدقائه وأصحابه، ومساعدته للضعفاء والفقراء، وسعة حلمه ونزاهته وصدقه وإخلاصه، وترفعه عن الصغائر وعلو همته وحسن ظنه بالناس وإعراضه عن الدنيا وشموخ شخصيته ودفاعه عن الحق، كان يحب في الله ويبغض في الله، ولا يغضب إلا إذا انتهكت حقوق الله، ولا حدود لرحمته بالمستضعفين.

عندما يتحدث عن المجاهدات والرياضات النفسية فكأنه يصف تجربته الذاتية، كان يعرف دخائل النفس وأسرارها، والخواطر الدقيقة والمزالق التي تعتري طريق السالكين، وإذا وجد مرشداً تصدى للإرشاد من غير معرفة بخفايا المجاهدة ومسالكها نبَّه إلى خطورة ذلك، فالمجاهدة لابد لها من معرفة بكل المسالك والمزالق الصعبة.

وأهم ما يجب أن يأخذ به المرشد في نظر الشيخ عند تربيته لإخوانه أن يكون قدوة لهم فيما يدعوهم إليه، فلا يدعوهم إلى السخاء وهو بخيل، ولا يدعوهم إلى الشجاعة وهو جبان، ولا يحضُّهم على الصدق والنزاهة والعفة وهو غير ذلك، وأن يعلمهم بحاله لا بمقاله، وبصدقه فيما يقول، وأن يعف عن أموالهم، وأن يكون قريباً منهم، لا يتعالى عليهم بترفع ومكانة، وأن يساوي بينهم في المنزلة، وأن يُنْزِلَ الناس منازلهم كما هم يعتقدون في أنفسهم، لا كما يراه الآخرون، وأن يراعي ما هم فيه من ضعف وتقصير وكسل فلا يكلفهم ما لا يطيقون، وأن يتعرف على أمراضهم ومواطن علتهم فلا يلزمهم برياضة واحدة فهم مختلفون في أشخاصهم وقدراتهم وأمزجتهم واستعدادتهم وفي مدى صدقهم، وأن يكلفهم بما هو واجب عليهم من معرفة مبادىء الحلال والحرام، وأن يساعدهم على التغلب على رعونات النفس التي تحجبهم عن الحق.

ويتميز منهج الشيخ في تزكية النفوس بعدم التزام منهج الصوفية في إلزام إخوانه بسلوكيات المجاهدة، وأهمها إخماد الغرائز الفطرية بما يعتادها من سلوكيات القهر لتلك الغرائز، فلم يطلب ذلك أمراً، كان منهج البيان والتوضيح والحض على تزكية النفس وبيان سبل المجاهدة، ثم يترك لإخوانه حرية الاختيار من غير إلزام أو إجبار، على مجاهدة أو أوراد أو سلوكيات.

وإذا سئل أجاب، وإذا استنصح نصح.

لم أجده يوماً يطلب من أحد إخوانه أن يذل نفسه للتغلب على تطلع النفس للرياسة والجاه، أو يطلب من صاحب مال أن يوزع أمواله أو يطلب من طالب علم أن ينقطع عن الدراسة أو يطلب من تاجر أن يتوقف عن تجارته، ولم يكن هذا منهجه قط، كان يكتفي منهم ألاّ يتعلق قلبهم بما اتجهت إليه نفوسهم، ويقول لهم إن أحسنتم النية وأتقنتم عملكم كان عملكم في سبيل الله وأنتم مأجورون، لأنكم قمتم بما أمركم الله به من العمل والدراسة والكسب، ولا أجر لمن قعد عن العمل ولو تفرغ للعبادة.

( الزيارات : 768 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *